vendredi 1 novembre 2013

هل اهتدى المثقف العربي إلى حل للأزمة العربية الراهنة؟ نقل مواطن العالم د. محمد كشكار

هل اهتدى المثقف العربي إلى حل للأزمة العربية الراهنة؟ نقل مواطن العالم د. محمد كشكار

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 12 أفريل 2012.

المصدر:
كتاب "مخاضات الحداثة التنويرية. القطيعة الإبستمولوجية في الفكر و الحياة."، هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة و النشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008، 391 صفحة. استعرته من المكتبة العمومية بحمام الشط. كتاب من أفضل الكتب التي قرأتها في السنوات الأخيرة و أعتبر كاتبه من أعلم و أنضج الفلاسفة التنويريين العرب، و أعُدّه من أهم رواد النهضة العربية الإسلامية المعاصرة.

تنبيه ضروري:
ما أنشره في هذه السلسلة من نقل و تعليق، تحت العنوان المشترك "فكرة قرأتها في كتاب"، لا يمثل بالضرورة موقفي الفكري بل هو عبارة عن مذكّرة خاصة، أعتمدها شخصيا عند الرجوع إلى الكتاب الأصلي. لا تغني هذه المذكرة عن قراءة الكتاب كاملا. يجب إذن توخّي الحذر الشديد في التعامل مع ما ورد فيها لأن لا تصل إليكم فكرة الكاتب ناقصة أو مشوّهة. أنشر هذه السلسلة مساهمة مني في رد الاعتبار لفن ثامن في طريق الانقراض، اسمه "مطالعة الكتب" و فكرة الكتاب تلزم الكاتب و لا تلزم الناقل دون أن نتغافل عن كون الأفكار هي وقائع فكرية تستقل عن قائلها.

تمهيد:
إن اجتهادات المثقف العربي طيلة القرن الماضي لإيجاد البديل للأزمة العربية الخانقة، لم تأت بالحل كما توهم بعض المثقفين التقدميين "جدا" كالماركسيين و القوميين و الليبراليين العرب غير الملمّين عادة بالتراث العربي الإسلامي، أو كما أمِلَ بعض الناشطين السياسيين منهم. و إنما البراديغم في حد ذاته (البراديغم لدى توماس كوهان، يشبه إلى حد ما مصطلح الإبستميه لدى فوكو.  أي تراث البحث السائد أو النظرية العلمية السائدة في بيئة علمية ما و زمن ما) الذي سجن فيه المثقفون العرب أنفسهم هو العلامة التي لا تخطئ على الأزمة، على حدة الأزمة. إن مقالات أو مقولات المثقف العربي المعاصر ليست العلاج أو الدواء و إنما هي أعراض المرض.

نص هاشم صالح:
صفحة 247:
لم يترك المثقف العربي طريقا إلا وجرّبه: من الإصلاحية السلفية إلى الليبرالية إلى الوجودية إلى الماركسية إلى البنيوية إلى القومية الرومانطيقية إلى التراثية التقليدية أو التراثية الثورية، و لكن المَخرج المناسب لا يزال عَصِيّا على المنال حتى الآن. و لا تزال المعضلة الرهيبة صامدة كتلك الصخرة التي تحدث عنها شاعرنا العربي القديم:
كناطح صخرة يوما ليُوهنها..................فلم يُضِرها و أوهى قرنه الوَعِلُ.

صفحة 248:
كلنا يعرف أن الخط الليبرالي قد سيطر على نخبة المثقفين في المغرب و المشرق منذ أواخر القرن التاسع عشر و حتى منتصف هذا القرن. و كان يبدو بمثابة المَنفذ الصحيح إلى الحل. و قد أعطى بالفعل عدة إسهامات جادة من خلال أعمال الطاهر الحداد و أحمد أمين و عباس محمود العقاد و طه حسين... الخ. و لكنه هُزِم فيما بعد على يد الخط الصاعد في الخمسينات: خط القومية و الاشتراكية الذي استطاع أن يواكب الثورة السياسية التحررية، و إن لم يستطع تقديم أعمال فكرية كبيرة كتلك التي قدمها سلفه. ثم جاء الخط الماركسي في السبعينات لكي يبدو أنه الحل و الخلاص الأكيد. كيف لا و هو منهج علمي ذو حتمية لا تقل صرامة عن حتمية القوانين الفيزيائية و الكيميائية؟ ثم تبخّرت الماركسية عن سراب أو شيء يشبه السراب. و جاءت البنيوية بعدئذ لكي توهمنا بأننا قبضنا على الحل و الوصفة الجاهزة التي ستحل كل الأمور بضربة عصا سحرية. ثم خاب الأمل بها أيضا في السنوات الأخيرة.
و أخيرا جاء الحل الإسلامي و الثورة الإسلامية، و كانت النتيجة التي نعرفها، و التي لا تزال مُجرياتها تتفاعل تحت أعيننا حتى الآن.

كل الخطوط جُرّبت، و كل الدروب طُرقت، و لكن الحل بقي مستعصيا، و الداء متأصّلا. كل الدروب جُرّبت إذن إلا درب واحد، لم يطرقه المفكرون إلا نادرا، و من بعيد البعيد، و بالشكل الذي لم يكن ناجعا حتى الآن. و لا عجب في ذلك، فهو الدرب الأبعد لأنه الأقرب، قرب فوهة القنينة من ذبابة "فتغنشتين". فهو لشدة قربه منا و ارتطامنا به يوميا لا نكاد نراه. إنه كمن يبحث عن قلم أو ورقة في كل مكان و الورقة أمامه على الطاولة مباشرة و لكنه لا يراها.... كان من السهل على المثقف العربي في بدايات هذا القرن (القرن العشرون) أو في منتصفه أن يقول: أنا ليبرالي مستنير، أنا خِرِّيج جامعات أكسفورد و السوربون و برلين، أنا متحرّر و لا علاقة لي بهذا التراث المتخلف و الجامد الذي يشكل عبئا عليَّ و وصمة عار أحاول التهرب منها.

... أما المثقف القومي أو القومي الاشتراكي الذي ظهر بعد الخمسينات من القرن المنصرم فكان أقل تدرّبا على مناهج البحث و التفكير القادمة من أوروبا. و لكنه كان أكثر تحمسا للسياسة و الفكرة القومية الصاعدة بكل طيبة و عفوية رومنطيقية. و أعتقد أنه قد اكتشف أخيرا الطريق إلى النهضة و الخلاص المنشود: إنه الخط القومي. و لا ريب أن اكتشافه كان صحيحا، فلا شيء أغلى على العرب من وحدة العرب ففيها عزهم و منعتهم. و لكنه اعتقد - و هنا وجه التسرع و الخطأ - أنه يكفي أن نمزج بين التراث و الحداثة، أو بين الأصالة و المعاصرة بتلفيقة معيّنة و بطريقة معيّنة لكي نتوصّل إلى الجواب. يكفي أن نبلوِر ذلك في عدة شعارات مبسطة و انفعالية لكي نستطيع تجييش الجماهير و دفعها نحو تحقيق الهدف الأكبر. و لكن هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 و الهزائم التي تلتها جاءت لكي تضع حدا لهذا الحلم الكبير و الجميل، أو لكي تعرقل تحقيقه، مرحليا على الأقل. فالأمور أشد صعوبة مما توقعنا، و الطريق أكثر طولا و تعرّجا و التواء. و كانت صدمة مفجعة أصابت النرجسية العربية في الصميم. فجاءت التيارات الماركسية كعلاج يَجُبّ ما قبله. ذلك أن الماركسية - أو ما فُهم منها و ما تُرجم و نُقل - قدّمت نفسها على أساس أنها نظرية علمية لا تُناقش و لا تُرَد. و هل يُناقش العلم و قوانينه الحتمية؟ و أفرزت في الساحة الأدبية مذهبا نقديا مزعجا، باترا و مبتورا، يُدعى بالواقعية الاشتراكية. و راحت تسيطر على بعض الساحات و الجامعات على هيئة شعارات سريعة ومبتسرة. و جذبت الكثير من الشباب المتحمسين، و كانت النتيجة المعروفة. فالماركسي العربي هو أيضا رجل تقدمي مُفرغ من كل ما هو ماضوي أو تراثي. إنه رجل تقدمي لا يعبأ بمشاكل التراث و لا تهمه دراسة الإسلام (أو المسيحية العربية الشرقية مثلا). و السبب أن هذه الأشياء عفا عليها الزمن، أشياء مضت و انقضت، أشياء تخص الرجعيين فقط. و بالتالي فلا داعي للخوض فيها أو الاهتمام بها، اللهم من خلال "المادية الديالكتية" و "المادية التاريخية" و هكذا راح يُدَبّج الكتب التي تتحدث عن كل شيء ما عدا التراث، و تُسقط ما ليس فيه عليه. و في حين أن المثقف الليبرالي كان يدرس أحيانا بعض هذه الجوانب ببعض الاعتدال و الاستنارة، فإن المثقف الماركسي أراد القفز عليها و اعتقد بإمكانية قفز الجماهير المسلمة على تاريخها و نسيانه تماما بمجرد أن تعتنق النظرية العلمية التي فسّرت سر التاريخ و لغز الكون!
مرة أخرى نلاحظ أن القفز على المشكلة كان هو الحل المقترح، أو قُل الانحراف عنها و المواربة بدلا من مواجهتها وجها بوجه، و عينا بعين.

ثم جاءت الحركات "الإسلامية" الحالية و أعادت الأمور إلى نصابها. لا أقصد بالطبع إنها قد وجدت الحل. و إنما أقصد أنها قد أجبرت بمجرد وجودها الضخم و الكثيف في الشارع كل هؤلاء المثقفين التقدميين من دون تقدم، و المتحررين من دون تحرر، على فهم أن حل المشكلة لا يكون بالقفز عليها أو بالتعامي عنها، ثم لفتت انتباههم إلى أن المشكلة ليست حيث يظنون و يتوهمون و يسرحون، و إنما هي في مكان آخر مختلف تماما، إنها لا تزال رازحة هنا، حيث هي. إنها في الصميم منا، إنها مشكلة العلاقة، الصحيحة أو المَرَضِية، مع الذات التاريخية العربية - الإسلامية. و التحرر - إذا ما حصل يوما ما - سوف يكون من داخل هذا التراث في صراع جدلي و خلاق معه، و ليس من خارجه.

كفانا إذن جريا وراء الأوهام و بقع السراب في الغرب أو في الشرق، كفانا إذن دَفْنًا للرؤوس في الرمال و تعاميا عن واقع الحال و التاريخ. و هذا الحل التحريري لن يتم دفعة واحدة أو بضربة عصا سحرية، و إنما درجة درجة، و مرحلة فمرحلة، و بعد يأس مرير و كفاح طويل (= الجهاد الأكبر). ذلك أن أي تحرر آخر للعرب و المسلمين سوف يكون هشا و وهميا، و قابلا للانتكاسة عند أول صدمة موجعة.

صفحة 251:
شكرا للحركات الإسلامية (أو الإسلاموية) التي أجبرتنا على العودة إلى الذات، على طرح المشكلة الحقيقية بدلا من التهرب منها. ثم أجبرت هؤلاء المثقفين المتحررين "جدا"، و التقدميين "جدا"، و الحداثيون "جدا جدا" على أن يتنبهوا إلى أنهم في واد و الواقع في واد آخر، و أنهم غير ما يدّعون. فالتاريخ يعلمنا و المنهجية التاريخية تعلمنا أنه لا يمكن لأي مفكر مهما علا شأنه و كبرت عبقريته أن يتجاوز ما لا يمكن تجاوزه، أي الذات الجماعية (La conscience générale) التي تحيط به، و اللحظة التاريخية التي هو مشروط بها، شاء ذلك أم أبى.

إمضائي المختصر:
لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسان المجتمع، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه من أجل بناء أفراده الذاتي لتصورات علمية مكان تصوراتهم غير العلمية و على كل سلوك غير حضاري نرد بسلوك حضاري و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
نحن العربَ، مسلمي و مسيحيي القرن الحادي و العشرين، نتموضع حضاريا في الوقت الراهن في المنعطف التاريخي الفاصل بين القرن الثامن عشر و العصور الوسطى الذي تموضع فيه الأوروبيون قديما. هذه حقيقة أصبحت شبه متأكد منها الآن بعد حوالي ثلاثين سنة من التيه و الدوران و الضياع الأيديولوجي، قضيتها في شك دائم و يقين مؤقت، قضيتها في قراءات متعددة و متنوعة باللغة الفرنسية، جلها ماركسي و بعضها علمي بيولوجي و وجودي و قومي و إسلامي. لذلك احتطت اليوم لنفسي و ارتبطت منذ سنوات بمشروع النهضة العربية الإسلامية كتابة و نشرا، ثم نقلا و تعليقا على رواد النهضة الفكرية العربية الإسلامية من أمثال المفكرين العرب المسلمين النهضويين التنويريين المعاصرين: الطاهر الحداد و طه حسين و محمد الغزالي (بتحفظ لأنه قد يكون أجاز قتل فرج فودة) و جمال البنّا و نصر حامد أبو زيد و علي عبد الرازق و  صادق جلال العظم و هاشم صالح و عبد الله العروي و محمد أركون و حسين مروة و علي حرب و محمد الشريف الفرجاني و عبد المجيد الشرفي و هشام جعيط و محمد الطالبي و غيرهم كثيرون. و كان ذلك لي عزاء من غربتين أو عدة غروبات دفعة واحدة: غربة عن اللغة العربية، غربة عن الأرض و التاريخ، غربة عن التراث العربي الإسلامي، غربة عن المجتمع التونسي البربري الإسلامي العربي الأممي، غربة عن الأصالة و الذات - غربة الغربات.
"و إذا فهمت نفسك فكأنك فهمت الناس جميعا". هاشم صالح.
"الفلسفة هي القبض على الواقع من خلال الفكر". هيغل.
"الذهن غير المتقلّب غير حرّ".
قال الرسول محمد، صلى الله عليه و سلم: "مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدَهُما".
قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، عليكم أنفسكم لا يضرّكم مَن ظلّ إذا اهتديتم إلى الله".
الشك طريق إلى مزيد من الشك (في العلم بالطبع و ليس في الدين، فالدين بطبيعته لا يتحمل الشك و هو يقين من أوله إلى آخره). مواطن العالم د. م. ك.
و كما قال هاشم صالح: "ليس بالماديات وحدها يحيا الإنسان، على عكس ما علّمتنا تلك الوضعية الاختزالية (Le positivisme réducteur)، أو الماركسوية الفجّة و الكسيحة".




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire