mercredi 8 juin 2022

سأروي لكم سبع طُرف واقعية حول التفقد في تونس:

 

الطرفة الأولى: جاء متفقد لزيارة الأستاذ عمار، أستاذ علوم الحياة والأرض، فلم يجده لأنه متغيب لسبب نجهله فتفقد مختار أستاذ العلوم الجديد والمتواجد بنفس المعهد. تم كل شيء بخير ونجح الدرس ورجع المتفقد إلى قواعده سالما. بقي مختار أسابيع ينتظر التقرير والفرحة تغمره مسبقا. جاء التقرير مذيّلا بعدد 14 على 20 لكنه باسم عمار الغائب وليس باسم مختار الحاضر يوم التفقد. شكى مختار مرارا وتكرارا ورغم ذلك لم يتغير التقرير وبقي إلى يوم الناس هذا باسم عمار، هنيئا لعمار بعدد مختار: منتهى الفوضي (وكما يقال شاشية هذا على رأس هذا).


الطرفة الثانية: حدث أن زارني في توزر متفقد في إطار الترقية المهنية. كان الدرس عاديا حتى وصلنا إلى تجربة هضم النشا داخل الأنبوب وتحويله إلى سكر العنب أو الجليكوز تحت تأثير اللعاب. فشلت التجربة لعدة أسباب كيميائية لا ذنب لي في فشلها. امتعض سيدنا وقام وغادر القاعة مسرعا وأمرني بالالتحاق به فورا. دون تعليق.


الطرفة الثالثة: حدثت لي الحادثة الطريفة التالية في يوم تكوين أنجزتُه في مركز التكوين ببنعروس لفائدة متفقدي الابتدائي: كنتُ اشرح لهم أسباب الحركات التنفسية عند الإنسان وقلتُ: يأتي التلميذ إلى الإعدادي وهو يعتقد جازما أن الهواء يدخل إلى الرئتين وينفخهما فيرتفع الصدر. هذا جواب غير علمي والجواب الصّحيح هو الآتي: تتقلّص عضلات الصدر وعضلة الحجاب الحاجز فتتبعها الرئتان الملتصقتان بهما فيزيد حجم القفص الصدري مما يخلق فراغا في الداخل، فراغٌ يجذب الهواء من الخارج عن طريق الفم والأنف. دخول الهواء إذن هو نتيجة وليس سببا في حركات التنفّس. يتشبث التلميذ صاحب التصورات غير العلمية ويدافع عن نفسه بقوله أن المعلّم في الابتدائي لم يدرّسه المعلومة الصّحيحة وهذا مخالف للواقع لأن بعض التلامذة يحتفظون بهذا التصوّر غير العلمي رغم تصحيحه من قبل المعلم أو الأستاذ ويعيدون استعمال هذا التصور في الثانوي و في العالي رغم بطلانه. رويتُ للمتفقدين المشاركين ما وقع لي عندما كنتُ أشرح هذا الموضوع (حركات التنفس عند الإنسان) في معهد برج السدرية بعد نقلتي من إعدادية حمام الشط: نهض تلميذ مدافعا عن تصوراته غير العلمية و قال لي: أستاذ الإعدادي هو الذي علمنا خطأ. من سوء حظ هذا التلميذ أنني ما زلت أذكره من بين تلامذتي في الإعدادية و أنا نفسي الذي درسه حركات التنفس بطريقة صحيحة طبعا. ضحكتُ وقلت في قرار نفسي، يظلم أستاذ الثانوي المعلم و يظلم الأستاذ الجامعي أستاذ الثانوي بتحميل كل طرف الطرف الآخر وزر تصورات التلاميذ غير العلمية التي لا تريد أن تزول بسهولة من أذهانهم! النكتة هي التالية: في آخر الحصة التكوينية جاءني متفقد قديم و قال لي: قل ما تريد يا أستاذ فلن أقتنع بشرحك رغم احترامي لشخصك ولن أغير تصوري غير العلمي حول حركات التنفس وأنا على قاب قوسين من التقاعد المبكر وسأواصل الاعتقاد بأن الهواء يدخل وينفخ الرئتين فيرتفع القفص الصدري. أجبته بالجملة المفيدة والمحببة عندي: أنا أتيتُ هنا، لا لإقناعكم بالبراهين أو الوقائع، بل بكل تواضع لأعرض عليكم وجهة نظر أخرى.

 

الطرفة الرابعة: روتْ لي مرة أستاذة متربصة في علوم الحياة والأرض ما يلي: كنت أخاف المتفقد والمدير، تصوّر يا زميلي العزيز، لقد هجم علىّ الاثنان في وقت واحد وعندما فتحا الباب دون استئذان طبعا، من هول ما رأيت تراجعتُ إلى الوراء حتى انكسر كعب حذائي العالي الأيسر ومن كثرة الرهبة والخوف بقيت أدرس وأنا محافظة على توازني طيلة ساعتين وكلما رأيتهما يتهامسان و يبتسمان، أقول في قرارة نفسي ضاع مرتبي وقد يضيع معه خطيبي الطامع في مرتبي.


الطرفة الخامسة: كنا في مؤتمر علمي حول تعلمية علوم الحياة والأرض في سوسة وكنت أترأس الجلسة وكلما صعدتُ إلى منصة الرئاسة كنت أستغل الفرصة الفرصة لنقد المتفقدين المتسلطين. لكن قبل كل هجوم أعتذر من زملائي المتفقدين و زميلاتي المتفقدات (
Les inspecteurs didacticiens et les inspectrices didacticiennes) الحاضرين والحاضرات، كل باسمه أو اسمها، وأستثنيهم أو أستثنيهن من النقد إلا متفقدة واحدة لم أسمّها ضمن المستثنيات وهي صديقة لي ورفيقة مرحلة ثالثة، كانت صديقتي صغيرة السن والجسم ورقيقة الملامح وخفيفة اللباس يستر سفورها خمار العلم والصدق والعمل. جاءتني بعد الجلسة ولامتني بلطف وابتسامة على عدم ذكر اسمها في كل اعتذار أوجهه لزملائها المتفقدين وقالت: أوَ لست متفقدة؟ قلت: بلى، لكنك جميلة وترقصين جيدا وأنا لم أشاهد في حياتي متفقدا يرقص! فأنت في مخيلتي لا تنطبق عليك مواصفات المتفقد ولو أصبحتُ وزيرا لفصلتك عن العمل كي لا تمسّي من هيبة المتفقدين ووقارِهم.


الطرفة السادسة: ذهبتُ يوما  إلى ساحة محمد علي فالتقيتُ صدفة بمجموعة من المعلمين النقابيين وبما أنني لا أومن بالشعار الزائف والمحنّط القائل أن "لكل مقام مقال" بل أرى أن كل مقال يصلح في كل مقام على شرط أن يكون علميا يستفيد منه الناس. ولا أعتقد أيضا في بعض مقولات اليسار حتى ولو كنت منهم. لا أستوعب ولا أفهم تعاملهم الدائم مع التناقضات المجتمعية أو المادية باعتماد المقاربة التحليلية (
Approche analytique) وإهمال أو تجاهل المقاربة الشاملة (Approche systémique) .
يرتبون هذه التناقضات عادة ترتيبا ميكانيكيا حسب الأولوية، من تناقض رئيسي إلى تناقض ثانوي. أنا أعتقد جازما أن كل التناقضات تتمتع بنفس القدر من الأهمية ولا ولن أرتبها ميكانيكيا، لا حسب الزمن ولا حسب الوزن والأهمية بل أتعاطى معها حسب تفاعلها الجدلي فيما بينها فقد تتطور التناقضات الثانوية إلى رئيسية في زمن آخر وفي وضعية أخرى وقد تبدو الرئيسية ثانوية من وجهة نظر فكرية معاكسة. أثناء التفاعل الجدلي أظل أنتظر النتيجة غير المعروفة مسبقا التي ستنبثق من هذا التفاعل المادي الجدلي بعقلية الباحث العلمي لا بعقلية الباحث الحامل لإيديولوجية معينة أو الباحث الحامل لفكرة مسبقة والذي يهدف إلى تبريرها وإثبات صحتها حتى ولو استوجب الأمر صُنع نتائج بحثه بنفسه قبل إجراء تجربته بهدف توظيفها خدمة لإيديولوجيته الساكنة منذ زمان في باطنه. بعد هذا الهذيان النظري أمرّ لنقل أحداث القصة الواقعية التالية التي سمعتها اليوم بعد ما طرحتُ وجهة نظري حول نظام التفقد البيداغوجي التونسي على مسامع المجموعة المذكورة آنفا. تدور أحداث هذه القصة في أواخر الثمانينات في ولاية من ولايات الشمال الغربي، بطلة القصة معلمة تبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة في ذلك التاريخ (بعد أن استأذنتها في نشر ما روت وأخذت موافقتها شفويا، وخوفا من التتبعات العدلية بتهمة الثلب، طلبت مني عدم ذكر اسمها ولا أسماء من ظلموها ولا أماكن عملهم)، لم يمر على تعيينها سوى ثلاث سنوات، مرسمة بعدد 9 على 20، ناشطة نقابية قاعدية. عقابا لها على نشاطها النقابي، حسب ظنها، جاءها ليتفقدها المدير الجهوي المساعد، المسؤول عن التعليم الابتدائي بالجهة. امسكوا أنفاسكم واربطوا أحزمتكم لأن ما سأرويه عن لسانها قد يفقدكم توازنكم التربوي. زارها متفقد من نوع لا أعرفه، زارها وتفقدها وبعث لها تقريرا بيداغوجيا (ما زال في حوزتها حتى الآن). صحيح أن هذا المسؤول الإداري كان يشتغل متفقدا بيداغوجيا قبل أن يتحول إلى موظف إداري كبير لكن، هل يسمح له القانون بتغيير جبته وصفته كما يشاء ومتى يشاء وهو المؤتمن والساهر على تطبيق القانون في الجهة؟ هل يحق له انتحال صفة المتفقد االبيداغوجي وهذا الأخير متواجد بدائرة التفقد المعنية بشحمه ولحمه؟ أنا أعتبر أن هذا التصرف الصادر عن المدير الجهوي المساعد إقرارا ضمنيا من مسؤول كبير بأن التفقد البيداغوجي سيف يسل فيشهر عند اللزوم لردع المدرسين الناشطين نقابيا وقمعهم! نسي هذا المسؤول الكبير أو تناسى أن الهدف الأساسي والنبيل المرجو من التفقد البيداغوجي هو إرشاد وتوجيه المدرس بيداغوجيا وتربويا حتى يؤدي رسالته التربوية المقدسة على أحسن ما يرام! أثناء النقاش بعد انتهاء الحصة وبحضور مدير المدرسة، طلب المدير الجهوي المساعد من المعلمة أن تقوم وتتمشى أمامه ذهابا وإيابا حتى يقيّم هندامها ولباسها! بعد أسبوع جاء التقرير البيداغوجي لهذا المدير الجهوي المساعد محبطا لآمال وطموحات معلمة شابة ابتعدت عن أهلها في العاصمة لأداء رسالة نبيلة كادت أن تساوي رسالة الأنبياء، جاء وفيه توصية مرفقة بتخفيض للعدد من 9 إلى 4 على 20 مع الملاحظة التالية: "الرجاء إعادة التكوين الجذري لهذه المعلمة". أتساءل أنا هنا وبكل براءة: من أحوج منهما إلى إعادة تكوين جذري، المعلمة أم المدير الجهوي المساعد؟ ردّت المعلمة الشجاعة على هذه الإهانة بتقرير مضاد. بعد هذه الحادثة، زارتها لجنة من ثلاثة متفقدين من العاصمة و أنصفتها بعدد 11 على 20. هذا الإنصاف لم يرضِ سيدنا ومولانا المدير الجهوي المساعد فأصرّ وألحّ على مواصلة إذلال المعلمة وإحباطها وطلب إحالتها على مجلس التأديب متهما إياها بالمس من هيبة الدولة في تقريرها المضاد وكان له ذلك بسلطة "كن فيكون". أتساءل وللمرة الثانية وبكل براءة أيضا: مَن مِن الطرفين في النزاع مسّ بهيبة الدولة؟ قرّر مجلس التأديب الموقر والمستقل نقل المعلمة نقلة وجوبية مع تغيير محل الإقامة ونُفذت العقوبة في شهر ماي من نفس السنة الدراسية فانتقلت مناضلتنا للتدريس بمدرسة ريفية نائية بولاية من ولايات الوسط. دون تعليق. لا تنزعجوا على مصير بطلتنا وزميلتنا المناضلة فهي الآن معلمة تطبيق في العاصمة. أما بطلنا السلبي فلا أشك أن زملاءه قد يكونون كرموه بمناسبة إحالته على التقاعد وقد يكونوا قالوا عنه: خَدَمَ السياسة التربوية للدولة التونسية على أحسن وجه. ولا أشك، لو ما زال حيا يرزق أنه ينعم بتقاعد سعيد في كنف ضميره المرتاح و لو توفي فرحمة الله عليه وأسكنه الله فراديس الجنان وعفا الله عما سلف.


توضيح قد لا يفسد للنقد قضية:

كعادتي دائما وبكل صدق ولطف وتواضع أحوّل كل مقهى أجلس فيه إلى مقهى ثقافي ولا تعنيني التوجهات الفكرية أو الانتماءات السياسية أو الرتب الإدارية لجلسائي وأطرح همومي الفكرية والتربوية بكل شفافية قصد تعريضها للنقد بهدف تهذيبها أو تصحيحها أو تطويرها قبل النشر على النت وبعده. طرحتُ موضوع الطرفة الواقعية رقم 6 فعلق علىّ صديقان حميمان مسؤولان، أحدهما مدير معهد و الآخر مدير في وزارة التربية بالقول التالي: من صلوحيات وزير التربية أن يكلّف المدير الجهوي المساعد المذكور أعلاه بمهمة التفقد البيداغوجي للمعلمة المعنية لأسباب نجهلها خاصة وأن هذا المسؤول الإداري كان يشغل وظيفة متفقد بيداغوجي قبل أن يلتحق بسلك الإداريين. لا يمكن حسب اجتهادهما أن يسلك هذا المدير الجهوي المساعد سلوكا قد يحاسب عليه إداريا وقضائيا خاصة وأنه ترك وراءه دليلا ماديا على تفقده يتمثل في التقرير البيداغوجي الذي أرسله إلى المعلمة عن طريق التسلسل الإداري.


الطرفة السابعة: وهي شهادة ذاتية على العصر: كنت وأنا أستاذ شاب في غار الدماء، كلما علِمتُ بقدوم المتفقد إلى معهدنا ينتابني إسهال فظيع وأذهب عَدْوًا إلى بيت الراحة واليوم (1994) شُفيت من هذا الخوف والحمد لله.

 

للمتفقدين نقابتهم و للأساتذة نقابتهم والاثنتان منضويتان تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل فلماذا لا ينسّقان لحل المشاكل العالقة والطارئة نقابيا بين الشريكين في العملية التربوية؟

 

أنهِي مقالي بطرح السؤال التالي على زملائي المدرسين، إن سمحت الوزارة بذلك: ما هي تصوراتكم حول نظام التفقد وممارسات المتفقد؟ وكباحث علم لن أستنتج شيئا قبل إجراء البحث وأترك نكهة اكتشاف النتيجة لزملائي المتفقدين الأعزاء حتى يتعرفوا على صورتهم الحقيقية في مرآة المدرسين وأتمنى أن تكون صافية وجميلة ويستفيدوا منها في أداء وظيفتهم النبيلة على أحسن وجه. لا تظنوا أنني أكره التفقد والمتفقدين، بل بالعكس، ما تمنيتُ يوما في حياتي أكثر من أمنية ممارسة هذا الدور الابستمولوجي النقدي لما له من إشعاع على أكبر عدد من المدرسين والتلامذة. يكفي المتفقد شرفا علميا أنه يحاول جر المدرس إلى "إدراك عملية الإدراك" في البناء الذاتي للمعرفة لديه ولدى تلامذته.

 

لم أشارك في مناظرة التفقد لأني في بداية حياتي المهنية لم أكن مجازا و في الـ41 من عمري تحصلتُ على الإجازة وتوجهتُ مباشرة للبحث العلمي وإعداد دكتورا في تعلمية البيولوجيا بين جامعة تونس وجامعة كلود برنار بفرنسا، مسيرة علمية أخذتْ من عمري ووقتي سبع سنوات عِجاف ماديا لكنها حُبلى فكريا.

أعتذر لكل المتفقدين المحترمين، وككل مهنة، تضم هيئة المتفقدين الغث والسمين. أؤكد لكم يا سادتي المتفقدين أنني أنطلق من غيرتي على التعليم التونسي المهدد من الداخل والخارج ومن وعي تربوي خالٍ من الخلفيات السياسية والإيديولوجية وليست لي حسابات قديمة أصفيها لأن نظام التفقد أنصفني في الآخر بإسناد العدد 17 على 20 وأنا راضٍ كل الرضا. أحبكم وأعشق مهنتكم وأغبطكم عليها وللمرة الألف أعتذر إن جرحتُ شعوركم أو خدشتُ كبرياءكم دون قصد مني. ألف تحية والسلام عليكم جميعا بغثكم وسمينكم.


ملاحظة: لم أتحدث عن التفقد في التعليم الابتدائي لأنني أجهل نظامه. لكن رغم عدم إلمامي بتفصيلاته سأدلي بدلوي في عمقه: سبق لي وإن اقترحتُ في بعض مقالاتي السابقة إحداث خطة معلم مجال مثل معلم مختص في الرياضيات وآخر في اللغة العربية وآخر في الإيقاظ وآخر في الفرنسية وآخر في الأنقليزية وآخر في التربية كما أرجو بالمثل إحداث خطة متفقد مجال في الابتدائي.


ملاحظة مضافة إلى المقال حول التفقد بتاريخ 9/10/10:

بعد مسيرة مهنية طيلة ستة وثلاين عاما، ولأول مرة في تاريخي المهني، عرض علينا اليوم متفقدنا المحترم -في أول اجتماع بيداغوجي- مقياس التفقد وقرأ جميع بنوده وشرحها بالتفصيل. وأعلمنا اليوم أنه لا يوجد تفقد في دولة كندا ولا تُسند لأساتذة فرنسا أعدادا بعد التفقد.


أتساءل ببراءة الباحث: لو كان التفقد البيداغوجي ضروريا، لماذا ألغِي جزئيا في كندا وكليا في فنلندا وغيرها من الدول المتقدمة وفي كل جامعات العالم؟

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire