عندما طالبتُ بتطبيق النموذج التعليمي الفنلندي (النموذج المجاني الأفضل والأنجع في العالم) في تونس بعد ثورة 14 جانفي 2011، رد عليّ أصدقائي الفيسبوكيين ووصفوني بالمثالية الأفلاطونية وحمّلوني خطأ الاستشهاد بالنماذج التربوية الخارجية وإهمال الخصوصية التونسية واستيراد البرامج المسقطة وغيرها من التهم الجاهزة مثل "هذا على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب". أرجوكم، اقرؤوا تجربتي الذاتية إلى الآخر وتمعّنوا في حججي قبل أن تحكموا لي أو عليّ.
2. الإعدادي بـﭬابس من 1965 إلى 1968 والثانوي بصفاقس وتونس من 1968 إلى 1972:
في أول غربة وسفرة لي خارج جمنة في آخر سبتمبر 1965، أعطتني أمي دينارا تونسيا واحدا، لتغطية نفقات الثلاثية الأولى، وأوصتني أن أقتصد في المصروف ولا أبذّر ! ركبتُ إلى مدينة ﭬابس في الحافلة العمومية بـ 600 مليم. وصلتُ بسلام ودخلت المبيت المجاني وبقيت أنفقُ كنزَ أمي المتبقي بحكمة كما أوصتني، كنا نحن "البيّاتَة" (التلامذة المقيمين بالمبيت) لا نخرج من المبيت إلا يوم الأحد: كنت أنفق دورو (5 مليمات) كل أحد لشراء قطعة "غْرَيْبَة" (نوع من الحلويات التقليدية) أو كأس "لاڤمي" (النسغ المحضّر المستخرج طبيعيا من النخلة) أو 20 مليما ثمن قطعة "هريسة" (نوع من الحلويات التقليدية). لم أكن قادرا ماديا على قطع تذكرة سينما بـ40 مليما أما البث التلفزي الذي بدأ سنة 1965 فكان حكرًا على الميسورين.
وفي نهاية الثلاثية وقبل تاريخ العودة إلى مسقط رأسي جمنة الحبيبة ، كانت أمي ترسل لي 600 مليم ثمن تذكرة الرجوع في الحافلة العمومية أو أركب "لوّاج" (سيارة أجرة خاصة) وهي تدفع الثمن المطلوب إلى السائق الجمني عند الوصول.
كنتُ تلميذا مقيما مجّانا بمبيت إعدادية "سيدي مرزوﭬ" بـﭬابس المدينة ثم بمبيت المعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس ومبيت مدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين بتونس.
2.1 كنا نأكل مجانا أربع وجبات صحية ومتوازنة وبيولوجية في اليوم، ثلاث ساخنة وواحدة باردة
فطور الصباح: قهوة حليب مع خبز ومعجون أو زبدة أو حلوى شامية.
الغداء أو العشاء: سَلَطَة خضراء طازجة، طبق رئيسي باللحم مثل الكسكسي أو اللوبيا (كانت من أحب الوجبات الدسمة إلى قلوبنا جميعا) أو الجلبانة أو المقرونة أو الملوخية أو الأرز الأبيض أو مرقة الڤناوية أو مرقة البطاطا أو غيرها من الأطعمة التي لم نكن نحلم بها وبعضها لم نكن نعرفها في بيوتنا الريفية في جمنة كالملوخية والأرز الأبيض ومرقة الڤناوية. كنا نعرف فقط الكسكسي والمقرونة الجارية ومرقة البطاطا. أما خاتمة الطعام فعلى كل الألوان (dessert): برتقال أو موز أو خوخ أو برقوق أو تين أو دلاع أو بطيخ أو هندي أو رمان أو حلوى شامية أو 4 تمرات دڤلة (كنا نحن النفزاويون نضحك ونسخر من هذه "الفاكهة" الأخيرة لسببين اثنين لا ثالث لهما وهما: أولا نضحك من اعتبار الدڤلة في مصاف الفاكهة يُختم بها الطعام وثانيا نسخر من الكمية التي لا تتناسب مع إقبالنا النفزاوي على الدڤلة فنحن متعودون على التهام كيلو دقلة أو اثنين في المرة الواحدة).
لمجة السادسة مساء: قطعة شكلاطة بُنّية لذيذة جدا مع قطعة خبز.
حادثة غذائية طريفة رقم 1
قد تبدو لكم الحادثة التالية ولأول وهلة وكأنها مركبة أو مبرمجة للهزل لكنها والله واقعية وذات دلالة خاصة بالنسبة لأهل الذكر والاختصاصيين في دراسة حاسة تذوق الأطعمة المتنوعة عند البشر وعلاقتها بحاسة الشم وبالمكتسبات الأنتروبولوجية الحضارية والثقافية أكثر من علاقتها بالوراثة والجينات: في مبيتات ڤابس وصفاقس وتونس، ثانوي وجامعي، لم أكن أقبل على الملوخية ولا مرقة الڤناوية ولا الأرز ولا الحوت ولا الموز، لا لشيء إلا لأنني لم أكن أعرف هذه الأنواع من الأطعمة والأغذية ولم تصادفني في حياتي قبل سن الثالثة عشرة. من حسن حظي، بدأت آكل كل هذه الروائع الغذائية بعد الزواج وأنا في سن الثلاثين لأن زوجتي من مواليد العاصمة وتعرف طريقة طبخ هذه الأكلات بصفة جيدة.
حادثة غذائية طريفة رقم 2
في عطلة من عطل عيد الأضحى المبارك، عاد جل التلامذة المقيمين بالمعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس إلى مدنهم وقراهم إلا قلة من المعوزين وكنت واحدا منهم. لكي لا يشعرنا بالفقر والغربة، أقام المدير مأدبة غداء على شرفنا وأمر طباخ المبيت بالحضور يوم العيد صباحا ليذبح لنا بالمناسبة نعجة. كان المدير حاضرا معنا، شَوَينا اللحم وأكلنا وضحكنا وعيّدنا على بعضنا وكأننا بين أهالينا وأقاربنا.
2.2 كنا نتمتع برعاية صحية كاملة مجانية، وقائية وعلاجية.
2.3 كانت إدارة المبيت تتكفل بتنظيف ملابسنا الداخلية والخارجية وأغطيتنا مجانا وكانت كلها مرقمة حتى يسهُل إعادة توزيعها علينا.
2.4 كنا نستمتع بحمام تركي أسبوعي مجاني خارج المبيت وكان النقل من بوغرارة كلم 35 إلى صفاقس مجانيا أيضا.
2.5 كان يوجد بكل مؤسسة تربوية قاعة مراجعة خاصة بمراجعة الدروس ومطالعة القصص نهارًا وليلاً، وكان يشرف عليها قيم جدي يساعدنا على أداء واجبنا المدرسي عند الطلب.
2.6 كل قاعات الدرس تصبح قاعات مراجعة ليلا، يشرف عليها تلامذة قيمون متطوعون يختارونهم من نجباء الأقسام النهائية، يساعدوننا على أداء واجبنا المدرسي عند الحاجة.
2.7 يوجد بكل مؤسسة تربوية قاعة رياضة مغطاة ومجهزة بمعدات رياضية عصرية.
2.8 كان جل أساتذتنا الكرام أجانب (فرنسيين، بلجيكيين، كنديين، أمريكيين) ما عدى أساتذة العربية والتقنية والتصوير الفني والتربية الوطنية المزدوجة (المدنية والإسلامية حاليا).
2.9 كنا نقوم برحلات دراسية مجانا تحت إشراف أساتذتنا الأجانب.
2.10 كان الانضباط الحديدي يسود النظام الداخلي في كل المؤسسات التربوية.
2. الإعدادي بـﭬابس من 1965 إلى 1968 والثانوي بصفاقس وتونس من 1968 إلى 1972:
في أول غربة وسفرة لي خارج جمنة في آخر سبتمبر 1965، أعطتني أمي دينارا تونسيا واحدا، لتغطية نفقات الثلاثية الأولى، وأوصتني أن أقتصد في المصروف ولا أبذّر ! ركبتُ إلى مدينة ﭬابس في الحافلة العمومية بـ 600 مليم. وصلتُ بسلام ودخلت المبيت المجاني وبقيت أنفقُ كنزَ أمي المتبقي بحكمة كما أوصتني، كنا نحن "البيّاتَة" (التلامذة المقيمين بالمبيت) لا نخرج من المبيت إلا يوم الأحد: كنت أنفق دورو (5 مليمات) كل أحد لشراء قطعة "غْرَيْبَة" (نوع من الحلويات التقليدية) أو كأس "لاڤمي" (النسغ المحضّر المستخرج طبيعيا من النخلة) أو 20 مليما ثمن قطعة "هريسة" (نوع من الحلويات التقليدية). لم أكن قادرا ماديا على قطع تذكرة سينما بـ40 مليما أما البث التلفزي الذي بدأ سنة 1965 فكان حكرًا على الميسورين.
وفي نهاية الثلاثية وقبل تاريخ العودة إلى مسقط رأسي جمنة الحبيبة ، كانت أمي ترسل لي 600 مليم ثمن تذكرة الرجوع في الحافلة العمومية أو أركب "لوّاج" (سيارة أجرة خاصة) وهي تدفع الثمن المطلوب إلى السائق الجمني عند الوصول.
كنتُ تلميذا مقيما مجّانا بمبيت إعدادية "سيدي مرزوﭬ" بـﭬابس المدينة ثم بمبيت المعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس ومبيت مدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين بتونس.
2.1 كنا نأكل مجانا أربع وجبات صحية ومتوازنة وبيولوجية في اليوم، ثلاث ساخنة وواحدة باردة
فطور الصباح: قهوة حليب مع خبز ومعجون أو زبدة أو حلوى شامية.
الغداء أو العشاء: سَلَطَة خضراء طازجة، طبق رئيسي باللحم مثل الكسكسي أو اللوبيا (كانت من أحب الوجبات الدسمة إلى قلوبنا جميعا) أو الجلبانة أو المقرونة أو الملوخية أو الأرز الأبيض أو مرقة الڤناوية أو مرقة البطاطا أو غيرها من الأطعمة التي لم نكن نحلم بها وبعضها لم نكن نعرفها في بيوتنا الريفية في جمنة كالملوخية والأرز الأبيض ومرقة الڤناوية. كنا نعرف فقط الكسكسي والمقرونة الجارية ومرقة البطاطا. أما خاتمة الطعام فعلى كل الألوان (dessert): برتقال أو موز أو خوخ أو برقوق أو تين أو دلاع أو بطيخ أو هندي أو رمان أو حلوى شامية أو 4 تمرات دڤلة (كنا نحن النفزاويون نضحك ونسخر من هذه "الفاكهة" الأخيرة لسببين اثنين لا ثالث لهما وهما: أولا نضحك من اعتبار الدڤلة في مصاف الفاكهة يُختم بها الطعام وثانيا نسخر من الكمية التي لا تتناسب مع إقبالنا النفزاوي على الدڤلة فنحن متعودون على التهام كيلو دقلة أو اثنين في المرة الواحدة).
لمجة السادسة مساء: قطعة شكلاطة بُنّية لذيذة جدا مع قطعة خبز.
حادثة غذائية طريفة رقم 1
قد تبدو لكم الحادثة التالية ولأول وهلة وكأنها مركبة أو مبرمجة للهزل لكنها والله واقعية وذات دلالة خاصة بالنسبة لأهل الذكر والاختصاصيين في دراسة حاسة تذوق الأطعمة المتنوعة عند البشر وعلاقتها بحاسة الشم وبالمكتسبات الأنتروبولوجية الحضارية والثقافية أكثر من علاقتها بالوراثة والجينات: في مبيتات ڤابس وصفاقس وتونس، ثانوي وجامعي، لم أكن أقبل على الملوخية ولا مرقة الڤناوية ولا الأرز ولا الحوت ولا الموز، لا لشيء إلا لأنني لم أكن أعرف هذه الأنواع من الأطعمة والأغذية ولم تصادفني في حياتي قبل سن الثالثة عشرة. من حسن حظي، بدأت آكل كل هذه الروائع الغذائية بعد الزواج وأنا في سن الثلاثين لأن زوجتي من مواليد العاصمة وتعرف طريقة طبخ هذه الأكلات بصفة جيدة.
حادثة غذائية طريفة رقم 2
في عطلة من عطل عيد الأضحى المبارك، عاد جل التلامذة المقيمين بالمعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس إلى مدنهم وقراهم إلا قلة من المعوزين وكنت واحدا منهم. لكي لا يشعرنا بالفقر والغربة، أقام المدير مأدبة غداء على شرفنا وأمر طباخ المبيت بالحضور يوم العيد صباحا ليذبح لنا بالمناسبة نعجة. كان المدير حاضرا معنا، شَوَينا اللحم وأكلنا وضحكنا وعيّدنا على بعضنا وكأننا بين أهالينا وأقاربنا.
2.2 كنا نتمتع برعاية صحية كاملة مجانية، وقائية وعلاجية.
2.3 كانت إدارة المبيت تتكفل بتنظيف ملابسنا الداخلية والخارجية وأغطيتنا مجانا وكانت كلها مرقمة حتى يسهُل إعادة توزيعها علينا.
2.4 كنا نستمتع بحمام تركي أسبوعي مجاني خارج المبيت وكان النقل من بوغرارة كلم 35 إلى صفاقس مجانيا أيضا.
2.5 كان يوجد بكل مؤسسة تربوية قاعة مراجعة خاصة بمراجعة الدروس ومطالعة القصص نهارًا وليلاً، وكان يشرف عليها قيم جدي يساعدنا على أداء واجبنا المدرسي عند الطلب.
2.6 كل قاعات الدرس تصبح قاعات مراجعة ليلا، يشرف عليها تلامذة قيمون متطوعون يختارونهم من نجباء الأقسام النهائية، يساعدوننا على أداء واجبنا المدرسي عند الحاجة.
2.7 يوجد بكل مؤسسة تربوية قاعة رياضة مغطاة ومجهزة بمعدات رياضية عصرية.
2.8 كان جل أساتذتنا الكرام أجانب (فرنسيين، بلجيكيين، كنديين، أمريكيين) ما عدى أساتذة العربية والتقنية والتصوير الفني والتربية الوطنية المزدوجة (المدنية والإسلامية حاليا).
2.9 كنا نقوم برحلات دراسية مجانا تحت إشراف أساتذتنا الأجانب.
2.10 كان الانضباط الحديدي يسود النظام الداخلي في كل المؤسسات التربوية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire