الإهداء: إلى بطلة قصتنا، المعلمة الصامدة، التي لم يحبطها الفهم الخاطئ
والاستعمال السيئ لمهنة التفقد من قِبل بعض المتفقدين ولم يثنها ظلمهم لها عن أداء
رسالتها التربوية كما يجب.
من الصعب جدا أن تخوض في موضوع شائك
ومعقد وحساس مثل علاقة المدرس بالمتفقد والأصعب أن تكتب فيه دون بحث علمي
ميداني مسبق (La recherche-action). مع العلم أن وزارة التربية تعرقل الأستاذ التونسي المباشر في
المعاهد التونسية والباحث العلمي في علوم التربية حين يحاول، دون ترخيص، إجراء
بحوث علمية تربوية داخل المؤسسات التربوية، أما إذا أراد الباحثُ دخول الأقسام
فيجب عليه الاستظهار بترخيص رسمي من وزارة التربية. لكنني لست خاويَ الوفاض، لقد درستُ علم التقييم أكاديميا
لمدة سنة في بداية المرحلة الثالثة، أعددتُ ماجستير و دكتورا في تعلمية البيولوجيا
خلال سبع سنوات بجامعة كلود برنار بليون 1 في فرنسا وبجامعة تونس، أمارس مهنة
التعليم منذ ست وثلاثين سنة، اختلفتُ مع المتفقدين سنينا طويلة وتصالحت معهم سنينا
أطول ولي بينهم أصدقاء أعزاء كثر ومنهم رفاق مرحلة ثالثة، عملتُ معهم مكونا في
مادة علوم الحياة والأرض، كما سبق لي وأن أشرفت على حصة تكوين يتيمة موجهة لمتفقدي
التعليم الابتدائي، قمتُ بتربص بيداغوجي قصير في نانسي بفرنسا حيث شاركتُ في يوم
بيداغوجي وزرتُ مخابر معهد ثانوي وحضرتُ درسا نموذجيا في علوم الحياة والأرض
وواكبتُ مناقشة بحث قام بها فريق من تلاميذ المعهد في إطار بيداغوجيا المشروع.
سأحيّدُ منهجيا الأشخاص في مقالي هذا ولن أعمّم استنتاجاتي وبكل وضوح في الرؤيا
سأنقدُ بكل شفافية وجرأة لكن في كنف الاحترام ودون الخروج عن حدود اللياقة والأدب
ودون تجريح في أشخاص نعزّهم ونكرّمهم ونعتبرهم أساتذتنا بعد أساتذة الجامعة. أبدأ
بشهادة من أهل مهنة التفقد: مِن بين المفقدين أنفسهم يوجد مَن وافقني على النقد
الوارد في هذا المقال عندما طرحته في منابر عدة. سأشرح نظام التفقد اللاعلمي وغير
الموضوعي المسلط على المدرس من قِبل سلطة الإشراف فالمتفقد بطبيعته إذن، شاء أم
أبى، علم أو لم يعلم، هو أداة نظام التفقد اللاعلمي وغير الموضوعي ما دام هو نفسه
يفتقد للتكوين الأكاديمي. أقصد بالتكوين الأكاديمي التكوين الذي يُتوّج عادة
بشهادة جامعية معترف بها كالتبريز أو الأستاذية أو الماجستير أو الدكتورا ولا أقصد
وحدات التكوين النظري القصير والسريع ولا التربصات التطبيقية مع احترامي لهذا
النوع الأخير من التكوين. لم يتلق المتفقد التونسي تكوينا جامعيا في علم التقييم
ولا في علوم التربية ولا في فلسفة وتاريخ العلوم ولا في علوم التواصل ولا يملك
شهادة علمية أعلى من شهادة المدرس الذي يتفقده. سبق لي وإن وجهتُ هذا النقد إلى
متفقدي علوم الحياة والأرض خلال ندوة حضرها الوزير منصر رويسي في مركز أريانة
للتكوين المستمر عندما دعتهم مديرة التعليم الثانوي ليلى البوزايدي (سنة 2000)،
بعد استشارتي شخصيا حول قائمة المتفقدين المدعوين. كنتُ حينذاك في أيام العز
و"السردكة الفكرية" (فعل سردك مشتق من كلمة سردوك أي الديك بالعربية
الفصحى ويعني "نفخ الديك ريشه مزهوّا ومضخِّما جسمه الضئيل والنحيل").
اقتصرت أيام العز وهي قليلة جدا على فترة صداقتي العلمية وليست الذاتية مع وزير
التربية السابق والمثقف المحترم، الأستاذ الجامعي القدير الدكتور منصر رويسي.
وجّهتُ هذا النقد مباشرة للمتفقدين الحاضرين دون مجاملة ودون نفاق بل بصدق مَن
يغار على مهنة التفقد ويريد النهوض بها. من الصدف المنعشة أن الوزارة أسست بعد هذا
التدخل، أو قد تكون خططت له منذ سنين، معهد تكوين متفقدي الثانوي والأساسي في
قرطاج ولي فيه رفاق مرحلة ثالثة كثر أيضا، فيهم رجال ونساء، نساء جميلات جدا يدخلن
على المدرس الابتسامة والرقة واللطف الذي لم نعهده في متفقدينا القدامى ذكورا
وإناثا. أود جلب انتباهكم أنني لا أقول هذا الكلام من باب النكتة فابتسامة المتفقد
صدقة ورحمة وجواز عبور وقرص أو "حربوشة" تزرع الثقة بالنفس والاطمئنان
والأمن والأمان في قلب المدرس فيؤدي درسه ويبدع أمام متفقد متعاون متعاطف ومتفهم
لظروف العمل القاسية التي يمارس المدرس التونسي تحت قساوتها أشرف مهنة في الوجود
بأقل أجر موجود. استجاب معهد المتفقدين بقرطاج لشروط التكوين البيداغوجي والتعلمي
وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. لسد هذا النقص، أقترح أن لا يُقبل في هذا
المعهد إلا "الأساتذة المبرزون" في اختصاصهم وهذا الإجراء معمول به في
فرنسا. يمتاز الأستاذ المبرز على الأستاذ العادي بسِعة اطلاعه على معارف اختصاصه
وتملّكها والقدرة على توظيفها توظيفا جيدا ومفيدا، لكن في الوقت نفسه يفتقد
الأستاذ المبرز إلى التكوين في فلسفة وتاريخ العلوم ولم يدرس أكاديميا "إدراك
عملية الإدراك" ( La métacognition) وهي أعلى
درجات المعرفة وتتمثل مهمتها في "التفكير في آليات التفكير وفي معرفة أننا
نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل" وكما قال بيار قريكو: " لو
أن الإنسان الذي يقول لا أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نَعَمْ
المستقبلية". عندما أشترط التبريز لدخول معهد المفقدين بقرطاج، أشعر أنني
ظلمت زملائي أساتذة علوم الحياة والأرض الطامحين إلى خطة مفقد لأن اختصاصنا هو
الاختصاص العلمي الوحيد، على ما أذكر، المحروم من اجتياز مناظرة التبريز غير
الموجودة في تونس منذ الاستقلال. بهذه المناسبة أوجه سؤالا مفتوحا إلى وزير
التربية التونسية: لماذا يُحرم أساتذة علوم الحياة و الأرض من نيل أهم كفاءة علمية
يفتخر بها أستاذ الثانوي؟
سأعتمد في طرحي التالي على المثلث
التعلّمي (ثلاثة أقطاب: المدرس، التلميذ والمعرفة) (Le triangle didactique ou
pédagogique) وسأنحت من رحمه المثلث التقييمي
(Le triangle
d’évaluation) إن لم يكن موجودا، وسأحدد أقطابه
الثلاثة وهي المتفقد والمدرس والتقييم. من المؤسف جدا أن المفقد والمدرس لم يدرسا
أكاديميا علم التقييم ومن يقيّم دون علم تقييم كمن يبيع سلعة دون ميزان وفاقد
العلم لا يعطيه. يطالبنا المتفقدون بتقييم إجمالي جزائي وتقييم تكويني وتقييم
استباقي وسَمِّ ما شئت من الأنواع وهي كلها مفيدة للتلميذ والمدرس لكن من
المتناقضات أن المتفقدين لا يطبقون علينا، نحن الأساتذة، إلا نوعا واحدا من
التقييمات السابقة وهو التقييم الإجمالي الجزائي. الخطير أن وراء هذا النوع الأخير
من التقييم تكمن نظريات وايدولوجيا المدرسة السلوكية. برز هذا النموذج في أمريكا
الستينات على أيدي العالِمين، مؤسسي المدرسة السلوكية، "واتسون"
و"سكينر". يتعامل المتفقد مع المدرس بأسلوب الإثارة ورد الفعل مثلما
يدرّب "بافلوف" كلبه، يجازيه عند الإجابة الصحيحة ويعاقبه إن أخطأ.
يطالبنا المتفقدون وبإلحاح رب العمل وأوامره بمدّ التلميذ بمقياس الإصلاح (Barème de correction) مع ورقة الامتحان. يا أساتذة علوم الحياة والأرض، هل مدّكم يوما
مفقد بمقياس تقييمه قبل التفقد؟ لقد بلغني أخيرا أن مثال مقياس التفقد متوفر على
النات. يوصوننا بل ويمنعوننا بالقانون بعدم إجراء فرض مراقبة فجائي احتراما
للتلميذ واجتنابا لوقوعه في الخطأ، بارك الله فيهم وفي تفهّمهم لحقوق التلميذ
ومشاعره باعتباره محور العملية التربوية، ويباغتونا، هم، بزياراتهم الفجائية
بِنيّة القبض على المدرس متلبسا! فهل بعد هذا التناقض تناقظا؟
لقد شاركتُ مرة في مؤتمر علمي في
المنستير من 15 إلى 18 ماي 2006 نظمته "الجمعية العالمية للبيداغوجيا
الجامعية" فاسمحوا لي قرائي الكرام أن أعلمكم أن الأساتذة الجامعيين لا
يخضعون للتفقد وكأنهم رضعوا علوم التربية في الحليب أو ورثوها في جيناتهم وهم لا
يمدّون طلبتهم بمقياس الإصلاح ولا يرجعون ورقة الامتحان ولا يناقشون العدد مع
الطالب كأن تقييمهم قرآن وهُم، مع الأسف الشديد، مثلهم مثل الأساتذة والمعلمين لم
يدرسوا علم التقييم ولا علوم التربية (ما عدا المدرّسين الجامعيين الذين يدرّسون
هذه الاختصاصات). هل الأساتذة الجامعيون يتمتعون بثقة عمياء إلى درجة كونهم يعفون
من التفقد ولا تطالبهم الوزارة بتطبيق القواعد الأساسية في التقييم؟ وهل نحن
مدرّسو الأساسي والإعدادي والثانوي متهمون بالقصور البيداغوجي وعلينا إثبات
براءتنا وولائنا لشخص المتفقد الذي لا يفوقنا علما ولا تجربة؟ ما هي مقاييس انتداب
المتفقدين؟ وهل هي علمية وموضوعية؟ وهل قرار المتفقد هو قرارٌ مستقل تماما عن إملاءات
الوزارة؟ أقصد بالإملاءات أن لا يوظف المتفقد لخدمة أغراض إدارية غير بيداغوجية
مثل إخضاع الأستاذ المتنطع والمشاكس نقابيا أو إداريا وأن لا يُستغل تقريره السلبي
لأهداف تأديبية لا علاقة لها بالبيداغوجيا.
أنا لا أشك في الأشخاص ولا اقرأ
النوايا ولا أحاكمها، لكن نقدي موجّه لنظام التفقد الذي يفتقد للتكوين الأكاديمي
في علوم التربية وعلم التقييم. مع العلم أنه ليس من السهل الفصل التعسّفي بين المهنة
وأصحابها وقد سمعت مرات عديدة بعض المفقدين المستنيرين رفاقي في المرحلة ثالثة
علوم التربية، اختصاص تعلمية البيولوجيا، يتذمّرون من الأساليب البالية والمتخلفة
واللاعلمية وغير الموضوعية في مهنتهم وينتقدونها بغيرة المحب لمهنته وإتقان
المحترفين.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire