samedi 4 juin 2022

محاضرة لـ"أنتون ﭬراو" بعنوان "التفقد البيداغوجي في مختلف الأنظمة التربوية في العالم". ترجمة وتأثيث مواطن العالَم

 


Conférence d’Anton DE GRAUWE, spécialiste des programmes, Institut International de la planification de l’éducation, UNESCO.

Titre de la conférence : L’inspection dans différents systèmes éducatifs à travers le monde.

 

تمهيد

إن استشارة متفقدي وزارة التربية في الندوة الوطنية حول منهجية إصلاح المنظومة التربوية، تونس من 29 إلى 31 مارس 2012، ليست هي الحل كما توهم بعض البيروقراطيين غير الملِمّين بالأزمة التربوية في تونس، أو كما أمِلَ بعض السياسيين الجدد. وإنما وجود مؤسسة التفقد البيداغوجي في حد ذاتها هي العلامة التي لا تخطئ على الأزمة، على حِدّة الأزمة. التفقد البيداغوجي ليس العلاج أو الدواء وإنما هو من أعراض المرض.

 

سأحاول أن أترجم إليكم بكل أمانة علمية - رغم مقدرتي المتواضعة في الترجمة - مضمون المحاضرة التي وجدتها على الأنترنات حول التفقد البيداغوجي في العالم بعنوان "التفقد في مختلف الأنظمة التربوية في العالم"، تقديم "أنتون دو قراو"، اختصاصي برامج، المعهد العالمي للتخطيط التربوي، اليونسكو. ومَن يفضّل سماع المحاضرة مباشرة باللغة الفرنسية سوف يجد في آخر المقال "رابطها" وعندئذ يستطيع الاستغناء عن قراءة هذا المقال باللغة العربية.

ملاحظة

تجدون إضافاتي القصيرة جدا دائما بين قوسين حتى لا يختلط عليكم الأمر خاصة وأن المحاضر من الوزن الثقيل علميا رغم رشاقة جسمه.

كلمة صغيرة لكن لطيفة وحازمة ومعبّرة وعبرة في الوقت نفسه لمن يعتبر من أولي الأمر والألباب التربويين:

أوجّهها خصيصا إلى المتفقد الذي هاتفني في منزلي وأثناء عطلتي وحرمني من الإحساس بالأمان وهدّدني بتقديم شكوى ضدي إلى التفقدية العامة للتعليم الثانوي محاولا شلّ عزيمتي وحرماني من حقي الشرعي والقانوني في حرية التعبير. وعلى كل مقال سيئ أرد بمقال علمي جيد لا بالعنف اللفظي أو التهديد، أردّ على التهديد اللفظي بمزيد من النشر، نشر البراهين العلمية التي تعزز وجهة نظري النقدية العميقة لنظام التفقد في العالم وخاصة لنظام التفقد في تونس بصيغته الحالية في 2011 دون المساس بالحرمة الأدبية والشخصية لمتفقدينا التونسيين الأكفاء الذين أكنّ لهم كل التقدير والتبجيل ولا أحمّلهم وحدهم مسؤولية تخلّف نظام التفقد في تونس وأعتبرهم بمثابة أساتذتنا المحترمين بعد أساتذة الجامعة والسلام على من اتبع الهدي، هدى العلم والمعرفة، هدى حرية التعبير دون قيد أو شرط، هدي الابستومولوجيا. شكرا للتكنولوجيات الحديثة وشكرا للأنترنات وخاصة الفايسبوك الذي منحني مجانا هذه المساحة الرحبة من حرية التعبير والنشر وجعلني أستغني باستعلاء وتكبّر عن خدمات جرائدنا التونسية التي رفضت نشر مقالاتي المتنوعة والمتعددة في نقد النظام التربوي التونسي بجميع جهاته الفاعلة بداية من صانعي البرامج إلى المتفقدين إلى الإدارة إلى الأساتذة والتلامذة والأولياء والبنك العالمي وصندوق النقد الدولي. أذكّر من نسي أن التهديد لم يثنني عن مواصلة مشواري والإصداع بالـ"حقيقة العلمية النسبية" وأنا في سن الثلاثين من عمري فكيف سيثنيني اليوم وقد اشتدّ عودي وغزا الشيب مفرقي ولم أعد أنتظر من وزارتنا الموقرة عددا بيداغوجيا ولا إداريا ولا ترقية، أنتظر منها فقط أن تعطني حريتي وتطلق قلمي لوجه الله وأنا في سن الستين حتى أتخلص من تسلط بعض المتسلطين وأتفرغ لمهمتي الأساسية في الحياة ألا وهي النقد، نقد كل فكر غير علمي في تونسنا الجميلة. النقد مؤسسة مستقلة وقائمة بذاتها ولا يُنقِص من قيمتها العلمية عدم تقديمها للبديل.

 

مخطط المحاضرة

1.    المقدمة

2.    نموذج التفقد الكلاسيكي

3.    نموذج التفقد المركزي

4.    نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب

5.    النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية

 

1.    المقدمة

تعتمد جل البلدان على جهاز التفقد البيداغوجي في نظامها التربوي إلا قلة منها استغنت تماما عن هذا النوع من التفقد وهذا لا يعني أنه لا توجد فيها مراقبة من نوع آخر.

تتناقض مهمة التفقد الطموحة مع الإمكانات المتواضعة.

 

ما هي المهام الأساسية للتفقد؟

-         أداة مراقبة  بيداغوجية وإدارية في الوقت نفسه. يركّز المتفقدون على المهمة الثانية أكثر من الأولى.

-          أداة دعم، لذلك يسمى في بعض البلدان مشرف أو مرشد بيداغوجي (في الجزائر يسمى مفتش).

-          تحميل المدرسين مسؤولية  نتائج تلامذتهم رغم أن للعائلة والمدرسة كمؤسسة دور في هذه النتائج (في الكويت يدخل المرشد البيداغوجي ويستمع إلى الأستاذ حوالي ربع ساعة ثم يستأذنه ويشرع في طرح أسئلة معرفية على التلاميذ ليدرك مستواهم ومقدار تقدمهم في المنهج حتى يحكم على المدرّس من خلال مستوى تلاميذه).

-          تحسين مستوى التربية بصفة عامة.

-         توحيد الثقافة الوطنية: نفس المقاربة البيداغوجية ونفس البرنامج ونفس المواد في جميع أنحاء  القطر.

-         أداة ربط: يبلّغ المفقد أوامر الوزارة إلى المدرسين ويرفع تقاريره البيداغوجية إلى الوزارة.

 

ما هي إشكالية التفقد؟

من يتفقد؟: هل يتفقد المدرس؟ هل يتفقد المدرسة؟ هل يتفقد النظام التربوي؟

 

ما هي بدائل المتفقد الكلاسيكي المتاحة؟

-         الجهات الفاعلة والمخولة لتفقد المحترفين هم المحترفون أنفسهم، خذ مثلا  الأطباء، هم مراقَبون من قِبل عمادة الأطباء نفسها.

-         المدرسون الأكفاء يستطيعون تفقد زملائهم.

-         في إفريقيا الجنوبية: يتكون فريق التفقد من ممثل للإدارة وممثل لنقابة المدرسين ومدرّس يعيّنه زميله المعني بالتفقد. بهذا الصنيع الديمقراطي يكتسب التفقد مصداقية، قد يفتقدها المتفقد الكلاسيكي.

-         قد يُراقَب المدرسون من قبل المستفيدين أو الزبائن أو المستعملين مثل الأولياء والتلامذة. في بعض البلدان النامية حيث تضعف أو تغيب الدولة، تخلق المدرسة شبكة حولها، متكونة من تجمّع الأولياء. يموّل   الأولياء المؤسسات العمومية من الضرائب التي يدفعونها سنويا للدولة التي تعيش عادة من هذه الضرائب. ومن يموّل المدرسة يستطيع ممارسة حق المراقبة والتوجيه على المدرسين، يراقب تغيّبهم مثلا أو يحاسب المدرسة على النتائج. وفي هذه الحالة، يختار الولي المدرسة حسب نتائجها وهذه سوق رائجة في فرنسا مع كل انعكاساتها الضارّة.

 

فيما تتمثل مِهَنِية المدرس؟

المدرسون مهنيون بطبيعتهم. ليس الهدف من التعليم هو البحث عن الرزق بل التعليم هو رسالة متكاملة في حد ذاتها. يبدو أن للمدرسين الأكفاء الحق في شيء من الاستقلالية في مراقبة عملهم لكن من الضروري إجراء مراقبة خارجية لتقييم كفاءتهم.

 

من يقيّم من؟

-         التقييمات العالمية مثل تقييم "بيزا" التي تكشف نقاط الضعف في النظام التربوي بمقارنته بأنظمة عالمية متفوقة.

-         التقييم الذاتي وهو مشروع المدرسة مع العلم أنه ليس من السهل طرح نفسك موضوعا للنقاش والنقد والمساءلة. قد يخلق هذا النوع من التقييم صراعات بين المدرسين وقد يثبط عزائم البعض منهم.

-         من الأفضل الجمع بين الأدوات الثلاثة للتقييم وهي تقييم المتفقد والتقييم الذاتي والتقييمات العالمية. لا يجب الاستئناس بطرف واحد فقط، مثلا، قد لا يأخذ المفقد الكلاسيكي في الاعتبار عمل أو مشروع المدرسين أنفسهم ولا يهتم بالتقييمات العالمية. بهذا الصنيع الأحادي، يفقد الطرفان الآخران شرعيتهما ومصداقيتهما.

 

سأعرض عليكم أربعة نماذج نمطية مثالية من التفقد في العالم حتى تقارنوا بينها:

2.    نموذج التفقد الكلاسيكي

-         يُعدّ النموذج الأكثر شعبية في فرنسا والدول الفرنكوفونية والأنغلوفونية مثل فيتنام والسنغال وتنزانيا والمكسيك وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا ولبنان.

-         المدرس هو متعاقد مع الوزارة، من حقها إذن مراقبته عن طريق المتفقد.

-         تعتمد الوزارة في مراقبتها للمدرسين على تقرير المتفقد وعلى نتائج التلامذة.

-          لا تعير الوزارة اهتماما كبيرا للتقييم الذاتي في المدرسة ويبقى المتفقد يمثل لديها الأداة الأساسية للمراقبة.

-         يتمتع سلك التفقد بنوع من الاستقلالية عن الإدارات الأخرى في الوزارة.

-         يتمتع مدير المؤسسة التربوية بحق تفقد المدرس.

 

ما هي نقاط القوة في نموذج التفقد الكلاسيكي؟

-         يُغطّي التفقد جميع مدارس البلاد فهو موحِّد ثقافي للشعب وناشر للثقافة الوطنية في كل أرجاء الوطن.

-         يوفر التفقد دعما للمدرّسين ويفرض عليهم مراقبة مستمرة.

 

ما هي نقاط الضعف في نموذج التفقد الكلاسيكي؟

-         بيروقراطية  مُكلفة لأن التفقد يشمل كل المدارس (قال مدير إعدادية نلسن مانديلا في فنلندا عندما سُئل: لماذا تكون تكلفة التلميذ الفنلندي أقل من تكلفة التلميذ الفرنسي رغم أنكم لا تأخذون مقابلا للتسجيل والدراسة وتوفرون وجبة غذائية ساخنة مجانية بالمدرسة وتتكفلون بمصاريف نقل التلاميذ من البيت إلى المدرسة؟ أجاب: لأننا ألغينا سلك التفقد والميزانية المخصصة له.

-         بيروقراطية ثقيلة لأن عدد المتفقدين لا يكفي فتكون زياراتهم للمدرّسين متباعدة زمنيا وبالتالي غير ناجعة بيداغوجيا.

-         تنسيق معقد بين الولايات والمعتمديات وبين المتفقدين أنفسهم وبين المدرسين المستفيدين من عملية التفقد.

-         تناقض بين المهمة الكبيرة والواعدة للتفقد وبين الإمكانات المحدودة والمتواضعة المتوفرة خاصة في البلدان النامية حيث توسّع التعليم ولم تتبعه نهضة اقتصادية (مثل ما يقع في تونس 2011). ينتج عن هذه الزيادة السريعة في عدد المدرسين، انخفاض في عدد المتفقدين المخصصين لتفقدهم. لذلك يستوجب هذا الوضع التربوي الجديد مراجعات وإصلاحات جذرية.

-          صراع حول الأدوار: صراع بين دور المتفقد كمراقب إداري ودوره كمرشد بيداغوجي  جاء ليدعم المدرس في أداء عمله مما يجعل النجاح في المهمتين صعب جدا أو شبه مستحيل. لو تقمّص المتفقد دور المقيِّم فالأستاذ لن يثق فيه ولن يتكلم عن المصاعب الحقيقية التي تعترضه يوميا ولن يبوح له بنقاط ضعفه خوفا من عدد تقييمه ومحاسبته. لو تقمّص المتفقد دور المرشد البيداغوجي فهو في هذه الحالة  لن يقوم بدور المراقب للمدرس، لذلك يكون من الأفضل أن يتخلى المتفقد عن دور الزجر والتقييم  ويلتفت فقط لدور الدعم البيداغوجي. أما إدارة المدرسة فيجب أن لا تراقب نفسها بنفسها لذلك وجب خلق جهاز مراقبة مستقل نوعا ما عن الإدارة وهذا سيحيلنا على النموذج الثاني وهو نموذج التفقد المركزي.

 

3.    نموذج التفقد المركزي

-         يطبق هذا النموذج حاليا في انقلترا وبلاد الغال والبلدان الأنقلوسكسونية وزيلندا الجديدة وأستراليا.

-         يتكون فريق التفقد من إثني عشر متفقدا. تُراقَب المدرسة كل ثلاث سنوات. يتفقد فريق التفقد التجهيزات وطرق التعليم والنتائج وغيرها ويبعث بتقريره إلى الوزارة وينشره على الأنترنات دون ذكر أسماء المدرسين  المعنيين (كما فعلت أنا عندما قمتُ بنقد سلوكيات  بعض المتفقدين الذين زاروني خلال حياتي المهنية الطويلة (سبع وثلاثون سنة) ونشرت نقدي على صفحات الفايسبوك. هؤلاء المتفقدون أصبحوا جزءا من حياتي كأدوار وليس كأشخاص لذلك يجوز لي ذكرهم ونقدهم ما لم أتعرض لحياتهم الشخصية التي ليست لها علاقة مباشرة بحياتي المهنية وهذه الأخيرة هي  ملك لي وحدي فقط ولي حق التصرف فيها بكل حرية). يرتب فريق التفقد المدارس على النت حسب نتائجها. قد يخلق هذا التمشي منافسة بين المدارس مما قد ينجرّ عنه تحسن الأداء التربوي في بعض المدارس المتخلفة نسبيا أو ينتج عنه غلق بعض المدارس الفاشلة لأن الأولياء سيختارون المدرسة الأكثر تفوقا.

-         ما دام الأولياء هم الذين يموّلون المؤسسات العمومية فمن حقهم معرفة مصير تمويلاتهم.

-         يُطلَب من المدرسة تقديم تقييم ذاتي قبل مجيء التفقد بشهرين لذلك تقوم المدرسة المقصودة بـ"بروفة" تقيّم فيها نقاط قوتها لعرضها وإبرازها ونقاط ضعفها لتحسينها.

-         بعد نشر التقرير المنشور على الأنترنات، قد تكتسب المدرسة المتفوقة سُمعة طيبة لدى الأولياء ويزداد  مدرسوها ثقة بالنفس، أما المدارس الأقل تفوقا، فهي مطالبة بإعداد خطة للدعم والعلاج حسب توجيهات فريق التفقد: مثلا لو كانت المدرسة المعنية تشتكي من مشكل العلاقات مع الأولياء قبل التفقد ويكتشف فريق التفقد خللا آخر فيها، مثلا مشكل في تدريس الرياضيات فعليها إذن الإسراع بإصلاح مشكل الرياضيات قبل مشكل الأولياء تماشيا مع توصيات فريق التفقد الموافِقة لتعليمات الوزارة.

-         يتمتع سلك التفقد ببعض الاستقلالية في إصدار قراراته.

-         يحتكر الجهاز المركزي للتفقد مهمة التفقد في الوطن فلا وجود إذن لمتفقدين على المستوى الجهوي أو المحلي.

-         تتمتع المدارس بنوع من التسيير الذاتي مع توفر ميزانية خاصة لتمويل مشاريع التكوين لإطاراتها الخاصة كتكليف جامعة أو شركة تكوين خاصة للقيام بهذه المهمة.

 

ما هي نقاط القوة في نموذج التفقد المركزي؟

-         توزيع المهام الواضح: تقتصر مهمة فريق التفقد على المراقبة فقط وتُترك مهمة الدعم والعلاج للمدرسة نفسها. ألغِي الدعم البيداغوجي  وبقيت المراقبة الإدارية.  ولو اجتمع الدوران في شخص واحد، فقد يفقدان نجاعتهما مثل ما هو جارٍ به العمل في النموذج الكلاسيكي الأول المطبق في فرنسا وتونس.

-         التخفيف من ثقل البيروقراطية: يمتاز هذا النموذج بأقل عدد من المفقدين على المستوي الجهوي والمحلي لأن فريق التفقد مجمّع في وحدة مركزية تراقب كل مدارس الجمهورية.

-         يحمّل هذا النموذج كل مدرسة مسؤولية إيجاد حلول ملائمة لمشاكلها.

 

ما هي نقاط الضعف في نموذج التفقد المركزي؟

-         تعاني المدارس الضعيفة من غياب الدعم المقدم لها: مثلا مدرسة لا تتمتع بمساندة الأولياء لأنهم مهاجرون جدد مثلا ولا يعرفون اللغة أو مدرسوها يرغبون في مغادرتها لضعف نتائجها لذلك يصعب على هذه المدرسة اختيار وتطبيق الحلول الناجعة لتخطي أزمتها وتحسين النظام التربوي داخلها. تحتاج هذه المدرسة لدعم خارجي يقود خُطاها لشاطئ السلام. أضِف إلى هذه المشاكل ما ينجرّ عن الرتبة السيئة التي تحصلت عليها المدرسة بعد التفقد فقد تُخفَّض ميزانيتها لضعف مساندة محيطها وقد تهجرها أفضل الأدمغة التلمذية بحثا عن مدارس أفضل.

-         ينتج عن هذا النموذج من التفقد المركزي كثيرٌ من التوتر المسلط على المدرسة وعلى مديرها. يأتي هذا التوتر من الشعور بالنقص ومن الوعي بانعدام الإمكانات للخروج من المأزق في بعض المدارس المحرومة.

-         قد يساهم هذا النموذج من التفقد المركزي بصفة سلبية في تحديد مستقبل المدارس الضعيفة مما قد يخلق فروقا كبيرة بين المدارس المتفوقة والأقل تفوقا. قد يخدم هذا النموذج المدارس المتفوقة على حساب المدارس الضعيفة: يجلب للأولى عددا أوفرا من التلامذة المتفوقين مما يجعلها في وضعية مريحة جدا تمكّنها من اختيار الأفضل وتحصل على تلامذة متجانسين مما قد يحسّن نتائجها بصفة سريعة وملحوظة. وفي المقابل، قد تتفاقم مشاكل المدارس الضعيفة وتتراكم لأن هذا النموذج من التفقد المركزي يكتفي بكشف عيوبها ولا يساعدها على تخطّيها.

 

4.    نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب

-         يُطبق في الشيلي بعد رحيل "بينوشيه" لأن الدولة الجديدة تبحث عن شرعية في الحكم من خلال اعتماد خطة  لإلغاء الفوارق الجهوية في التنمية. ويُطبق أيضا في بعض مقاطعات سويسرا وفي بعض البلدان النامية كـ"سيرلنكا" مثلا من قِبل بعض المنظمات غير الحكومية.

-          هذا النموذجُ ينتقد النموذجَ الأول والثاني: كل مدرسة تمثل حالة فريدة من نوعها وعلى نظام التفقد عن قرب أن لا يعامل كل المدارس بنفس الكيفية مثلما هو جارٍ به العمل في نموذجَي التفقد الكلاسيكي والتفقد المركزي.

-         يعتمد هذا النموذج على المراقبة عن بعد والدعم و العلاج عن قرب. يترك المدارس المتفوقة نسبيا تتصرف بحرية واستقلالية وتسيير ذاتي. يهتم هذا النموذج خاصة بالمدارس المتدنية والتي تعاني من مشاكل وتحتاج إلى دعم.

-         اختار نظام التفقد في الشيلي تسعمائة مدرسة متدنية النتائج من بين تسعة آلاف مدرسة الموجودة في البلاد وقرر مساعدتها ودعمها للنهوض برسالتها التربوية على أحسن وجه.

-         لم يَعُد يُسمى القائم بمهمة التفقد متفقدا بل يُسمى "مشرفا تقنيا بيداغوجيا".

-         يتكفل كل مشرف بمدرستين أو ثلاث مدارس فقط. لا يقتصر دوره على المراقبة فقط مثل متفقد النموذج المركزي بل يقوم بالعمل مع إطارات المدرسة في ورشات على مدى ثلاث سنوات لتحسين النظام التربوي داخلها. مهمة المشرف ليست بسيطة بل معقدة وهي توفر حلولا أكثر من أن تخلق مشاكل. يقوم المشرف بدوره كممثل للإدارة المركزية وفي الوقت نفسه كمرافق للمدرسين يشرّكهم في تحمّل المسؤولية التربوية ويحثهم على الاجتهاد لإيجاد حلول من صنعهم تكون ملائمة لهم ولمدرستهم. يتكون فريق العمل من المشرف والمدرسين والمدير وهذا الأخير هو الذي يرأس الفريق وله الحق في تفقد المدرسين العاملين في مدرسته.

-         يتكون سلك التفقد في الشيلي من نواة مركزية قليلة العدد، متركبة من خمسة أو ستة مشرفين تقنيين بيداغوجيين يحددون سياسة نظام التفقد وجهاز جهوي يتكفل بتكوين المشرفين التقنيين البيداغوجيين المحليين وجهاز قريب من المدارس حيث يوجد العدد الأكبر من المشرفين التقنيين البيداغوجيين.

-         قلل النظام التربوي في الشيلي من عدد المدارس المحتاجة حتى يستطيع توفير مشرف تقني بيداغوجي عن قرب لكل مدرستين أو ثلاثة مدارس  ضعيفة.

-         لا يهتم المشرف التقني البيداغوجي بالمسائل المالية الخاصة بالمدرسة حتى يتفرغ لمهمة الدعم والعلاج البيداغوجي.

 

ما هي نقاط القوة في نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب؟

-         نظام تفقد هرَمِي حيث يوجد عدد قليل من المشرفين التقنيين البيداغوجيين في القمة والعدد الأكبر من المشرفين يتواجد في القاعدة قرب المدارس يعني في المكان المناسب الذي نحتاجهم فيه. بيروقراطية قليلة ورجال ميدان كُثر.

-         طاقم عمل قادر على تقديم خدمة مرنة للمدرسة والمجتمع، يركّز على المدارس الأكثر ضعفا من غيرها.

-         تخلّص هذا النموذج من التفقد من عبء التفقد الإداري وركز على الدعم والعلاج عن قرب للمدارس الضعيفة.

 

ما هي نقاط الضعف في نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب؟

-         لا يشمل هذا النموذج كل المدارس الضعيفة في البلاد.

-         عند تطبيق هذا النموذج، قد تتحسن المدرسة لكن ببطء شديد.

-         يتطلب هذا النموذج قاعدة بيانات رقمية مفصلة جدا قد لا تكون متوفرة في البلدان النامية.

-         يتطلب تغييرا جذريا في ثقافة التفقد: لا نطلب من المفقد تغيير مقاربته الذاتية فرديا لأنه خاضع إلى جهاز تفقد يعتمد على المقاربة القديمة التي تنظر بنفس العين إلى كل المدارس وكأنها متساوية وهي في الواقع متفاوتة حتى في بلدان النموذج الكلاسيكي أوالمركزي المتقدمة كفرنسا أو النامية كتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا ولبنان.

-         من حسن حظ الشيلي أين يُطبق هذا النموذج أن عدد مدارسها الضعيفة قليل نسبيا لذلك قد يصعب تطبيق هذا النموذج في جل البلدان النامية حيث تحتاج تسعين في المائة من مدارسها للدعم والعلاج عن قرب. لكن يبقى دائما من الأفضل أن نقدّم الدعم والعلاج عن قرب بصفة جدية مثلا لثلاث مدارس متدنية فقط عوض أن نقدمه بصفة سطحية لـخمس وعشرين.

-         المدرسة التي تمتعت بمساعدة المشرف لمدة ثلاث سنوات فقط، قد تنتكس بعد مدة قصيرة وتعود من جديد لمجابهة مشاكل جديدة لذلك يفكر المشرفون على هذا النموذج في الشيلي في تمديد مدة الإشراف على المدرسة والدعم عن قرب إلى خمس سنوات عوض ثلاث.

-         استعانت الوزارة في هذا البرنامج  بالمتفقدين القدامى الذين عملوا في فترة حكم "بينوشيه" بعد ما أقنعتهم بالمقاربة الجديدة وهي الدعم والعلاج عن قرب عوض التفقد الكلاسيكي المعمول به قبل 1990 أي في عهد "بينوشيه".

 

5.    النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية

-         يُطبق في البلدان الأسكندنافية مثل فنلندا والنرويج والدنمارك.

-         في سنة إحدى وتسعين وتسمائة وألف، قرر الفنلنديون إلغاء العمل نهائيا بنظام التفقد بنماذجه الثلاثة السابقة (أحيّيهم وأشدّ على أياديهم بصدق وإخلاص وسوف يأتي يوم-في تونس العزيزة-نلتحق بركبهم رغم مقاومة المحافظين الجدد والمتكلسين فكريا وعلميا والمحنطين من سياسيين وصانعي برامج ومتفقدين وأساتذة).

-         يمتاز التعليم الفنلندي بمدرّسين أكفاء. لا يدرّس في الثانوي ولا في الابتدائي، إلا حامل شهادة جامعية تساوي الماجستير في الاختصاص. يتمتع المدرس في فنلندا بوضع مميّز بين الموظفين الآخرين والدليل أنه في استفتاء لدى الشباب حول أفضل مهنة ترغب في ممارستها بعد التخرج، كان الجواب بأكثرية ساحقة: مهنة التدريس.

-         يتجمع الأولياء ويكوّنون جمعيات مساندة لمدرستهم التي تشغّل أولا أولاد منطقتهم وكلّهم يعتبرون المدرسة ملكهم الشخصي ويحافظون عليها كما يحافظون على منازلهم وممتلكاتهم الخاصة.

-         يراقب المدرسون أنفسَهم بأنفسِهم وقد تتدخل لجنة المدرسة المتكونة من المدير والأولياء والمدرسين بالمراقبة الإدارية وتوجِّه مثلا، لوما لأستاذ كثير التغيّب عن العمل.

-         تتمتع فنلندا بشعب متجانس الثقافة والتراث والدين والعرق ولا توجد فيه أقليات ذات تأثير محسوس. لذلك لا يحتاجون إلى جهاز تفقد يكون من أبرز مهامه التوحيد بين الثقافات المختلفة في  الجهات والبلديات في جميع أرجاء الوطن فهي موحدة بطبيعة سكانها المتجانسين.

-         تتمتع المدرسة الفنلندية باستقلالية في التسيير والدعم والعلاج والمراقبة الإدارية والبيداغوجية. تطبق المدرسة  الأسكندينافية نظاما تربويا متكاملا ومستقلا لكنه متجانس مع ما يقع في المدارس الوطنية الأخرى بطبيعته وبطبيعة شعب فنلندا المتجانس ثقافيا.

-         توجد مراقبة مركزية عن بعد قد تتدخل عند اللزوم في شؤون أي مدرسة في القطر.

 

 ما هي نقاط القوة في النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية؟

-         تحميل المسؤولية للأولياء والمدرسين في تسيير مدرستهم. يرتكز هذا التحسيس بالمسؤولية  على فكرة أن التغيير لا يأتي إلا من الداخل (قرآن: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم". أطلب الإذن وأنشد العذر من المليار ونصف مسلم المحترمين وأنسج على منوال الآية لغويا وليس عقائديا ما يلي: "إن التفقد لا يغيّر ما بمدرسة حتى يغيّر مدرّسوها ما بأنفسهم").

-         يمتاز هذا النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي بخلوه من أسوأ مظاهر البيروقراطية.

 

ما هي نقاط الضعف في النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية ؟

-         قد يُمتَّعُ بمزايا هذا النموذج المدارس المتفوقة فقط على حساب المدارس الأقل تفوقا رغم ندرة هذه الأخيرة في البلدان الإسكندنافية.

-         لو استوردنا هذا النموذج في البلدان النامية فقد لا يُكتب له النجاح لتدهور المستوى العلمي والبيداغوجي والتعلّمي لدى المدرسين ولانعدام الوعي التربوي الداعم للمدرسة عند جل الأولياء خاصة وأن هؤلاء الأخيرين يهابون سلطة المدير وسلطة المدرّسين تُجار العلم ومحتكري المعرفة، أعني مقاولي الدروس الخصوصية الذين لا يحترمون ضوابط الدروس الخصوصية ومنها توفير مكان مناسب للتعلّم وليس "ڤاراجا" ضيقا وغير صحي. والمدرسون عمومًا يهابون بدورهم المتفقدين وهؤلاء الأخيرون يطبقون ما صممه واضعو البرامج وما قرره الساهرون على السياسة التربوية التابعة أحيانًا لإملاءات صندوق النقد الدولي.

-         لو أوكلنا للمدرسة جانبا كبيرا من التسيير الذاتي في بلدان ذات شعوب غير متجانسة ثقافيا، قد لا تصل نفس الرسالة الثقافية الوطنية الموحِّدة والمجمِعة لكل تلميذ مواطن ولهذا السبب بالذات نجح هذا النموذج أيما نجاح في فنلندا دون غيرها من البلدان غير المتجانسة ثقافيا.

 

الخاتمة

-         أستشرف سؤالا، قد تسألونه بعد قراءة المحاضرة: هل نستطيع تمييز أو تفضيل نموذج على نموذج آخر من بين النماذج الأربعة المذكورة أعلاه؟

-         الجواب: هي أمثلة متعددة لواقع متنوع في العالم وكل نموذج منهم يتعرّض إلى مصاعب وقد يتأقلم مع بلاد أكثر من بلاد أخرى.

-         السؤال الآخر المهم: ما هي العوامل التي قد تؤثّر على نموذج من هذه النماذج الأربعة؟

-         الجواب: خمسة:

-         نجاعة و كفاءة الإطار التربوي وإمكانات البلاد المعنية: نأخذ مثلا بلدان العالم الثالث، حتى ولو أرادت تبنّي برنامج طموح فلن تقدر على تطبيقه لقلة مواردها المادية والبشرية.

-         المستوي العلمي والبيداغوجي والتعلّمي ومهنية المدرسين.

-         نقص الاهتمام بالشأن التربوي وعدم إعطائه الأولوية لدى الأولياء ولدى الرأي العام في البلاد.

-         وجوب إرساء طريقة التسيير الذاتي داخل المدرسة.

-         مستوى وطبيعة الفروقات الاجتماعية والثقافية في بعض البلدان حيث تسعى السلطة السياسية إلى تخطي هذه العوائق الحضارية والتاريخية. انتهت المحاضرة

 

سأضيف فقرة قصيرة مترجمة، لم ترِد في المحاضرة، وجدتها في الأنترنات أيضا وأعجبتني: قالت متباهية، أستاذة التاريخ والجغرافيا في معهد "فرنسي- فنلندي"، "إيستال فوهر بريجانت": "هنا لا يُسَلّطُ علينا تفقد وهذا الوضع الجديد ساعدني على التجديد البيداغوجي. في فرنسا، يحاول المدرسون بكل ثمن أن ينالوا إعجاب المتفقد وأن لا يثيروا استياءه على الأقل والتفقد يشلّ حركتهم ويعيق تعاونهم مع بعضهم في صلب فريق التدريس. هذه الحرية التي أتمتع بها الآن قد تمثل مع ذلك خطرا على الأساتذة الذين يحاولون التحرّر من سلطة البرامج أو الذين يبالغون في التخفيف من عبء رسالتهم التربوية".

 

تستطيعون تشغيل رابط المحاضرة التالي:

http://www.esen.education.fr/fileadmin/user_upload/Modules/Ressources/Conferences/flash/09-10/de_grauwe/de_grauwe_a_inspection/de_grauwe_a_inspection_FlashLD_784x500.html

أنهي مقالي بطرح إشكالية كما يطالبنا بإلحاح متفقدونا الأفاضل وهم على صواب: لماذا لا تُعرَض هذه المحاضرة على كل المدرسين في جميع الاختصاصات في يوم بيداغوجي مشترك وتحت إشراف متفقدينا المحترمين ّ لتعميم الفائدة؟

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire