حسب مقاربته "البنائية" (Le constructivisme) في اكتساب المعرفة لدى الطفل, يقول "بياجي"، عالم بسيكولوجيا النمو الذهني عند الطفل
(Épistémologue génétique de l’enfant)،
يبدو أن الطفل يتملك المعرفة عندما يتفاعل مع محيطه المادي. ويقول "فيـﭬوتسكي" عالم البيداغوجيا الروسي, حسب مقاربته "البنائية الاجتماعية" ( Le socioconstructivisme )، يبدو أن عامل التفاعل مع المحيط المادي غير كافٍ لاكتساب المعرفة ويضيف عاملا ثانيا يتمثل في التفاعل البشري مع الآخرين أندادا وبالغين. أما الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري فتقول: "يجب تهيئة وسط خاص يُوضع فيه الطفل مع السماح له بالتفاعل مع محيطه التربوي المجهّز بأدوات التعلم المونيتسورية وتحريره من وصاية المربي حتى يتمكن من التعلم الذاتي
(rôle de l’enseignant : observer et non juger)".
سكان قرية "جمنة
الخمسينيات" لم يقرأوا بيداغوجيا "مونتيسوري" ("ساعدني على أن
أتعلم وأكتشف بنفسي") ولا بنائية "بياجي" ("اتركني أعرف
وأكتشف بنفسي") ولا سوسيوبنائية "فيڤوتسكي" ("اعطني معرفة
أعلى قليلا من مستوايَ حتى أرتقي وأكتشف بنفسي") ولا يعرفون شيئا عن نظريات
علوم التربية الحديثة لكنهم طبقوا ما جاء فيها أحسن تطبيق دون الادعاء الواعي
بتملك النظرية البيداغوجية العلمية: كنا، أبناء الحي الواحد، أطفالا ذكورا صغارا
لم نتجاوز سنّ السادسة، نغادر بيوتنا صباحا دون مرافق كهل. نتجمع بكل حرية في مكان
فسيح غير بعيد عن أهالينا. بستان فيه نخل وظل دون زرع. نبقى فيه بالساعات, نلعب
ونلهو كما يحلو لنا دون رقيب كهل. نتشاجر بعض الأحيان لكن سرعان ما نتصالح لكي
يستمر اللعب. نصنع لُعَبَنَا بأنفسنا من علبِ سمك "السردين" و علبِ معجون
الطماطم, نصنع سيارات وشاحنات مصغرة تنقل الرمل وتفرغه آليا. نتقمص أدوارا متنوعة
بالتداول, البائع والشاري, السارق والحرس, الأب والابن, الفائز والخاسر, الغالب
والمغلوب. لباسنا خفيف وأقدامنا حافية تدوس على أرضٍ حنون في مناخٍ حارٍّ. لمجتنا
تنزل دون سابق إعلام من السماء تَمْرًا أخضر أو أصفر أو ذهبيا حسب فصول العام أو
"نرمي من كان عن الأحقاد مرتفعا فتساقط علينا رطبا جنيا" (النخلة) وعندما
نجوع, نعود إلى ديارنا فنجد أما حنونا في انتظارنا لا تلومنا ولا تنهرنا بل تقدم
لنا ما جنت وطحنت وطبخت بيديها طعاما طبيعيا لذيذا دون استعمال وسائل الطبخ
الاصطناعية العصرية, وجبة بيولوجية صحية خالية من الأغذية المصنعة المغشوشة و باهظة
الثمن. وفي المساء, نُعيد الكرّة مع تغيير "وضعيات التعلم" التي نختارها
بأنفسنا مثل صيد الطيور أو الجري وراء إطار حديدي لعجلة دراجة أو القفز داخل
مربعات أو الاحتفاء بسحابة أمطرت في غير موضعها. بعد خمسين عاما من هذا التاريخ
(عام 2000) وأنا أدرس دكتورا علوم التربية في جامعة كلود برنار بفرنسا، عرفتُ أن
هذه الطريقة، في اكتساب المعرفة والمهارات والكفاءات، تُسمى "البنائية
الاجتماعية". كبرنا قليلا (أربع سنوات), أخذونا للكتّاب (في جمنة نسمذيها الخلوة)
لتعلم القرآن الكريم في الجامع الكبير. كان الفناء مظلما في النهار وكان المعلم-المؤدب
جالسا وعصاه تتنقل فوق رؤوسنا برأفة وحنان. نردّد وراءه لساعات ما ينشد من كلام
حلو وموزون. نحفظه عن ظهر قلب دون شرح أو تفسير ونستوعب حسن نطقه وبلاغته ونطرب
لموسيقاه. بعد خمسين سنة، عرفتُ أن هذا النوع من التلقين يُسمى: "حمّاما
لغويا" (Bain
de langue)، هذا الحمّام يطهّرك روحيا
من الداخل ويغمرك بالمفاهيم ويكسبك في مرحلة الاستيعاب زادا لغويا ثمينا ونطقا
سليما تستثمره في مرحلة الفهم في شرح وتفسير أي أثر مكتوب, قرآنا كان أو نثرا أو
شعرا.
هبّت علينا في التسعينيات
ريح التحضر والتمدن المشوّه فانبطحنا لها دون مقاومة وفتحنا دكاكين، تبيع تربية
مشوهة للملائكة، تربية ليست علمية وليست تقليدية، وسميناها رياضا للأطفال وسجنا
فيها فلذات أكبادنا، سجنّاهم داخل فضاء ضيق وحرمناهم متعة حرية اللعب والتعلم
مجانا في مساحات شاسعة. هل صادفتَ في حياتك مَن يغش أو يتاجر بالملائكة ؟ فهل مَن
يغتصب حقوق الأطفال، طيور الجنة، يدخل الجنة يا تُرى؟ تخلى الأولياء عن دورهم
التربوي وأوكلوه لـمربين غير مختصين في التربية, أوكلوه لمنشطين انقطع أغلبهم مبكرا
عن مواصلة تعليمهم العالي, كلهم يتقاضون أجورا زهيدة, فهم إذن ناقمون على أنفسهم
وعلى ظروف عملهم, منشطون يصبّون جام نقمتهم على أبرياء في بداية الطفولة والصبا. لا
يعلّمونهم شيئا ولا يتركونهم يتعلمون بأنفسهم أو بمعية أترابهم. يفرضون على الصغار
نوعا من الانضباط المحبِط للإبداع ليتجنبوا حركيتهم التلقائية. قتلوا فيهم الخلق
والخيال وزرعوا في قلوبهم الخوف والجبن والامتثال للأوامر حتى ولو كانت نابعة من
ظالم. يعلّمونهم لغة ركيكة فلا يستوعبها الأطفال في صغرهم ولا تنفعهم في كبرهم.
يجهّزون روضاتهم بالرديء والرخيص والمضرّ صحيا من اللعب والأدوات المدرسية
ويطعمونهم وجبة غير متوازنة مطهية على نار الربح الحرام. يدرّسونهم البرنامج
الدراسي الرسمي للسنة الأولى أساسي وهم يظنون أنهم أحسنوا فعلا وقد صح فيهم قول
"يفعل المربي غير المختص بتلامذته ما يفعل العدو بعدوه". في حمام الشط،
أردتُ مرة مكرها (كانت زوجتي حينها تعمل 14 ساعة في اليوم، تقضيها بين المهنة
وشؤون البيت) ترسيم ابني في روضة, سألتُ المروضة (ما أوحش هذه الصفة التي توحي
بترويض الوحوش في السرك): هل تلقنون قرآنا ؟ هل تتركون الأولاد يلعبون بحرية ؟
أجابتني بالنفي بكل فخر واعتزاز وكأنها تتبرأ من تراثها وثقافتها ودينها. أبشّركم
أنه من حسن حظنا ومن محاسن التخلف الاقتصادي في تونس أن الروضات لم تنجح ولم
تتكاثر حتى الآن وهي الآن (عام 2016) لا تستوعب إلا القليل من أبنائنا، تقريبًا 10%.
خلاصة القول
أنا لا أدعو لرفض
العلم الحديث بل أدعو إلى إحياء عاداتنا الجيدة وإعادة صقلها من جديد وغربلة
تراثنا علّنا نجد فيه ما يتلاءم مع العصر. لم يأتِ عِلم الغرب من فراغ أو لم ينزل
من السماء ولم يكتشفوه صدفة بل صنعوه بعقولهم وتجاربهم حسب حاجتهم ووفق ثقافتهم
وتراثهم ودينهم فأصابوا وأخطؤوا ولم يتوقفوا عن التجديد والإبداع. وصل
"بياجي" إلى نظرياته في "البنائية" عبر دراسة نمو أبنائه
البيولوجيين وتوصّل "فيـﭬوتسكي" إلى
"البنائية الاجتماعية" بعد تجارب عديدة في المدرسة السوفياتية، أما
الطبيبة ماريا مونتيسوري فقد أسست نظريتها البيداغوجية النشيطة بعد دراسات ميدانية
أجرتها في فضاءات الأطفال المعاقين ذهنيا.
وفي الختام، أدعو
أبناء وطني لا سيما المتنورين منهم، أدعوهم للعودة إلى منابع ثقافتنا ونفض التراب
عن تراثنا وتقاليدنا حتى نحيِّنها ونطورها ونستنبط منها نظريات في التربية السليمة
تتناسب مع واقعنا الاقتصادي ومبادئنا وتتلاءم مع مناخنا الاجتماعي والطبيعي ولا
تتناقض مع ديننا وثقافتنا.
ملاحظة هامّة: ما قلته أنا حول مسقط رأسي جمنة يستطيع أن يقول مثله أي مواطن
تونسي من سكّان الأرياف التونسية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire