قال
أستاذي وصديقي، عالِم البيداغوجيا والديداكتيك الفرنسي (فلسفة أو إبستمولوجيا
التعليم) ، الأستاذ أندري جيوردان في كتابه "تعلّمّ" 1998، صفحة 247:
"في القرن الثامن عشر، كانت موسوعة واحدة تكفي للتوثيق لجميع معارف العصر.
أما اليوم فعلوم المخ وحدها تنتج كل عام ما يعادل كمية من المنشورات العلمية بسُمك
خمسين متر".
بعض
الخبراء يقدّرون أن المعارف البيولوجية تتضاعف كل خَمس أو ست سنوات والمعارف التكنولوجيية
كل سبع أو ثمان سنوات. أما في الروبوتيك أو تقنية المعلومات فصلوحية بعض المعطيات
لا تصمد أكثر من ثلاث سنين، وكل ثمانية
عشر شهر يُولد جيل جديد من الشرائح الألكترونية. ما هي المعارف التي ستبقى "صالحة" في 2020
أو 2040 ؟ وما هي المعارف الجديدة التي
ستنبثق من رحم القديمة ؟
القراءة والكتابة والحساب، صحيح أنها كفايات أساسية، لكنها أصبحت غير كافية للتأقلم مع متطلبات الألفية الثالثة (2050). ألفية تتناقص فيها أهمية الأخبار المكتوبة (الجرائد) وتطغى فيها الصورة (التلفزة والأنترنات)، فبأي زاد معرفي سيحل تلميذ المستقبل شفرة تواترات الصور (L`enchaînement d`images dans les journaux télévisés et les documentaires) والنصوص الرقمية (Hypertextes) ويحدد مصدرها ونجاعتها ووجاهتها. عليه إذن أن يتعلم كيف يتعلم: "لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد". شيء يحتاج إلى بعض التفكير وإلا فَقَدَ المَثَل الصيني معناه. على الأفراد تحضير أنفسهم لإدارة المنَظَّم
(L`organisé)
وغير المؤكد (L`incertain) وغير المنتَظر (L`inattendu). تغيرت الأولويات ولم
يعد مطلوبا من المدرسة أن تكتفي بتعليم محتوى المواد بل عليها إتاحة الفرصة والوقت
للتلميذ للإلمام بجميع معارف عصره واكتشاف ما خفي منها
("أن الغباوة في اعتقاد الفرد فهم الأشياء، لا بكشف ما حجب منها، بل بتصديق
ما كشف منها") وما ليس واضحًا أو
مألوفا وتدريبه على طريقة استقصاء تجعله قادرًا على مجابهة التحديات الحالية
والمحتملة.
يبدو أن تطويرَ ملكة التعلم عند التلميذ تُعدّ أهم من حشو دماغه بمعلومات قد تفقد قيمتها بسرعة جنونية. يصبح من الأكيد إذن وقبل كل شيء أن نكوّن عقولاً قابلة للتساؤل حول العالَم وحول نفسها ونربي مواطنين قادرين على مناقشة الرهانات الاجتماعية المعاصرة. فلنرجّح إذن تملّك منهجية في التفكير ونمنحها مكانة هامة في التعليم. على التلميذ أن يضع موضع التنفيذ البحوث الوثائقية والتجريبية والشمولية
(Systémiques)
أو ممارسة النمذجة
(La modélisation)
والمحاججة (L`argumentation) والمحاكاة (La simulation). لم يعد المطلوب فقط تعلّم حل
المسائل بل أصبح المُلِحُّ أكثر هو التوصّل إلى بسط المسائل بوضوح داخل وضعية
تعلمية. ولم تعد الأولوية تتمثل في البحث عن المعلومات (Les connaissances) بل أصبحت
الأولوية في فرزها وترتيبها ومناقشة وثاقة صلتها بالموضوع...
إن إعطاءَنا
الأهمية لتملّكِ تمشيات في التفكير وتطوير شخصية التلميذ
لا يجب أن يحجب عنا أهمية المعلومات. لكن وفي هذا الإطار بالذات فإن التغييرَ في علاقتنا بالمعارف (Les savoirs)
يفرض نفسه هنا أيضا، وما زال للمعلومات سببٌ للوجود، ودونها لا نستطيع تطوير
سلوكيات (Des comportements) أو معالجة منهجيات (Des méthodes). على شرط أن تكون معلومات قابلة
للتلف البيولوجي (« biodégradables ») حتى لا تُحنِّط الفكر في لحظة
يحتاج فيها إلى مرونة قصوى. لكن ومن ناحية أخرى يجب استغلال بعض المفاهيم
"الكبرى" كعناصر منظِّمة أو ضابِطة للفكر. هذه المبادئ الأساسية يجب أن
تُختار من أجل إيجاد رابط بين أخبار العالم ومن أجل تمكين الفرد من التموقع وتجديد
ترسانته التخيلية (الزمن، الفضاء، المادة، الأخبار، التنظيم، الضبط، الذاكرة،
التطوّر، إلخ).
وفي
نفس الوقت يصبح من الضروري نقد المعارف التي نتناولها. والأهم من المعارف نفسها هو
التفكير في الرابط بين المعرفة والثقافة والمجتمع أو بين المعارف والقِيم (Les connaissances ne changent
pas automatiquement les valeurs). على التلميذ أن يتفطن لإمكانية
تواجد عدة حلول لمشكل واحد، وكل حل منهم يُفهم في سياقه أو قد لا يوجد حل بالمرة
أو قد تكون الحلول أسوأ من المشاكل نفسها ويصبح السؤال أهم من الجواب... أو يحيلنا
الحل على إطار جامد متكلس، والسؤال على استقلالية التفكير لدى الفرد. وفي هذا
الاتجاه تصبح المعرفة تساؤل وجيه في محله أو ربط وإبداع وبلورة لوجهة نظر. تصبح المعرفة
أداة في خدمة مشروع: مشروع فرد يحضنه مجتمع".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire