زميلُ فيزياء
متقاعد، هَرَمٌ من أهراماتِ تدريسِ الساعاتِ الخصوصيةِ في
"الڤاراجات"، رافقني في مظاهرة الأساتذة بشارع بورڤيبة بالعاصمة. أنا أمشي جنبَه صامتًا، لكنني وكلما ردّدَ شعارًا إلا وحفرتُ خلفَه بِفأسِي
الإبستمولوجيةِ.
- غرَّد مع الجوقةِ، أطربني، رفع صَوْتهَ الجهوري بالغناءِ -والصوت لا يكبُرُ مع السنِّ-، تفوّهَ وقال: "الأستاذ يريدْ... عدالة جبائيَّة". توجّهتُ إلى حضرتِه، نظرتُ في عينَيه، خِفتُ، تردّدتُ، فرّ الدمُ من وجهي إلى عضلاتي تحسّبًا لأي طارئٍ قد يطرأ، تسمّرتُ في مكاني، لملمتُ ما تبقيَ في جعبتي من شجاعة، وما بقيَ فيها إلا القليلُ القليلُ، ثم نَطَقْتُ: تطالِبُ المتهرّبينَ بالقيامِ بواجبِهم ودفعِ ضرائبِهم بالكاملِ، وهل دفعتَها أنت -حتى بالناقص- على ما كسبته خلال عقودٍ مقابل "لِيتِودْ"
(L`étude)؟
-
لم يسمعني، عَمِلَ "وِذْنْ عْروسْ"، ثم تابعَ الجوقةَ
بِصوتٍ أعلى: "التعليمْ
موش للبِيعْ.. يا حكومة التجويعْ". ومَن أشطَرُ منك في بيعِ العلمِ، سَلْعَنْتَهُ،
عَلَّبْتَه، ودون "أومْبَلاّجْ" في الدكاكين العفِنة عرضتَه
(دون تغليفٍ)؟
- واصَلَ رفيقي مُتَخَمِّرًا وكأنني لم أنبِسْ بِبِنتِ شفةٍ: "مدرسة شعبيَّة... تعليم ديمقراطيّ.. ثقافة وطنيَّة". ومَن بَلانا بالطبقية، وقضى على ديمقراطيةِ التعليم، ودفن مدرسة الجمهورية وصلى على جنازتها
(L`école républicaine de Bourguiba, la Nôtre).
مدرسة الجمهورية هي الضامِنُ الوحيدُ لمبدأ تكافؤِ الفُرَصِ
والمساهِمُ الوحيدُ في التحريكِ الاجتماعي (Le brassage social) والمدافعُ الوحيدُ على قيمةِ "النجاحُ استحقاقٌ"، والمحرّكُ الوحيدُ
لـلمِصعدِ الاجتماعي (L’ascenseur
social)، مصعدُ مَن لا مِصعدَ له من التونسيين الفقراء والمحتاجين
والمهمّشين، وما أكثرهم في بلدي، والحمد لله الذي لا يُحمَدُ على مكروهٍ سواه؟
-
تمادى شماتةً: " قُصْ
نْهارْ... قُصْ شْهَرْ... الأستاذ دِيما حرْ". أنا هو الحر، تحملتُ ضَنَكَ
العيش، ضِيقَهُ وعُسْرَهُ، من أجل هذه اللحظة الحرّةِ، أما أنت فلم تَرَ منه إلا
يُسْرَهُ، تغيبُ شهريةٌ، تجني من "لِيتِيدْ" ثلاثةً، قلتَها لي بِعظمةِ
لسانِك.
-
نَهَقَ: "حق
الأستاذْ... واجبْ... حق التلميذْ... واجبْ". الله لا يحقّ لك حقًّا،
أنانيتُك وجَشَعُك وكُبرُ "كَرشِك" (المعدة) لم يتركوا في المدرسة أي حق
لأي مستحِق، لا الأستاذَ ولا التلميذَ.
-
علا صوته
أكثر: "وزارة الفسادْ هيَّ هيَّ... والتلميذْ هو الضحيَّة". وهل يوحدُ
في البلادِ أفسدَ منك يا تاجر القِيْمْ، يا عديم المروءةِ وفاقد الشهامةِ ومُحطِّم
الهِممْ.
خاتمة:
"هَيَّ يِزّيكْ اليُومْ، صعبت عليَّ بالمصري"، تذكرتُ مزايا بعض الشرفاء
منكم، الذين تصدّقوا عليَّ مشكورين بتدريس أولادي الثلاثة مجانًا، خجلتُ من نفسي
وأعتذر من الشرفاء على ما أتاه السفهاءُ. أحيّى عدم الجشعينَ من أساتذة الساعات
الخصوصية الذين يكتفون بالقليل لمحاربة
الفقر، هذا حلال محلل، وهم منا وفينا وإلينا، لحمنا ودمنا، نحن معشر الأساتذة، رُسُلِ
أشرفِ مهنةٍ في التاريخِ على الإطلاقِ. مع الإشارة الهامة والمهمة أنه -وحسب قانون
وزارة التربية- يحق لأي أستاذ أن يمارس
هذا النشاط التربوي بمقابل معقول (غير مُشِطٍّ) خارج المعهد على شرط أن لا يزيدَ
العددُ على 12 تلميذ موزّعينَ على ثلاث مجموعات، كل واحدة تضم أربعة تلاميذ، ويدرُسون
في ظروفٍ صحيةٍ وبيداغوجيةٍ طيبةٍ، وأن
لا يكونوا من تلامذةِ المعنِي المباشرينَ.
تعليق خيالي على مقالي الخيالي: حوارٌ مختلقٌ ومحضُ تشويهٍ وشيْطنةٍ وتَشنيعٍ وافتراءٍ
على القاعدةِ الأستاذيةِ الشريفةِ في نضالها المشروع. افتراءٌ نابعٌ من أستاذٍ
فاشلٍ، تَشنيعٌ يقطرُ غيرةً وحسدًا، وحتى إن وُجِدَ هذا الصنفُ من الأساتذة فهم
قلّةٌ، "كانْ طارَتْ واحد وَلَّ اثنينْ في كل ولاية"، والشاذُّ يُحْفَظُ
ولا يُقاسُ عليه، والظاهر أنك هرمتَ وخَرِفتَ يا سي كشكار، أعلمُكَ أن الجسمَ
الأستاذيَّ جسمٌ معافَى مائة بالمائة، سليمٌ من كل ما ذكرتَ، وهو كالثوبِ الأبيضِ
لا يأتيه الدنسُ لا من الخلفِ ولا من الأمام، والأساتذة -جميعهم ودون استثناءْ-
أشرفُ من الشرفِ نفسِه، يا عديم الولاءْ وقليل الوفاءْ!
إمضاء مواطن العالَم
"المثقّفُ هو هدّامُ
القناعاتِ والبداهاتِ العمومية" فوكو
و"إذا كانت
كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، السبت 15 ديسمبر
2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire