ملاحظة أخلاقية: أنقدُ رفاق الأمس لأنني
أحب لهم كل الخير، ولستُ أفضلَ منهم حتى
أنصحهم، خاصة وأنني في القريب المتوسط كنتُ مثلهم (قبل 1990، تاريخ انهيار التجربة
الشيوعية)، وربما، في جوانب عديدة، لا زلتُ، طواعية في بعض المبادئ ورغمًا عن أنفي
في أخرى، أشبههم. أتوجه إليهم، وبكل أدبٍ ولطفٍ أقول لهم: لا أقصد فرض رأيي عليكم
بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى مقاربةٍ أخرى وعلى كل مقال سيء نرد
بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي.
لُبُّ الموضوع:
منهجيًّا سأختصر وأركّز على ثلاثة أسباب فقط لتحليل هذه الظاهرة العجيبة، دون تعميمٍ طبعًا، فقد تجد أمخاخ يساريين أفرغ من
فؤاد أم موسى ولا شيء يعشش داخلها سوى الجهل، كما قد تجد يساريين جهابذة في
المعرفة والثقافة. النوعان، كأفراد هم أحرار، يكفروا، يكرهوا، يتحمّلون مسئولة
سلوكاتهم ومعتقداتهم. المشكلة الحقيقية تنحصر في السياسيين الذين يرشحون أنفسهم في
الأحزاب رافعين شعار "من أجل خدمة المجتمع التونسي المسلم"، هؤلاء
الأخيرين ليسوا أحرارًا بل يجبوا عليهم أن يتكلموا بلسانه (المجتمع)، أن
ينطقوا بمنطقه، أن يخضعوا لقانونه. لا يوجد أمامهم،
ولا في حوزتهم، خيارٌ آخر، وإلا يعتزلوا الشأن العام بلا رجعة ويتمتعوا على
المستوى الشخصي بمزايا الحق في حرية المعتقد والضمير، حق يكفله لهم ولغيرهم دستور
الجمهورية الثانية، وكفى اليساريين شر النضال:
1. العَلمانية أو اللائكية التي يتبنّاها اليسار التونسي هي لائكية مستوردة أو مندسّة أو مفروضة أو مُغرية، لائكية الثورة الفرنسية، لائكية قرن "الأنوار" (18è
Siècle, Siècle des lumières)،
لائكية مُعادية تمامًا للدين المسيحي والتي كان شعارُها المعبِّر جدًّا "آخر أمنية أن يُخنقَ آخر ملك بأمعاء آخر
قِسّ" (Je voudrais, et ce sera le dernier et
le plus ardent de mes souhaits, je voudrais que le dernier des rois fût
étranglé avec les boyaux du dernier prêtre. Jean Meslier, paradoxalement
c’est un français, prêtre et philosophe des Lumières, 1664-1729, son existence n'a été connue qu'à partir de la publication en 1762 par Voltaire, sous le titre de Testament de J. Meslier).
سيرة ذاتية وتَحوّلٌ مفاهيمي متأخر بطيء ومتدرّج (Un changement
conceptuel progressif):
أنا، كيساري، كنتُ ماركسيًّا مثل رفاق الأمس الذين طبّقوا عليَّ مجازيًّا "حد
الردّة" وأخرجوني من "مِلّة ماركس"، ملتهم، وتَجاهلوا قصدًا ما
أنشر أو قرأوه سرًّا ثم أنكروا. كنتُ أتبنّى اللائكية الفرنسية، لكنني الآن، وبعد
اطلاعي المكثف على أدبيات العلمانية الأنـﭬلوساكسونية (بريطانيا، أمريكا، ألمانيا،
البلدان الأسكندنافية)، تركتُها وتوفقتُ والحمد لله، بعد جهدٍ جهيد، في نَزْعِ
فتيلِ البغض للإسلام والإسلاميين. المفارقة الكبرى تكمن في أن
قراءاتي بالفرنسية لمفكرين فرنسيين هي التي ساعدتني على تبني العلمانية الأنـﭬلوساكسونية (Francois Burgat, Joseph Confavreux, Edgar Morin, Alain Gresh, Gilles Kepel, Amin
Maalouf, Guy Haarscher, Michel Onfray, etc).
إضافة فيلسوف حمام الشط، جوابًا على سؤال "ما سِرُّ
الاختلاف بين العلمانيتَين؟": ربما لأن البلدان الأنـﭬلوساكسونية
هي بلدان بروتستانتية، بلدان أنجزت ثورتها الدينية منذ القرن 15م، تخلصوا من سلطة
البابا وتصالحوا حديثًا مع دينهم، أما فرنسا فكانت ولا تزال دينيًّا دولةً كاثوليكيةً تقع تحت هيمنة البابا وسلطة مركزية الكنيسة المسيحية.
2.
غَلَّطَتْهُمْ قولة ماركس الشهيرة "الدين أفيون الشعوب"، ووقفوا في
قراءتها عند "ويلٌ للمصلّين": بالله عليكم، أيها الماركسيون، اقرأوا
جملة ماركس كاملة غير مبتورة، من أولها إلى آخرها، ولا تكتفوا بعبارة "الدين
أفيون الشعوب" التي وردت في نهايتها، عبارة انتُزِعت من سياقها. انتبهوا: نفس الجملة تبدأ بعبارة
أدق "الدين صرخة المظلوم، الدين قلب عالَم بلا قلب، الدين روح عصرٍ بلا
روح. الدين هو أفيون الشعوب"".
Karl
Marx: La religion est le soupir de la créature accablée par le malheur, l`âme
d`un monde sans cœur, de même qu`elle est l`esprit d`une époque sans esprit.
C`est l`opium du peuple
رأي الفيلسوف الإيراني علي شريعتي حول قولة ماركس (كتاب "دين ضد الدين"، تأليف الدكتور
الشهيد علي شريعتي، عالِم إسلامي إيراني
قَرَوِي، صديق سارتر، تخرّج من جامعة السوربون بباريس، اختصاصه "علم الاجتماع
الديني"، ترجمة حيدر مجيد، مؤسسة العطار الثقافية، دار الفكر الجديد، العراق، النجف الأشرف،
الطبعة الأولى 2007، 225 صفحة): "العوامل الأساسية لدين الشرك - كما يعددها
الإلحاديون بحق - هي الجهل والخوف والمالكية والتمييز الطبقي. إن هذه الأمور التي
يذكرها الإلحاديون هي حقائق لا يمكن إنكارها وإن قولهم - الدين أفيون الشعوب جاء
ليخضع الناس للذل والهوان والجهل والتخلف والمصير المجهول - هو قول صحيح لا يمكن
إنكاره والنيل منه. (...) ولكن أي دين هذا؟ إنه الدين الذي هيمن دائما على
التاريخ- سوى حقب زمنية قصيرة لمعت كالبرق ثم انطفأت - إنه دين الشرك مهما كانت
أسماؤه ومسمياته، حتى ولو سمي بدين التوحيد أو دين موسى أو دين عيسى أو ما اصطلح
عليه بخلافة النبي أو خلافة بني العباس أو خلافة أهل البيت أو غير ذلك من الأسماء
والمسميات. إنه دين شرك، ودعاة هذا الدين مشركون جاؤوا بلباس الدين وباسم الدين
والجهاد والقرآن". (مواطن العالَم: ما سمّاه علي شريعتي بـ"دين الشرك"،
أسمّيه عندنا بـ"التديّن الإسلامي الناقص أو الشكلاني أو الطقوسي أو
الانتهازي أو المزيّف أو بلغة أوضح "أقِمْ الفرضْ وانقُبْ الأرضْ").
3. غَلَّطَتْهُمْ أيضًا كذبة "الدين مسألة شخصية
وعلاقة عمودية بين الخالق والمخلوق": لا يا سادتي يا كرام، الدين جاء لينظّم
حياة البشر ويُقنّن علاقاتهم ببعضهم البعض، فهو إذن ليس مسألة شخصية بل مسألة
اجتماعية بامتياز أو لا يكون، والحساب وحده هو بالفعل علاقة عمودية بين الخالق
والمخلوق. والدليل أن الله قد يغفر لك تهاونَك في الالتزام بعباداتك حياله، لكن لن
يغفر لك ظلمك لأخيك الإنسان مهما كان دينُ هذا الإنسان. أما الإيمان بمبدأ "الاستقامة الأخلاقية على المستوى
الفردي" (Adepte de l’orthodoxie spirituelle à l’échelle
individuelle) فهذه مسألة شخصية بامتياز
وسلوكٌ غير كاملٍ قد يتوفّرُ عند المؤمن والملحد على السواء.
إمضائي (مواطن العالَم، أصيل
جمنة ولادةً وتربيةً، يساري غير ماركسي مستقل، غاندي الهوى ومؤمن بمبدأ "الاستقامة الأخلاقية على المستوى
الفردي" - Adepte de l’orthodoxie spirituelle à l’échelle individuelle):
"وإذا
كانت كلماتي لا تبلغ فهمك، فدعها إذن إلى فجر آخر" (جبران)
À un mauvais discours, on répond par un bon discours et non par la
violence. Le Monde diplomatique
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 1 أكتوبر 2019.