ما هي أسباب عدم قدرة التلميذ
التونسي على توظيف معلوماته؟ مواطن العالم د. محمد كشكار
تاريخ أول
نشر على النت: حمام الشط في 12
ديسمبر 2010.
إشكالية تعترضني يوميا كأستاذ
في القسم: ما هي أسباب عدم قدرة التلميذ التونسي على توظيف معلوماته؟
المكان : الجمهورية التونسية.
الزمان: الثلاثية الأولى من العام الدراسي 2010/2011.
المستوى التعليمي: السنة أولى ثانوي (ما يقابل أربع سنوات قبل الباكلوريا).
المادة: علوم الحياة و الأرض باللغة الفرنسية.
اللغة: رسميا الفرنسية و شبه رسميا العربية: كل جملة أكتبها
أو أقولها، أترجمها بالعربية نظرا لمستوى التلاميذ المتدني في اللغة الفرنسية. بعض
زملائي في العلوم (علوم الحياة و الأرض والرياضيات و الفيزياء و التقنية) - و أنا
أومن أن لكلٌّ أستاذ طريقته الخاصة في إبلاغ المعلومة و لا تعلو طريقة على أخرى في
البيداغوجيا - ذهبوا إلى الحل الأسهل و
الأجدى ظاهريا و آنيا، المتمثل في تدريس العلوم باللهجة التونسية الدارجة المهذبة في القسم و في
الدروس الخصوصية تفاديا لعائق اللغة الفرنسية غير المفهومة من جل التلاميذ
التونسيين خريجي التعليم الأساسي المعرّب. قد يفهم التلاميذ أحسن بهذه الطريقة و
قد يفرح الأستاذ بمشاركة تلاميذه و تجاوبهم لكن ينسى الاثنان أو يتناسيا أن
الامتحان الرسمي، في فروض المراقبة و الفروض التأليفية، يُقرأ و يُكتب بالفرنسية فقط
و أن كل الشعب العلمية في الجامعة تُدرّس بالفرنسية فقط.
بكل لطف و صدق و دون مزايدة
أو مجاملة أو أبوّة أو تعال فكلنا في " عدم الكفاءة" تونسيون حسب نتائج تلامذتنا الأوائل في عيوننا و الأواخر في تقييمات
منظمات عالمية مثل تقييم منظمة "تيمس"(الاتّجاهات في الدراسة العالمية للرّياضيات والعلوم) و منظمة "بيزا" (برنامج التقييم الدولي للطلبة) وهو عبارة عن مجموعة من الدراسات
التي تشرف عليها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية كل ثلاثة أعوام بهدف قياس أداء
الأنظمة التربوية في البلدان الأعضاء وفي بلدان شريكة (انظر
مقال حمدي بشير حمدي في الفايسبوك بعنوان "فشل السياسة التعليمية.
تتناقض هذه الشهادة العالمية العلمية
و الموضوعية في "عدم كفاءتنا" في تكوين تلامذتنا مع شهادة الامتياز
الصادرة عن وزارتنا الموقرة و هي شهادة
غير علمية و غير موضوعية تتجسم في نتائج الباكلوريا التونسية المضخمة بالإسعاف.
بعد هذا التمهيد غير المريح
لي و لزملائي، ألفت نظر زملائي المحترمين و تلامذتنا الأعزاء إلى أهمية اللغة
العلمية السليمة في إنتاج العلم. يبدو لي أن العلم لا يقتصر على طرح الإشكاليات
العلمية و فهم و حل المشاكل فقط بل يتجاوز هذه المرحلة المهمة إلى التعبير الكتابي
و الشفوي الضروري لنشر هذه المعرفة بلغة علمية سليمة. نلاحظ أن جل العلماء و منتجي
المعرفة يشتغلون أساتذة في الجامعات و كتّابا في المجلات العلمية المختصة لذلك وجب
عليهم إتقان لغة حية و من المستحسن أن تكون الأنقليزية عوض الفرنسية و للأسف
الشديد لا يمكن أن تكون العربية في عصرنا هذا لتخلف العرب في كل المجالات العلمية
الحديثة. لا توجد مجلة علمية واحدة مختصة ذات قيمة علمية عالية مكتوبة بالعربية و
حتى العلماء الفرنسيون أصبحوا مجبورين على النشر باللغة الأنقليزية، اللغة العلمية
العالمية المتواجدة في الساحة دون منافس.
الأستاذ و التلميذ التونسي هم
ضحايا و مسؤولين في الوقت نفسه. مسؤولين لأنهم لم يبذلوا مجهودا إضافيا لسد
الثغرات في التكوين العمومي الرسمي. ضحايا سياسة تربوية تونسية تسمح بتدريس العلوم
بالعربية من السنة الأولى إلى السنة التاسعة أساسي و فجأة و في السنة الموالية أي
الأولى ثانوي (ما يقابل أربع سنوات قبل الباكلوريا)، يجد التلميذ نفسه غير مؤهل
لمتابعة دروس العلوم بالفرنسية فيتقوقع حول نفسه و ينغلق و يبتعد شيئا فشيئا عن
التعلّم لعدم تسلّحه بأدواته الضرورية و خاصة الأداة الأساسية المتمثلة في اللغة
الفرنسية في تونس، دولة لغتها الرسمية في الدستور هي اللغة العربية. أذكّر دائما
تلامذتي بالحقيقة المرة و هي أن اللغة الفعلية الأولى في التعليم التونسي هي
الفرنسية و ليست العربية. الانتقال من تدريس العلوم بالعربية إلى تدريسها بالفرنسية
في تعليمنا التونسي، هو تحوّل سهل في أذهان مصممي البرامج، يقع بجرّة قلم على قرار
فوقي و هو في الوقت نفسه يمثل عائقا تعلّميا (يعني ناتج عن الطرق البيداغوجية
العقيمة المستعملة من قبل الأساتذة و المعلمين) يصعب تجاوزه من قبل تلاميذ أبرياء
و أساتذة مجتهدين. التلميذ ضحية سياسة تربوية خاطئة و الأستاذ لم يشارك في تخطيط
هذه السياسة لكنه مجبر على مواجهة تداعياتها الكارثية على حساب صحته و نجاعة أدائه
البيداغوجي.
حسب وجهة نظري البسيطة: ما
دامت الوزارة عاجزة عن تعريب العلوم في الثانوي بعد عشرين عاما من تعريبها في
الإعدادي فلماذا لا تتراجع في قرارها و تُفرنس العلوم في الإعدادي مؤقتا حتى تستعد
جديا لتعريب العلوم في التعليم التونسي بجميع مراحله مثل بعض البلدان العربية حتى
لا يضيع جيل من التلاميذ بكامله بسبب التردد السياسي لوزارة التربية التونسية في
تعميم التعريب على جميع مراحل التعليم.
الدرس الرابع في برنامج السنة
أولى ثانوي في مادة علوم الحياة و الأرض: تحسين الإنتاج النباتي.
إشكالية الدرس: ما هي الوسائل التقليدية و العصرية لتحسين الإنتاج
النباتي؟
سير الدرس: في أول الحصة، طلبت من تلامذتي أخذ ورقة بيضاء و كتابة
أسماء هذه الوسائل بالفرنسية أو بالعربية دون شرح أو تفصيل و قلت لهم: إن لم تجدوا
الكلمات باللغة الفرنسية فعليكم الاستعانة بالمعجم "الفرنسي – عربي"
الملحق بكتابكم المدرسي. انتظرت عشر دقائق و مررت بين الصفوف أقرأ ما كتبوا. وجدوا
وسيلتين فقط، "الماء و الأملاح المعدنية" و المفهومين يمثلان عنواني
الدرس الأول و الثاني. حاولت إثارتهم و تحفيزهم ذهنيا بقولي: أنا متأكد مائة
بالمائة أنكم كلكم و دون استثناء تعرفون الجواب كاملا و جيدا. لم تُجد طريقتي نفعا
إلا عند بعض المتفوقين و عددهم لا يتجاوز الاثنان في كل قسم.
بعد انتظار دام خمس دقائق
إضافية، تدخلت معاتبا و مشجّعا: سأبيّن لكم بالدليل القاطع أنكم تعرفون الجواب و
تحملون معلومات لكن لم تستطيعوا توظيفها في المكان المناسب و الوقت المناسب.
من منكم لا يعرف أن حرث الأرض
يحسّن الإنتاج النباتي؟ و كانت إجابتهم الجماعية بنعم. توالت أسئلتي: من منكم لا يعرف أن اختيار البذور و استعمال البيوت
المكيفة و تخصيب التربة بالأسمدة العضوية و الري قطرة قطرة و القضاء على الأعشاب
الطفيلية و الحشرات الضارة يحسّن الإنتاج النباتي؟ توالت إجابتهم الجماعية بنعم.
استنتجت من أجوبتهم أنهم يحملون معارف كافية حول إشكالية الدرس لكن يعيقهم توظيفها
بلغة علمية فرنسية سليمة. قلت لهم أن هذه المعلومات تعتبر ثقافة علمية عامة
يمتلكها حتى رجل الشارع الأمي لكن لا يستطيع أن يعبر عنها كتابة و مشافهة بلغة
علمية فرنسية سليمة و هنا يكمن الفرق بينه و بينكم، أنتم علماء المستقبل وبناة
نهضتنا إن كتب لنا يوما أن نستفيق من سباتنا الموروث و المكتسب و ننهض من تخلفنا
الذاتي و المدبّر من عدونا الخارجي الغربي و الإسرائيلي و عملائهم الوطنيين في
الداخل.
أرجع و أقول أن التلميذ ضحية
و مسؤول في كل حالات فشله التعليمي. التلميذ هو ضحية مدرسة سلوكية لـ"واتسون"
و "سكينر"، مطبقة في تونس، تعتمد على الإثارة و الجواب مثل ما يفعل عالم
النفس السلوكي مع فأر التجارب. طريقة بيداغوجية تلقينية تعتمد الحفظ و استحضار
المعلومات يوم الامتحان دون تفكير، عبّر عنها التلاميذ في مظاهراتهم برفعهم شعار
"بضاعتكم رُدّت إليكم". صدق التلاميذ، نعم بضاعتنا نحن الأساتذة، لأن
التلاميذ لم يشاركوا في صنعها أثناء عملية التعلم و بقوا في أحسن الحالات يتفرّجون
على أستاذ يعمل بمفرده في القسم، يسأل و يجيب، يكتب بالطباشير و يفسّخ في سبورة
تقليدية عمرها مائة سنة، يحضّر المجهر و يدعو التلاميذ للمشاهدة فقط، يجرّب و يعرض
النتائج على تلاميذ مبهورين باستعراض عضلات أستاذهم القدير و الكفء. كيف تطلب من
تلميذ ترعرع في مدرسة تقتل المواهب بهذه الطريقة أن يوظف معلوماته لحل مشكل علمي يعترضه
لأول مرة مهما كان بسيطا. التلميذ مسؤول عن فشله الدراسي أيضا لأنه لم يبذل مجهودا
إضافيا و قد تفطن جل الأولياء القادرين ماديا إلى نقطة الضعف هذه في المدرسة
العمومية و ضحّوا من أجل تكوين أبنائهم في الدروس الخصوصية و أصبح الولي يصرف ما
يقارب المائتي دينار شهريا (ما يساوي المرتب الشهري الأدنى للعامل في تونس) بين دروس
الرياضيات و الفيزياء و علوم الحياة و الأرض و الأنقليزية و الفرنسية و غيرها.
ماذا يفعل الفقراء في هذه الحالة - و نحن معشر الأساتذة من الفقراء باستثناء شبه
زملائنا الأساتذة، مقاولو الدروس الخصوصية مع العلم أنني لا أدينهم لو طبقوا
القانون المنظم للدروس الخصوصية، 12 تلميذ من تلاميذ أقسام لا يدرسونها، موزعين
على 3 مجموعات منفصلة في قاعة تدريس محترمة و ليس 20 في "قاراج"- ماذا
يفعل هؤلاء الفقراء المسحوقين طبقيا و العاجزين ماديا و هم يرون أبناءهم يضيعون
أمام أعينهم و لا يقدرون ماديا على إنقاذهم من براثن مدرسة عمومية لا تقوم بواجبها
في تأهيل النشء لبناء معرفته بنفسه حسب المدرسة البنائية لـ"بياجي" و "فيقوتسكي"،
مدرسة غير مطبقة في تونس حتى الآن رغم اعتمادها شعارا سياسيا لوزارة التربية
التونسية، شعار تجني من ورائه الكثير و لا تخسر مليما واحدا.
حفظ المعلومات مهم، لكن توظيفها أهم و ليس من قبيل
الصدفة أننا و بعد نصف قرن من الاستقلال
المنقوص لم نصنع علماء و لم ننتج علما تجريبيا أو رياضيا أو إنسانيا ما عدى
الأدمغة الوطنية المهاجرة التي بنت علمها في بيئة مغايرة حيث تتوفر الحرية و
الكرامة و ظروف العمل المثلى لإنتاج المعرفة مثل ما فعل أحمد زويل و فاروق الباز و
محمد الأوسط العياري و غيرهم كثيرون.
إمضاء م. ع. د. م. ك.
"الذهن غير المتقلّب غير حرّ".
لا أحد مُجبر
على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن
يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي.
يطلب الداعية
السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج
العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض
رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و
على كل مقال ناقص أو سيء نرد بمقال كامل أو جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي أو
الرمزي.
"الكاتب منعزل
إذا لم يكن له قارئ ناقد".
عزيزي القارئ, عزيزتي القارئة، أنا لست داعية، لا فكري
و لا سياسي, أنا مواطن عادي مثلك، أعرض عليك
وجهة نظري المتواضعة و المختلفة عن السائد, إن تبنيتها, أكون سعيدا جدا, و
إن نقدتها, أكون أسعد لأنك ستثريها بإضافة ما عجزت أنا عن إدراكه, و إن
عارضتها فيشرّفني أن يصبح لفكرتي معارضين.
البديل يُصنع بيني و بينك، لا
يُهدى و لا يُستورد و لا ينزل من السماء (قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم) و واهم أو ديكتاتور من يتصور أنه يملك البديل جاهزا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire