التفقد البيداغوجي في تونس: هل هو الحل أو المشكل؟ مواطن
العالم د. محمد كشكار
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 21 جوان 2010.
الإهداء: إلى بطلة قصتنا، المعلمة الصامدة، التي لم يحبطها الفهم الخاطئ و الاستعمال السيئ لمهنة التفقد من قبل بعض المتفقدين و لم يثنها ظلمهم عن أداء رسالتها التربوية بكفاءة عالية.
من الصعب جدا أن تخوض في موضوع شائك و معقد و حساس مثل علاقة المدرس بالمتفقد و الأصعب أن تكتب فيه دون بحث علمي مسبق. مع العلم أن وزارة التربية تعرقل الأستاذ التونسي المباشر في المعاهد التونسية و الباحث العلمي في علوم التربية حين يحاول، دون ترخيص، إجراء بحوث علمية تربوية داخل المؤسسات التربوية أما إذا أراد دخول الأقسام فيجب عليه الاستظهار بترخيص رسمي من وزارة التربية. لكنني لست خاوي الوفاض، درست علم التقييم أكاديميا لمدة سنة في بداية المرحلة الثالثة، أعددت ماجستير و دكتورا في تعلمية البيولوجيا خلال سبع سنوات بجامعة كلود برنار بليون 1 في فرنسا و بجامعة تونس، أمارس مهنة التعليم منذ 36 سنة، اختلفت مع المتفقدين سنينا طويلة و تصالحت معهم سنينا أطول و لي بينهم أصدقاء أعزاء كثر و رفاق مرحلة ثالثة، عملت معهم مكونا في مادة علوم الحياة و الأرض، كما سبق لي و أن أشرفت على حصة تكوين يتيمة موجهة لمتفقدي التعليم الابتدائي، قمت بتربص بيداغوجي قصير في نانسي بفرنسا حيث شاركت في يوم بيداغوجي و زرت مخابر معهد ثانوي و حضرت درسا نموذجيا في علوم الحياة و الأرض و واكبت مناقشة بحث قام بها فريق من تلاميذ المعهد في إطار بيداغوجيا المشروع. سأحيّد منهجيا الأشخاص في مقالي هذا و لن أعمّم و بكل وضوح في الرؤيا سأنقد بكل قوة و جرأة لكن في كنف الاحترام و دون الخروج عن حدود اللياقة و الأدب و دون تجريح في أشخاص نعزّهم و نكرّمهم و نعتبرهم أساتذتنا بعد أساتذة الجامعة. أبدأ بشهادة من أهلها: يوجد من بين المتفقدين أنفسهم من وافقني على النقد الوارد في هذا المقال عندما طرحته في منابر عدة. سأشرح نظام التفقد اللاعلمي و غير الموضوعي المسلط على المدرس من سلطة الإشراف فالمتفقد بطبيعته إذن، شاء أم أبى، علم أو لم يعلم، هو أداة نظام التفقد اللاعلمي و غير الموضوعي ما دام هو نفسه يفتقد للتكوين الأكاديمي. أقصد بالتكوين الأكاديمي التكوين الذي يتوج بشهادة جامعية معترف بها كالتبريز أو الأستاذية أو الماجستير أو الدكتورا و لا أقصد وحدات التكوين النظري القصير و لا التربصات التطبيقية مع احترامي لهذا النوع الأخير من التكوين. لم يتلق المتفقد تكوينا جامعيا في علم التقييم و لا في علوم التربية و لا في فلسفة و تاريخ العلوم و لا في علوم التواصل و لا يملك شهادة علمية أعلى من شهادة المدرس الذي يتفقده. سبق لي و إن وجهت هذا النقد إلى متفقدي علوم الحياة و الأرض خلال ندوة حضرها الوزير نفسه في مركز أريانة للتكوين المستمر عندما دعتهم مديرة التعليم الثانوي، بعد استشارتي شخصيا حول قائمة المتفقدين المدعوين. كنت حينذاك في أيام العز و "السردكة الفكرية" (فعل سردك مشتق من كلمة سردوك أي الديك بالعربية الفصحى و يعني "نفخ الديك ريشه مزهوّا و مضخّما جسمه الضئيل و النحيل"). اقتصرت أيام العز و هي قليلة جدا على فترة صداقتي العلمية و ليست الذاتية مع وزير التربية السابق و المثقف المحترم، الأستاذ الجامعي القدير الدكتور منصر رويسي. وجّهت للمتفقدين مباشرة هذا النقد دون مجاملة و دون نفاق بل بصدق من يغار على مهنة التفقد و يريد النهوض بها. من الصدف المنعشة أن الوزارة أسست بعد هذا التدخل، أو قد تكون خططت له منذ سنين، معهد تكوين متفقدي الثانوي و الأساسي في قرطاج و لي فيه رفاق مرحلة ثالثة كثر أيضا، فيهم رجال و نساء، نساء جميلات جدا يدخلن على المدرس الابتسامة و الرقة و اللطف الذي لم نعهده في متفقدينا القدامى ذكورا و إناثا. أود جلب انتباهكم أنني لا أقول هذا الكلام من باب النكتة فابتسامة المتفقد صدقة و رحمة و جواز عبور و قرص أو "حربوشة" تزرع الثقة بالنفس و الاطمئنان و الأمن و الأمان في قلب المدرس فيؤدي درسه و يبدع أمام متفقد متعاون متعاطف و متفهم لظروف العمل القاسية التي يمارس المدرس التونسي، تحت ظلها الحار، أشرف مهنة في الوجود بأقل أجر موجود. استجاب معهد المتفقدين بقرطاج لشروط التكوين البيداغوجي و التعلمي وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. أقترح أن لا يقبل في هذا المعهد إلا "الأساتذة المبرزون" في اختصاصهم و هذا الإجراء معمول به في فرنسا. يمتاز الأستاذ المبرز على الأستاذ العادي بسعة اطلاعه على معارف اختصاصه و تملّكها و توظيفها توظيفا جيدا و مفيدا، لكن في الوقت نفسه يفتقد الأستاذ المبرز إلى فلسفة و تاريخ العلوم و لم يدرس أكاديميا "إدراك عملية الإدراك" ( La métacognition).
و هي أعلى درجات المعرفة و تتمثل في "التفكير في آليات التفكير و في معرفة أننا نعرف و في اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل" و كما قال بيار قريكو: " لو أن الإنسان الذي يقول لا أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نعم المستقبلية". و أنا أطرح هذا الاقتراح الأخير، شعرت أنني ظلمت زملائي أساتذة علوم الحياة و الأرض الطامحين إلى خطة متفقد لأن اختصاصنا هو الاختصاص العلمي الوحيد، على ما أذكر، المحروم من اجتياز مناظرة شهادة التبريز لأنها غير محدثة في تونس منذ الاستقلال. بهذه المناسبة أوجه سؤالا مفتوحا إلى وزير التربية التونسية: لماذا يحرم أساتذة علوم الحياة و الأرض من نيل أهم شهادة يفتخر بها أستاذ الثانوي؟
سأعتمد في طرحي التالي على المثلث التعلّمي (ثلاثة أقطاب: المدرس، التلميذ و المعرفة) (Le triangle didactique ou pédagogique) و سأنحت من رحمه المثلث التقييمي (Le triangle d’évaluation) إن لم يكن موجودا، و سأعيّن أقطابه الثلاثة و هي المتفقد و المدرس و التقييم. من المؤسف جدا أن المتفقد و المدرس لم يدرسا أكاديميا علم التقييم و من يقيّم دون علم تقييم كمن يبيع سلعة دون ميزان و فاقد العلم لا يعطيه. يطالبنا المتفقدون بتقييم إجمالي جزائي و تقييم تكويني و تقييم استباقي و سمّ ما شئت من الأنواع و هي كلها مفيدة للتلميذ و المدرس لكن من المتناقضات أن المتفقدين لا يطبقون علينا إلا نوعا واحدا من التقييمات السابقة و هو التقييم الإجمالي الجزائي. الخطير أن وراء هذا النوع الأخير من التقييم تكمن نظريات و ايدولوجيا المدرسة السلوكية. برز هذا النموذج في الستينات في أمريكا على أيدي العالمين، مؤسسي المدرسة السلوكية، "واتسون" و "سكينر". يتعامل المتفقد مع المدرس بأسلوب الإثارة و رد الفعل مثلما يدرّب "بافلوف" كلبه، يجازيه عند الإجابة الصحيحة و يعاقبه إن أخطأ. يطالبنا المتفقدون و بإلحاح رب العمل و أوامره بمدّ التلميذ بمقياس الإصلاح (Barème de correction) مع ورقة الامتحان. يا أساتذة علوم الحياة و الأرض، هل مدّكم يوما متفقد بمقياس تقييمه قبل التفقد؟ لقد بلغني أخيرا أن مثال مقياس التفقد متوفر على النات. يوصوننا بل و يمنعوننا بالقانون بعدم إجراء فرض مراقبة فجائي احتراما للتلميذ و اجتنابا لوقوعه في الخطأ، بارك الله فيهم و في تفهّمهم لحقوق التلميذ و مشاعره باعتباره محور العملية التربوية، و يباغتوننا، هم، بزياراتهم الفجائية بنيّة القبض على المدرس متلبسا مع الإشارة أن هذا الأخير هو محور العملية التقييمية.
لقد شاركت مرة في مؤتمر علمي في المنستير من 15 إلى 18 ماي 2006 نظمته "الجمعية العالمية للبيداغوجيا الجامعية" فاسمحوا لي قرائي الكرام أن أعلمكم أن الأساتذة الجامعيين لا يخضعون للتفقد و كأنهم رضعوا علوم التربية في الحليب أو ورثوها في جيناتهم و لا يمدّون طلبتهم بمقياس الإصلاح و لا يرجعون ورقة الامتحان و لا يناقشون العدد مع الطالب كأن تقييمهم قرآن و هم، مع الأسف الشديد، مثلهم مثل الأساتذة و المعلمين لم يدرسوا علم التقييم و لا علوم التربية (ما عدا المدرّسين الجامعيين الذين يدرّسون هذه الاختصاصات). هل الأساتذة الجامعيون يتمتعون بثقة عمياء إلى درجة كونهم يعفون من التفقد و لا تطالبهم الوزارة بتطبيق القواعد الأساسية في التقييم؟ و هل نحن مدرّسي الأساسي و الإعدادي و الثانوي متهمون بالقصور البيداغوجي و علينا إثبات براءتنا و ولائنا لشخص المتفقد الذي لا يفوقنا علما و لا تجربة؟ ما هي مقاييس انتداب المتفقدين؟ و هل هي علمية و موضوعية؟ و هل قرار المتفقد مستقل تماما عن إملاءات الوزارة؟ أقصد بالإملاءات أن لا يوظف المتفقد لخدمة أغراض إدارية ليست بيداغوجية كإخضاع الأستاذ المتنطع و المشاكس نقابيا أو إداريا و أن لا يستغل تقريره السلبي لأهداف تأديبية لا علاقة لها بالبيداغوجيا.
أنا لا أشك في الأشخاص و لا اقرأ النوايا و لا أحاكمها، لكن نقدي موجّه لنظام التفقد الذي يفتقد للتكوين الأكاديمي في علوم التربية و علم التقييم. مع العلم أنه ليس من السهل الفصل التعسّفي بين المهنة و أصحابها و قد سمعت مرات عديدة بعض المتفقدين المستنيرين رفاقي في المرحلة ثالثة علوم التربية، اختصاص تعلمية البيولوجيا، يتذمّرون من الأساليب البالية و المتخلفة و اللاعلمية و غير الموضوعية في مهنتهم و ينتقدونها بغيرة و إتقان المحترفين.
نمر الآن إلي المهم و هو "العقد التقييمي" (Le contrat d’évaluation) الذي يربط المتفقد بالمدرس و هو عقد ضمني غير مكتوب و مسكوت عنه من جل متفقدي الابتدائي والثانوي عن قصد أو دون قصد. يبدو لي انه من الأفضل أن يتولى المتفقد شرح هذا العقد في أول ملتقى بيداغوجي بمركز التكوين حتى يتبين المدرس حقوقه من واجباته كما أفعل أنا في أول حصة مع تلامذتي و أشرح لهم "العقد التعلّمي" الذي يربطني بهم ضمنيا. هل سمعتم يوما متفقدا يشرح للمدرسين الذين يشرف عليهم طريقة عمله أو يقرأ لهم مقياس تقييمه حتى يحذّرهم من الوقوع في الأخطاء الإجرائية البسيطة؟ نعم، سمعنا و أطعنا و يا ليتنا ما سمعنا و لا أطعنا و طبقنا بتبعية و عمى تربوي، سمعنا بعض المتفقدين يبدعون في الاتجاه المعاكس و يملون على المدرسين الخائفين الوجلين المبهورين وصفات بيداغوجية جاهزة.
نصل الآن إلى طرح الإشكالية التي يحتوي عليها عنوان المقال: كيف يستطيع المتفقد تغيير تصورات المدرس غير العلمية حول عملية التفقد؟ يعرّف مدير أطروحتي "كليمان" (1998, 2004) تصورات التلميذ على النحو التالي: تنبثق التصورات غير العلمية (Les conceptions non scientifiques) و العلمية من التفاعل بين معارف التلميذ و قيمه و الممارسات الاجتماعية المرجعية حسب نموذجه المشهور "م ق م" ذي الأقطاب الثلاثة (KVP : K, Knowledge en anglais ou connaissances ; V, valeurs ; P, pratiques sociales de référence) أستعير هذا النموذج من أستاذي و أكيّفه مع موضوعنا الحالي و أقول: تنبثق تصورات المدرس غير العلمية حول عملية التفقد من التفاعل بين معرفته بعلم التقييم و قيمه المرجعية و ممارسات المتفقد حياله و حيال زملائه أثناء الملتقيات البيداغوجية و خلال زيارات التفقد. يفتقد المدرس إلى علم التقييم كما أكدنا سابقا، إذن، يبقى في جعبته قيمه الموروثة حضاريا و المكتسبة اجتماعيا و تمثّله للسلطة المجسّمة في شخص المتفقد و تبرز ممارسات المتفقد باعتبارها عاملا محددا لتصوراته. هل يستفيد المدرس من الملتقيات البيداغوجية في مراكز التكوين؟ أنا أشك كثيرا في جدواها و ذلك للأسباب التالية: يقوم بالتكوين في هذه الحصص المتفقد أو أستاذ مكوّن و الاثنان يفتقدان للنظريات و كما هو معلوم، كل تطبيق سليم تسبقه نظرية سليمة تتفاعل بدورها مع نتائج التطبيق و تطور نفسها بنفسها. لقد مارست خطة أستاذ مكون لمدة عامين، و من حسن حظي أنه صادف في تلك السنة وجود برنامج تكوين في التعلمية، اختصاصي الثاني، لكن عندما كلفني المتفقد بتعليم زملائي كيفية استعمال الكتاب و أنا لا أحذقها و لا افقهها نظريا، اعتذرت و قدمت استقالتي فورا. زد على هذا أن أجر الأستاذ المكوّن زهيد جدا، ديناران و خمس مائة مليم الساعة، يعني يحضّر الأستاذ حصته لمدة 15 يوما و يعرضها على الحاسوب و يناقشها مع زملائه لمدة أربع ساعات و الأجر عشرة دنانير، أقل من الأجر الأدنى ليوم عمل! و في المقابل، عندما يستدعي المتفقد أستاذا جامعيا ليلقي محاضرة بساعتين يغدقون عليه أجرا محترما من مائة إلى مائتي دينار الحصة الواحدة. أليس هذا حيفا كبيرا و احتقارا مهينا و إحباطا مقرفا لمجهودات أستاذ الثانوي، كأن الأستاذ الجامعي التونسي عالم و منتج علم و الحقيقة أننا في الهواء سواء، نحن و هم ناقلو علم و لسنا منتجي علم و من ينتج العلم يقيم وراء البحار و يكافأ عند مجيئه بالدولار. كان الأجدر بوزارتنا أن تثمّن عمل أستاذ الثانوي و ترفع من شأنه لأنه هو الوحيد الخبير بشعاب التعليم الثانوي و مشاكله و إشكالياته و يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. يحمل المئات من أساتذة الثانوي أو الآلاف (لا أعرف الرقم الدقيق) شهائد عليا من ماجستير إلى دكتورا في كل الاختصاصات و على العكس يوجد حوالي عشرة آلاف أستاذ جامعي لا يحملون شهادة الدكتورا في الاختصاصات التي يدرّسونها مع العلم أنني لا ألوم هؤلاء الأخيرين و لا أستنقص من قيمتهم العلمية ففيهم أساتذة أكفاء أجلاء لكن الخور يبرز عندما يكون الدكتور متوفر في الاختصاص نفسه كحالتي و لا تنتدبه الجامعة لأسباب مالية غير بيداغوجية و أسمع من زملائي و أصدقائي طلبة معهد المتفقدين بقرطاج أن من يدرّسهم التعلمية هم متفقدو ثانوي لم يدرسوا أكاديميا و لو عاما واحدا هذا الاختصاص الصعب و المعقد.
يلحّ علي سؤال و هو الآتي: لماذا لا يُعلِم المتفقد مسبقا المدرس بزيارته؟ لقد سبق و ناقشت هذه المسألة مع صديق متفقد أساتذة علوم الحياة و الأرض و رفيق مرحلة ثالثة تعلمية البيولوجيا و قد قال لي بالحرف الواحد: أنا موافق على الإعلام المسبق للمدرس و ما الضرر لو حضّر درسه و هيأ تلامذته و بذل مجهودا اكبر في البحث و التمحيص؟ أليس هذا هو هدفنا في التكوين و قد بلغناه بأيسر السبل و بطريقة بنائية ذاتية؟ و استطرد يقول: تصور و قل لي حسب رأيك من عارض هذه الفكرة؟ الشباب أم الكبار في السن؟ قلت: طبعا الكبار. قال: آسف و الجواب خطأ، عارضها الشباب للحفاظ على هالة سلطتهم و سطوتها و بَهرجها و ناموسها، جنون العظمة الذي من أجله دخلوا المهنة.
لماذا لا يكون التفقد عبر لجنة متكوّنة من المتفقد و المدير و زميلين قديمين؟ تضفي اللجنة على التقييم التعددية و الديمقراطية و العدل و الإنصاف و تبعد عن المتفقد الشريف أخطار المهنة التي يتعرض لها كل مرب و المتمثلة في شبهات الرشوة و الانتقام و التحرش الجنسي.
كيف يكون التقييم علميا و موضوعيا و قد زارني المتفقد سبع مرات فقط خلال 36 عام تدريس. ثماني منهم في الجزائر، زارني خلالها متفقد مرة واحدة و أنا ادرّس اللغة الفرنسية، بقي معي ربع ساعة أمضاها في الشكر و الإطراء على مدرس في غير اختصاصه! في الجزائر، يسمون المتفقد مفتشا لأنه يفتش عن نقاط ضعف المدرس ليمسكه منها حتى ينكسر و يذل. يستمد المفتش قوته من ضعف المدرس و انعدام مقاومته و غياب صموده و فقدان ثقته بنفسه. زارني متفقد فرنسي عام 76 في جربة في آخر عامي الثاني تربص (دائما الأستاذ الجديد يقول في نفسه : هذه مهنة وقتية و سوف أكمل تعليمي و أنتقل إلى العالي و في أكثر الحالات يبقى في الثانوي طوال عمره أستاذا كما دخل أو أقل بحكم العمر و المرض) و رفضت قبوله لأني أتممت البرنامج و ليس لي ما أدرس في القسم فعاقبتني الوزارة و استغنت عن خدماتي نهائيا. رجعت إلى العمل في التعليم في نفس السنة عن طريق النقابة مع نقلة عقاب إلى غار الدماء. زارتني متفقدة فرنسية في غار الدماء و أنا متربص، قالت لي أثناء النقاش: لقد ارتكبت خطأ علميا. أقنعتها أنني لم أفعل و اقتنعت و رسّمتني بـ16 على 20. زارني متفقد في غار الدماء و خفّض لي العدد من 16 إلى 10 و رجع بعد شهر و أوصل العدد إلى 9 عقابا لي عن تجربة طريفة و مقنعة قمت بها و هي ليست موجودة في البرنامج الرسمي و معلومة علمية صحيحة علمتها لتلامذتي و من سوء طالعي و نحسي كان المتفقد يجهلها في ذلك الوقت ولم يقتنع بعلمي كما اقتنعت المتفقدة الفرنسية و شكرتني. ليس العيب في جهل المعلومة في حد ذاتها، و هذا وارد لدى أعلم الأساتذة، و لكن كل العيب يبرز عندما يعتبر المتفقد المعلومة الصحيحة خطأ لأنه يجهلها و الأغرب أن يسجلها في تقريره مع العلم أن هذا المتفقد بالذات يفوقني علما و تجربة و هو من أكفأ المتفقدين و أنزههم و أعلمهم لأنه متحصل على شهادة الدراسات المعمقة في علم الوراثة على ما أذكر. زارني متفقد في برج السدرية و طرق الباب قبل الدخول و طلب مني الإذن بالدخول، فتحت له الباب و رحبت به ترحيبا كبيرا و قلت له: أول مرة في حياتي يحترمني متفقد! زادني أربع نقاط و نصف فأصبح عددي 13.5. بعد عشر سنوات لحقني صدفة إلى ببن عروس متفقد غار الدماء المذكور أعلاه و وجدني أستاذا مكونا مع زميله الذي عوضه، جاءني في حصة تكوين و طلب مني بكل لطف و روح رياضية أن أنسى المشكلة التي وقعت بيننا في غار الدماء فاستجبت لطلبه فورا من فرط أدبه و سلوكه الحضاري. تشاء الأيام كما يشاء كشكار و يتفقدني هذا الأخير في برج السدرية و ينصفني أيما إنصاف و يعطيني عدد سبعة عشر, ما زلت أفتخر به حتى الآن.
كيف يكون التقييم علميا و موضوعيا و المتفقد يزور المدرس بمعدل مرة كل خمس سنوات و يقيمه خلال ساعة بعد أن يُفقده توازنه النفسي بطلته البهية و تكبره و تجهمه. ينهار المدرس منذ البداية و هو لا يرى في عينَي زائره إلا الترصد لأخطائه و تدوينها بحضور المدير أحيانا.
سأروي لكم سبع نُكَت واقعية حول التفقد في تونس:
نكته واقعية رقم 1: جاء متفقد لزيارة الأستاذ عمار، أستاذ علوم الحياة و الأرض، فلم يجده لأنه متغيب لسبب نجهله فتفقد مختار أستاذ العلوم الجديد و المتواجد بنفس المعهد. تم كل شيء بخير و الدرس ناجح و رجع المتفقد إلى قواعده سالما. بقي مختار أسابيع ينتظر التقرير و الفرحة تغمره مسبقا. جاء التقرير مذيّلا بعدد 14 على 20 لكنه باسم عمار و ليس مختار. شكى مختار مرارا و تكرارا و لم يتغير التقرير و بقي إلى يومنا هذا باسم عمار.
نكته واقعية رقم 2: حدث أن زارني في توزر متفقد في إطار الترقية المهنية. كان الدرس عاديا حتى وصلنا إلى تجربة هضم النشا داخل الأنبوب و تحويله إلى سكر العنب أو الجليكوز تحت تأثير اللعاب. فشلت التجربة لعدة أسباب كيميائية لا ذنب لي في فشلها. امتعض سيدنا و قام و غادر القاعة مسرعا و أمرني بالالتحاق به فورا. دون تعليق.
نكته واقعية رقم 3: حدثت لي الحادثة الطريفة التالية في يوم تكوين متفقدي الابتدائي في مركز التكوين: كنت اشرح لهم أسباب الحركات التنفسية عند الإنسان و قلت: يأتي التلميذ إلى الإعدادي و هو يعتقد جازما أن الهواء يدخل إلى الرئتين وينفخها فيرتفع الصدر. و هذا جواب غير علمي و الجواب الصّحيح هو الآتي: تتقلّص عضلات الصدر و عضلة الحجاب الحاجز و تتبعها الرئتان الملتصقتان بهما فيزيد حجم القفص الصدري فيخلق فراغا في الداخل يجذب الهواء من الخارج عن طريق الفم و الأنف. نلاحظ إذا أن دخول الهواء هو نتيجة و ليس سببا في حركات التنفّس. يتشبث التلميذ صاحب التصورات غير العلمية و يدافع عن نفسه بقوله أن المعلّم في الابتدائي لم يدرّسه المعلومة الصّحيحة و هذا مخالف للواقع لأن بعض التلامذة يحتفظون بهذا التصوّر غير العلمي رغم تصحيح المعلم أو الأستاذ للمعلومة و يعيدون استعماله في الثانوي و في العالي. رويت لهم ما وقع لي عندما كنت أشرح هذا الموضوع في الثانوي بعد نقلتي من إعدادية حمام الشط إلى معهد برج السدرية: نهض تلميذ مدافعا عن تصوراته غير العلمية و قال لي: أستاذ الإعدادي هو الذي علمنا خطأ. من سوء حظ هذا التلميذ أنني ما زلت أذكره من بين تلامذتي في الإعدادية و أنا نفسي الذي درسه حركات التنفس بطريقة صحيحة طبعا. ضحكت و قلت في قرار نفسي، يظلم أستاذ الثانوي المعلم و يظلم الأستاذ الجامعي أستاذ الثانوي بتحميل كل طرف الطرف الآخر وزر تصورات التلاميذ غير العلمية التي لا تريد أن تزول بسهولة من أذهانهم! النكتة هي التالية، في آخر الحصة التكوينية جاءني متفقد قديم و قال لي: قل ما تريد يا أستاذ فلن أقتنع بشرحك رغم احترامي لشخصك و لن أغير تصوري غير العلمي حول حركات التنفس و أنا على قاب قوسين من التقاعد المبكر و سأواصل الاعتقاد بأن الهواء يدخل و ينفخ الرئتين فيرتفع القفص الصدري. أجبته بالجملة المفيدة و المحببة عندي: أنا أتيت - لا لإقناعكم بالبراهين أو الوقائع - بل بكل تواضع لأعرض عليكم وجهة نظر أخرى.
نكته واقعية رقم 4: روت لي مرة أستاذة متربصة في علوم الحياة و الأرض ما يلي: كنت أخاف المتفقد و المدير و تصوّر يا زميلي العزيز، لقد هجم علىّ الاثنان في الوقت نفسه و عندما فتحا الباب دون استئذان طبعا، تراجعت إلى الوراء من هول ما رأيت حتى انكسر كعب حذائي العالي الأيسر و من كثرة الرهبة و الخوف بقيت أدرس و أنا محافظة على توازني طيلة ساعتين و كل ما رأيتهما يتهامسان و يبتسمان، أقول في قرار نفسي ضاع الترسيم و الخطيب الوسيم.
نكته واقعية رقم 5: كنا في مؤتمر علمي حول تعلمية علوم الحياة و الأرض في سوسة و كنت أترأس الجلسة و كلما صعدت إلى منصة الرئاسة إلا و استغليت الفرصة لنقد المتفقدين المتسلطين. لكن قبل كل هجوم أعتذر من زملائي المتفقدين و زميلاتي المتفقدات (Les inspecteurs didacticiens et les inspectrices didacticiennes) الحاضرين و الحاضرات، كل باسمه أو اسمها، و أستثنيهم أو أستثنيهن من النقد إلا متفقدة واحدة لا أسميها ضمن المستثنيات و هي صديقة لي و رفيقة مرحلة ثالثة، كانت صديقتي صغيرة السن و الجسم و رقيقة الملامح و خفيفة اللباس يستر سفورها خمار العلم و الصدق و العمل. جاءتني بعد الجلسة و لامتني بلطف و ابتسامة على عدم ذكر اسمها في كل اعتذار أوجهه لزملائها المتفقدين و قالت: ألست متفقدة؟ قلت: بلى، لكنك جميلة و ترقصين جيدا و أنا لم أشاهد في حياتي متفقدا يرقص! فأنت في مخيلتي لا تنطبق عليك مواصفات المتفقد و لو أصبحت وزيرا لفصلتك عن العمل حتى لا تمسّ من هيبة السادة المتفقدين و وقارَهم.
نكته واقعية رقم 6: ذهبت اليوم إلى ساحة محمد علي و التقيت صدفة بمجموعة من المعلمين النقابيين و بما أنني لا أومن بالشعار الزائف و المحنّط القائل أن "لكل مقام مقال" بل أرى أن كل مقال يصلح في كل مقام على شرط أن يكون علميا يستفيد منه الناس. و لا أعتقد أيضا في بعض مقولات اليسار حتى و لو كنت منهم. لا أستوعب و لا أفهم تعاملهم الدائم مع التناقضات المجتمعية أو المادية باعتماد المقاربة التحليلية (Approche analytique) و إهمال أو تجاهل المقاربة الشاملة (Approche systémique) .
و ترتيب هذه التناقضات ترتيبا ميكانيكيا حسب الأولوية من تناقض رئيسي إلى تناقض ثانوي. أنا أعتقد جازما أن كل التناقضات تتمتع بنفس القدر من الأهمية و لا أرتبها ميكانيكيا لا حسب الزمن و لا حسب الوزن و الأهمية بل أتعاطى معها حسب تفاعلها الجدلي فيما بينها فقد تتطور التناقضات الثانوية إلى رئيسية و قد تصبح التناقضات الثانوية رئيسية في زمن آخر و في وضعية أخرى و قد تبدو الرئيسية ثانوية من وجهة نظر فكرية معاكسة و العكس صحيح أيضا. أثناء التفاعل الجدلي أظل أنتظر النتيجة غير المعروفة مسبقا التي ستنبثق من هذا التفاعل المادي الجدلي بعقلية الباحث العلمي لا بعقلية الباحث الحامل لإيديولوجية معينة الذي يصنع نتائج بحثه بنفسه قبل إجراء تجربته ليوظفها خدمة لإيديولوجيته الساكنة منذ زمان في مخه. بعد هذا الهذيان النظري أمرّ لنقل أحداث القصة الواقعية التالية التي سمعتها اليوم بعد ما طرحت وجهة نظري حول نظام التفقد البيداغوجي التونسي على مسامع المجموعة المذكورة أعلاه. تدور أحداث هذه القصة في أواخر الثمانينات في ولاية من ولايات الشمال الغربي، بطلة القصة معلمة تبلغ من العمر 21 سنة في ذلك التاريخ (بعد أن استأذنتها في نشر ما روت و أخذت موافقتها شفويا، طلبت مني خوفا من التتبعات العدلية بتهمة الثلب، عدم ذكر اسمها و لا أسماء من ظلموها و لا أماكن عملهم.)، لم يمر على تعيينها سوى ثلاث سنوات، مترسمة بعدد 9 على 20، ناشطة نقابية قاعدية. عقابا لها على نشاطها النقابي، حسب ظنها، جاءها متفقد. امسكوا أنفاسكم و اربطوا أحزمتكم لأن ما سأرويه عن لسانها قد يفقدكم توازنكم التربوي. زارها متفقد من نوع لا أعرفه، زارها و تفقدها و بعث لها تقريرا بيداغوجيا ( ما زال في حوزتها حتى الآن) المدير الجهوي المساعد ، المسؤول عن التعليم الابتدائي بالجهة. صحيح أن هذا المسؤول الإداري كان يشتغل متفقدا بيداغوجيا قبل أن يتحول إلى موظف إداري كبير لكن، هل يسمح له القانون بتغيير جبته و صفته كما يشاء و متى يشاء و هو المؤتمن و الساهر على تطبيق القانون في الجهة؟ هل يحق له انتحال صفة المتفقد االبيداغوجي و هذا الأخير متواجد بدائرة التفقد المعنية بشحمه و لحمه؟ أنا أعتبر أن هذا التصرف الصادر عن المدير الجهوي المساعد إقرارا ضمنيا من مسؤول كبير بأن التفقد البيداغوجي سيف يسل فيشهر عند اللزوم لردع المدرسين الناشطين نقابيا و قمعهم! نسي هذا المسؤول الكبير أو تناسى أن الهدف الأساسي و النبيل المرجو من التفقد البيداغوجي هو إرشاد و توجيه المدرس بيداغوجيا و تربويا حتى يؤدي رسالته التربوية المقدسة على أحسن ما يرام! أثناء النقاش بعد انتهاء الحصة و بحضور مدير المدرسة، طلب المدير الجهوي المساعد من المعلمة أن تقوم و تتمشى أمامه ذهابا و إيابا حتى يقيّم هندامها و لباسها! بعد أسبوع جاء التقرير البيداغوجي لهذا المدير الجهوي المساعد محبطا لآمال و طموحات معلمة شابة ابتعدت عن أهلها في العاصمة لأداء رسالة نبيلة كادت أن تساوي رسالة الأنبياء، جاء و فيه تخفيض للعدد من 9 إلى 4 على 20 و يحتوي على التوصية التالية: الرجاء إعادة التكوين الجذري لهذه المعلمة. أتساءل أنا هنا و بكل براءة: من أحوج إلى إعادة تكوينه الجذري، المعلمة أو المدير الجهوي المساعد ؟ ردّت المعلمة الشجاعة على هذه الإهانة بتقرير مضاد. زارتها لجنة من ثلاثة متفقدين من العاصمة و أنصفتها بعدد 11 على 20. لم يرض هذا العدل سيدنا و مولانا المدير الجهوي المساعد و أصرّ و ألحّ على إذلال المعلمة و إحباطها و طلب إحالتها على مجلس التأديب متهما إياها بالمس بسياسة الدولة في تقريرها المضاد و كان له ذلك بسلطة "كن فيكون". أتساءل و للمرة الثانية و بكل براءة أيضا: من من الطرفين في النزاع مسّ بسياسة الدولة؟ قرّر مجلس التأديب الموقر و المستقل نقل المعلمة نقلة وجوبية مع تغيير محل الإقامة و نفذت العقوبة في شهر ماي من نفس السنة الدراسية و انتقلت مناضلتنا للتدريس بمدرسة ريفية نائية بولاية من ولايات الوسط. دون تعليق. لا تنزعجوا على مصير بطلتنا الإيجابية و زميلتنا المناضلة التربوية فهي الآن معلمة تطبيق في العاصمة. أما بطلنا السلبي فلا أشك أنه كرم على أساس أنه مرب فاضل و صالح، خدم السياسة التربوية للدولة التونسية على أحسن وجه و لا اشك، لو ما زال حيا يرزق أنه ينعم بتقاعد سعيد في كنف ضميره المرتاح و لو توفي فرحمة الله عليه و أسكنه الله فراديس الجنان و عفي الله عما سلف.
توضيح قد لا يفسد للنقد قضية: كعادتي دائما و بكل صداقة و لطف و تواضع أحوّل كل مقهى أجلس فيه إلى مقهى ثقافي و لا تعنيني التوجهات الفكرية أو الانتماءات السياسية أو الرتب الإدارية لجلسائي و أطرح همومي الفكرية و التربوية بكل شفافية قصد تعريضها للنقد بهدف تهذيبها و تصحيحها و تطويرها قبل النشر على النات و بعده. طرحت موضوع النكتة الواقعية رقم 6 فعلقا على روايتي صديقان حميمان مسؤولان، واحد مدير معهد و الآخر مدير في وزارة التربية بالقول التالي: من صلوحيات وزير التربية أن يكلّف المدير الجهوي المساعد المذكور أعلاه بمهمة التفقد البيداغوجي للمعلمة المعنية لأسباب نجهلها خاصة و أن هذا المسؤول الإداري كان يشغل وظيفة متفقد بيداغوجي قبل أن يلتحق بسلك الإداريين. لا يمكن حسب اجتهادهما أن يسلك هذا المدير الجهوي المساعد سلوكا قد يحاسب عليه إداريا و قضائيا خاصة و أنه ترك وراءه دليلا ماديا على تفقده يتمثل في التقرير البيداغوجي الذي أرسله إلى المعلمة عن طريق التسلسل الإداري.
نكته واقعية رقم 7 و هي شهادة ذاتية على العصر: كنت و أنا أستاذ شاب في غار الدماء، كلما علمت بقدوم المتفقد إلى معهدنا ينتابني إسهال فظيع و أذهب عدوا إلى بيت الراحة و اليوم شفيت و الحمد لله.
للمتفقدين نقابتهم و للأساتذة نقابتهم و الاثنتان منضويتان تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل فلماذا لا ينسقان لحل المشاكل العالقة و الطارئة نقابيا بين الشريكين في العملية التربوية؟
أنهي مقالي بطرح السؤال التالي على زملائي المدرسين، إن سمحت الوزارة بذلك: ما هي تصوراتكم حول نظام التفقد و ممارسات المتفقد؟ و كباحث علم لن أستنتج شيئا قبل إجراء البحث و أترك نكهة اكتشاف النتيجة لزملائي المتفقدين الأعزاء حتى يتعرفوا على صورتهم الحقيقية في مرآة المدرسين و أتمنى أن تكون صافية و جميلة و يستفيدوا منها في أداء وظيفتهم النبيلة على أحسن وجه. لا تظنوا أنني أكره التفقد و المتفقدين، بل بالعكس، ما تمنيت يوما في حياتي أكثر من أمنية ممارسة هذا الدور الفلسفي الابستمولوجي النقدي لما له من إشعاع على أكبر عدد من المدرسين و التلامذة. يكفي المتفقد شرفا علميا أنه يحاول جر المدرس إلى "إدراك عملية الإدراك" في البناء الذاتي للمعرفة لديه و لدى تلامذته.
لم أشارك في مناظرة التفقد لأني في بداية حياتي المهنية لم أكن مجازا و في الـ41 من عمري تحصلت على الإجازة و توجهت مباشرة للبحث العلمي و إعداد دكتورا في تعلمية البيولوجيا بين جامعة تونس و جامعة كلود برنار بفرنسا، أخذت من عمري و وقتي ثماني سنوات عجاف ماديا و حبلى فكريا
أعتذر لكل المتفقدين المحترمين، و ككل مهنة، تضم هيئة المتفقدين الغث و السمين. أؤكد لكم يا سادتي المتفقدين أنني أنطلق من غيرتي على التعليم التونسي المهدد من الداخل و الخارج و من وعي تربوي خال من الخلفيات السياسية و الإيديولوجية و ليست لي حسابات قديمة أصفيها لأن نظام التفقد أنصفني بإسناد العدد 17 على 20 و أنا راض كل الرضا. أحبكم و أعشق مهنتكم و أغبطكم عليها و أعتذر للمرة الألف إن جرحت شعوركم أو خدشت كبرياءكم دون قصد مني. ألف تحية و السلام عليكم جميعا بغثكم و سمينكم.
ملاحظة: لم أتحدث عن التفقد في التعليم الابتدائي لأنني أجهل نظامه. لكن رغم عدم إلمامي بتفصيلاته سأدلي بدلوي في عمقه: سبق لي و إن اقترحت في بعض مقالاتي السابقة إحداث خطة معلم مجال مثل معلم مختص في الرياضيات و آخر في اللغة العربية و آخر في الإيقاظ و آخر في الفرنسية و آخر في الأنقليزية و آخر في التربية كما أرجو بالمثل إحداث خطة متفقد مجال في الابتدائي
ملاحظة مضافة إلى المقال حول التفقد بتاريخ 9/10/10:
بعد 36 عام تدريس و لأول مرة في تاريخي المهني، عرض علينا اليوم متفقدنا المحترم - في أول اجتماع بيداغوجي - مقياس التفقد و قرأ جميع بنوده و شرحها بالتفصيل. أعلمنا اليوم أنه لا يوجد تفقد في دولة كندا و لا تسند أعدادا للأستاذ بعد التفقد في فرنسا.
أتساءل ببراءة الباحث: لو كان التفقد البيداغوجي ضروريا، لماذا ألغي في كندا و في فنلندا و غيرها من الدول المتقدمة و في كل جامعات العالم؟
إمضاء م. ع. د. م. ك.
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي.
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 21 جوان 2010.
الإهداء: إلى بطلة قصتنا، المعلمة الصامدة، التي لم يحبطها الفهم الخاطئ و الاستعمال السيئ لمهنة التفقد من قبل بعض المتفقدين و لم يثنها ظلمهم عن أداء رسالتها التربوية بكفاءة عالية.
من الصعب جدا أن تخوض في موضوع شائك و معقد و حساس مثل علاقة المدرس بالمتفقد و الأصعب أن تكتب فيه دون بحث علمي مسبق. مع العلم أن وزارة التربية تعرقل الأستاذ التونسي المباشر في المعاهد التونسية و الباحث العلمي في علوم التربية حين يحاول، دون ترخيص، إجراء بحوث علمية تربوية داخل المؤسسات التربوية أما إذا أراد دخول الأقسام فيجب عليه الاستظهار بترخيص رسمي من وزارة التربية. لكنني لست خاوي الوفاض، درست علم التقييم أكاديميا لمدة سنة في بداية المرحلة الثالثة، أعددت ماجستير و دكتورا في تعلمية البيولوجيا خلال سبع سنوات بجامعة كلود برنار بليون 1 في فرنسا و بجامعة تونس، أمارس مهنة التعليم منذ 36 سنة، اختلفت مع المتفقدين سنينا طويلة و تصالحت معهم سنينا أطول و لي بينهم أصدقاء أعزاء كثر و رفاق مرحلة ثالثة، عملت معهم مكونا في مادة علوم الحياة و الأرض، كما سبق لي و أن أشرفت على حصة تكوين يتيمة موجهة لمتفقدي التعليم الابتدائي، قمت بتربص بيداغوجي قصير في نانسي بفرنسا حيث شاركت في يوم بيداغوجي و زرت مخابر معهد ثانوي و حضرت درسا نموذجيا في علوم الحياة و الأرض و واكبت مناقشة بحث قام بها فريق من تلاميذ المعهد في إطار بيداغوجيا المشروع. سأحيّد منهجيا الأشخاص في مقالي هذا و لن أعمّم و بكل وضوح في الرؤيا سأنقد بكل قوة و جرأة لكن في كنف الاحترام و دون الخروج عن حدود اللياقة و الأدب و دون تجريح في أشخاص نعزّهم و نكرّمهم و نعتبرهم أساتذتنا بعد أساتذة الجامعة. أبدأ بشهادة من أهلها: يوجد من بين المتفقدين أنفسهم من وافقني على النقد الوارد في هذا المقال عندما طرحته في منابر عدة. سأشرح نظام التفقد اللاعلمي و غير الموضوعي المسلط على المدرس من سلطة الإشراف فالمتفقد بطبيعته إذن، شاء أم أبى، علم أو لم يعلم، هو أداة نظام التفقد اللاعلمي و غير الموضوعي ما دام هو نفسه يفتقد للتكوين الأكاديمي. أقصد بالتكوين الأكاديمي التكوين الذي يتوج بشهادة جامعية معترف بها كالتبريز أو الأستاذية أو الماجستير أو الدكتورا و لا أقصد وحدات التكوين النظري القصير و لا التربصات التطبيقية مع احترامي لهذا النوع الأخير من التكوين. لم يتلق المتفقد تكوينا جامعيا في علم التقييم و لا في علوم التربية و لا في فلسفة و تاريخ العلوم و لا في علوم التواصل و لا يملك شهادة علمية أعلى من شهادة المدرس الذي يتفقده. سبق لي و إن وجهت هذا النقد إلى متفقدي علوم الحياة و الأرض خلال ندوة حضرها الوزير نفسه في مركز أريانة للتكوين المستمر عندما دعتهم مديرة التعليم الثانوي، بعد استشارتي شخصيا حول قائمة المتفقدين المدعوين. كنت حينذاك في أيام العز و "السردكة الفكرية" (فعل سردك مشتق من كلمة سردوك أي الديك بالعربية الفصحى و يعني "نفخ الديك ريشه مزهوّا و مضخّما جسمه الضئيل و النحيل"). اقتصرت أيام العز و هي قليلة جدا على فترة صداقتي العلمية و ليست الذاتية مع وزير التربية السابق و المثقف المحترم، الأستاذ الجامعي القدير الدكتور منصر رويسي. وجّهت للمتفقدين مباشرة هذا النقد دون مجاملة و دون نفاق بل بصدق من يغار على مهنة التفقد و يريد النهوض بها. من الصدف المنعشة أن الوزارة أسست بعد هذا التدخل، أو قد تكون خططت له منذ سنين، معهد تكوين متفقدي الثانوي و الأساسي في قرطاج و لي فيه رفاق مرحلة ثالثة كثر أيضا، فيهم رجال و نساء، نساء جميلات جدا يدخلن على المدرس الابتسامة و الرقة و اللطف الذي لم نعهده في متفقدينا القدامى ذكورا و إناثا. أود جلب انتباهكم أنني لا أقول هذا الكلام من باب النكتة فابتسامة المتفقد صدقة و رحمة و جواز عبور و قرص أو "حربوشة" تزرع الثقة بالنفس و الاطمئنان و الأمن و الأمان في قلب المدرس فيؤدي درسه و يبدع أمام متفقد متعاون متعاطف و متفهم لظروف العمل القاسية التي يمارس المدرس التونسي، تحت ظلها الحار، أشرف مهنة في الوجود بأقل أجر موجود. استجاب معهد المتفقدين بقرطاج لشروط التكوين البيداغوجي و التعلمي وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. أقترح أن لا يقبل في هذا المعهد إلا "الأساتذة المبرزون" في اختصاصهم و هذا الإجراء معمول به في فرنسا. يمتاز الأستاذ المبرز على الأستاذ العادي بسعة اطلاعه على معارف اختصاصه و تملّكها و توظيفها توظيفا جيدا و مفيدا، لكن في الوقت نفسه يفتقد الأستاذ المبرز إلى فلسفة و تاريخ العلوم و لم يدرس أكاديميا "إدراك عملية الإدراك" ( La métacognition).
و هي أعلى درجات المعرفة و تتمثل في "التفكير في آليات التفكير و في معرفة أننا نعرف و في اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل" و كما قال بيار قريكو: " لو أن الإنسان الذي يقول لا أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نعم المستقبلية". و أنا أطرح هذا الاقتراح الأخير، شعرت أنني ظلمت زملائي أساتذة علوم الحياة و الأرض الطامحين إلى خطة متفقد لأن اختصاصنا هو الاختصاص العلمي الوحيد، على ما أذكر، المحروم من اجتياز مناظرة شهادة التبريز لأنها غير محدثة في تونس منذ الاستقلال. بهذه المناسبة أوجه سؤالا مفتوحا إلى وزير التربية التونسية: لماذا يحرم أساتذة علوم الحياة و الأرض من نيل أهم شهادة يفتخر بها أستاذ الثانوي؟
سأعتمد في طرحي التالي على المثلث التعلّمي (ثلاثة أقطاب: المدرس، التلميذ و المعرفة) (Le triangle didactique ou pédagogique) و سأنحت من رحمه المثلث التقييمي (Le triangle d’évaluation) إن لم يكن موجودا، و سأعيّن أقطابه الثلاثة و هي المتفقد و المدرس و التقييم. من المؤسف جدا أن المتفقد و المدرس لم يدرسا أكاديميا علم التقييم و من يقيّم دون علم تقييم كمن يبيع سلعة دون ميزان و فاقد العلم لا يعطيه. يطالبنا المتفقدون بتقييم إجمالي جزائي و تقييم تكويني و تقييم استباقي و سمّ ما شئت من الأنواع و هي كلها مفيدة للتلميذ و المدرس لكن من المتناقضات أن المتفقدين لا يطبقون علينا إلا نوعا واحدا من التقييمات السابقة و هو التقييم الإجمالي الجزائي. الخطير أن وراء هذا النوع الأخير من التقييم تكمن نظريات و ايدولوجيا المدرسة السلوكية. برز هذا النموذج في الستينات في أمريكا على أيدي العالمين، مؤسسي المدرسة السلوكية، "واتسون" و "سكينر". يتعامل المتفقد مع المدرس بأسلوب الإثارة و رد الفعل مثلما يدرّب "بافلوف" كلبه، يجازيه عند الإجابة الصحيحة و يعاقبه إن أخطأ. يطالبنا المتفقدون و بإلحاح رب العمل و أوامره بمدّ التلميذ بمقياس الإصلاح (Barème de correction) مع ورقة الامتحان. يا أساتذة علوم الحياة و الأرض، هل مدّكم يوما متفقد بمقياس تقييمه قبل التفقد؟ لقد بلغني أخيرا أن مثال مقياس التفقد متوفر على النات. يوصوننا بل و يمنعوننا بالقانون بعدم إجراء فرض مراقبة فجائي احتراما للتلميذ و اجتنابا لوقوعه في الخطأ، بارك الله فيهم و في تفهّمهم لحقوق التلميذ و مشاعره باعتباره محور العملية التربوية، و يباغتوننا، هم، بزياراتهم الفجائية بنيّة القبض على المدرس متلبسا مع الإشارة أن هذا الأخير هو محور العملية التقييمية.
لقد شاركت مرة في مؤتمر علمي في المنستير من 15 إلى 18 ماي 2006 نظمته "الجمعية العالمية للبيداغوجيا الجامعية" فاسمحوا لي قرائي الكرام أن أعلمكم أن الأساتذة الجامعيين لا يخضعون للتفقد و كأنهم رضعوا علوم التربية في الحليب أو ورثوها في جيناتهم و لا يمدّون طلبتهم بمقياس الإصلاح و لا يرجعون ورقة الامتحان و لا يناقشون العدد مع الطالب كأن تقييمهم قرآن و هم، مع الأسف الشديد، مثلهم مثل الأساتذة و المعلمين لم يدرسوا علم التقييم و لا علوم التربية (ما عدا المدرّسين الجامعيين الذين يدرّسون هذه الاختصاصات). هل الأساتذة الجامعيون يتمتعون بثقة عمياء إلى درجة كونهم يعفون من التفقد و لا تطالبهم الوزارة بتطبيق القواعد الأساسية في التقييم؟ و هل نحن مدرّسي الأساسي و الإعدادي و الثانوي متهمون بالقصور البيداغوجي و علينا إثبات براءتنا و ولائنا لشخص المتفقد الذي لا يفوقنا علما و لا تجربة؟ ما هي مقاييس انتداب المتفقدين؟ و هل هي علمية و موضوعية؟ و هل قرار المتفقد مستقل تماما عن إملاءات الوزارة؟ أقصد بالإملاءات أن لا يوظف المتفقد لخدمة أغراض إدارية ليست بيداغوجية كإخضاع الأستاذ المتنطع و المشاكس نقابيا أو إداريا و أن لا يستغل تقريره السلبي لأهداف تأديبية لا علاقة لها بالبيداغوجيا.
أنا لا أشك في الأشخاص و لا اقرأ النوايا و لا أحاكمها، لكن نقدي موجّه لنظام التفقد الذي يفتقد للتكوين الأكاديمي في علوم التربية و علم التقييم. مع العلم أنه ليس من السهل الفصل التعسّفي بين المهنة و أصحابها و قد سمعت مرات عديدة بعض المتفقدين المستنيرين رفاقي في المرحلة ثالثة علوم التربية، اختصاص تعلمية البيولوجيا، يتذمّرون من الأساليب البالية و المتخلفة و اللاعلمية و غير الموضوعية في مهنتهم و ينتقدونها بغيرة و إتقان المحترفين.
نمر الآن إلي المهم و هو "العقد التقييمي" (Le contrat d’évaluation) الذي يربط المتفقد بالمدرس و هو عقد ضمني غير مكتوب و مسكوت عنه من جل متفقدي الابتدائي والثانوي عن قصد أو دون قصد. يبدو لي انه من الأفضل أن يتولى المتفقد شرح هذا العقد في أول ملتقى بيداغوجي بمركز التكوين حتى يتبين المدرس حقوقه من واجباته كما أفعل أنا في أول حصة مع تلامذتي و أشرح لهم "العقد التعلّمي" الذي يربطني بهم ضمنيا. هل سمعتم يوما متفقدا يشرح للمدرسين الذين يشرف عليهم طريقة عمله أو يقرأ لهم مقياس تقييمه حتى يحذّرهم من الوقوع في الأخطاء الإجرائية البسيطة؟ نعم، سمعنا و أطعنا و يا ليتنا ما سمعنا و لا أطعنا و طبقنا بتبعية و عمى تربوي، سمعنا بعض المتفقدين يبدعون في الاتجاه المعاكس و يملون على المدرسين الخائفين الوجلين المبهورين وصفات بيداغوجية جاهزة.
نصل الآن إلى طرح الإشكالية التي يحتوي عليها عنوان المقال: كيف يستطيع المتفقد تغيير تصورات المدرس غير العلمية حول عملية التفقد؟ يعرّف مدير أطروحتي "كليمان" (1998, 2004) تصورات التلميذ على النحو التالي: تنبثق التصورات غير العلمية (Les conceptions non scientifiques) و العلمية من التفاعل بين معارف التلميذ و قيمه و الممارسات الاجتماعية المرجعية حسب نموذجه المشهور "م ق م" ذي الأقطاب الثلاثة (KVP : K, Knowledge en anglais ou connaissances ; V, valeurs ; P, pratiques sociales de référence) أستعير هذا النموذج من أستاذي و أكيّفه مع موضوعنا الحالي و أقول: تنبثق تصورات المدرس غير العلمية حول عملية التفقد من التفاعل بين معرفته بعلم التقييم و قيمه المرجعية و ممارسات المتفقد حياله و حيال زملائه أثناء الملتقيات البيداغوجية و خلال زيارات التفقد. يفتقد المدرس إلى علم التقييم كما أكدنا سابقا، إذن، يبقى في جعبته قيمه الموروثة حضاريا و المكتسبة اجتماعيا و تمثّله للسلطة المجسّمة في شخص المتفقد و تبرز ممارسات المتفقد باعتبارها عاملا محددا لتصوراته. هل يستفيد المدرس من الملتقيات البيداغوجية في مراكز التكوين؟ أنا أشك كثيرا في جدواها و ذلك للأسباب التالية: يقوم بالتكوين في هذه الحصص المتفقد أو أستاذ مكوّن و الاثنان يفتقدان للنظريات و كما هو معلوم، كل تطبيق سليم تسبقه نظرية سليمة تتفاعل بدورها مع نتائج التطبيق و تطور نفسها بنفسها. لقد مارست خطة أستاذ مكون لمدة عامين، و من حسن حظي أنه صادف في تلك السنة وجود برنامج تكوين في التعلمية، اختصاصي الثاني، لكن عندما كلفني المتفقد بتعليم زملائي كيفية استعمال الكتاب و أنا لا أحذقها و لا افقهها نظريا، اعتذرت و قدمت استقالتي فورا. زد على هذا أن أجر الأستاذ المكوّن زهيد جدا، ديناران و خمس مائة مليم الساعة، يعني يحضّر الأستاذ حصته لمدة 15 يوما و يعرضها على الحاسوب و يناقشها مع زملائه لمدة أربع ساعات و الأجر عشرة دنانير، أقل من الأجر الأدنى ليوم عمل! و في المقابل، عندما يستدعي المتفقد أستاذا جامعيا ليلقي محاضرة بساعتين يغدقون عليه أجرا محترما من مائة إلى مائتي دينار الحصة الواحدة. أليس هذا حيفا كبيرا و احتقارا مهينا و إحباطا مقرفا لمجهودات أستاذ الثانوي، كأن الأستاذ الجامعي التونسي عالم و منتج علم و الحقيقة أننا في الهواء سواء، نحن و هم ناقلو علم و لسنا منتجي علم و من ينتج العلم يقيم وراء البحار و يكافأ عند مجيئه بالدولار. كان الأجدر بوزارتنا أن تثمّن عمل أستاذ الثانوي و ترفع من شأنه لأنه هو الوحيد الخبير بشعاب التعليم الثانوي و مشاكله و إشكالياته و يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. يحمل المئات من أساتذة الثانوي أو الآلاف (لا أعرف الرقم الدقيق) شهائد عليا من ماجستير إلى دكتورا في كل الاختصاصات و على العكس يوجد حوالي عشرة آلاف أستاذ جامعي لا يحملون شهادة الدكتورا في الاختصاصات التي يدرّسونها مع العلم أنني لا ألوم هؤلاء الأخيرين و لا أستنقص من قيمتهم العلمية ففيهم أساتذة أكفاء أجلاء لكن الخور يبرز عندما يكون الدكتور متوفر في الاختصاص نفسه كحالتي و لا تنتدبه الجامعة لأسباب مالية غير بيداغوجية و أسمع من زملائي و أصدقائي طلبة معهد المتفقدين بقرطاج أن من يدرّسهم التعلمية هم متفقدو ثانوي لم يدرسوا أكاديميا و لو عاما واحدا هذا الاختصاص الصعب و المعقد.
يلحّ علي سؤال و هو الآتي: لماذا لا يُعلِم المتفقد مسبقا المدرس بزيارته؟ لقد سبق و ناقشت هذه المسألة مع صديق متفقد أساتذة علوم الحياة و الأرض و رفيق مرحلة ثالثة تعلمية البيولوجيا و قد قال لي بالحرف الواحد: أنا موافق على الإعلام المسبق للمدرس و ما الضرر لو حضّر درسه و هيأ تلامذته و بذل مجهودا اكبر في البحث و التمحيص؟ أليس هذا هو هدفنا في التكوين و قد بلغناه بأيسر السبل و بطريقة بنائية ذاتية؟ و استطرد يقول: تصور و قل لي حسب رأيك من عارض هذه الفكرة؟ الشباب أم الكبار في السن؟ قلت: طبعا الكبار. قال: آسف و الجواب خطأ، عارضها الشباب للحفاظ على هالة سلطتهم و سطوتها و بَهرجها و ناموسها، جنون العظمة الذي من أجله دخلوا المهنة.
لماذا لا يكون التفقد عبر لجنة متكوّنة من المتفقد و المدير و زميلين قديمين؟ تضفي اللجنة على التقييم التعددية و الديمقراطية و العدل و الإنصاف و تبعد عن المتفقد الشريف أخطار المهنة التي يتعرض لها كل مرب و المتمثلة في شبهات الرشوة و الانتقام و التحرش الجنسي.
كيف يكون التقييم علميا و موضوعيا و قد زارني المتفقد سبع مرات فقط خلال 36 عام تدريس. ثماني منهم في الجزائر، زارني خلالها متفقد مرة واحدة و أنا ادرّس اللغة الفرنسية، بقي معي ربع ساعة أمضاها في الشكر و الإطراء على مدرس في غير اختصاصه! في الجزائر، يسمون المتفقد مفتشا لأنه يفتش عن نقاط ضعف المدرس ليمسكه منها حتى ينكسر و يذل. يستمد المفتش قوته من ضعف المدرس و انعدام مقاومته و غياب صموده و فقدان ثقته بنفسه. زارني متفقد فرنسي عام 76 في جربة في آخر عامي الثاني تربص (دائما الأستاذ الجديد يقول في نفسه : هذه مهنة وقتية و سوف أكمل تعليمي و أنتقل إلى العالي و في أكثر الحالات يبقى في الثانوي طوال عمره أستاذا كما دخل أو أقل بحكم العمر و المرض) و رفضت قبوله لأني أتممت البرنامج و ليس لي ما أدرس في القسم فعاقبتني الوزارة و استغنت عن خدماتي نهائيا. رجعت إلى العمل في التعليم في نفس السنة عن طريق النقابة مع نقلة عقاب إلى غار الدماء. زارتني متفقدة فرنسية في غار الدماء و أنا متربص، قالت لي أثناء النقاش: لقد ارتكبت خطأ علميا. أقنعتها أنني لم أفعل و اقتنعت و رسّمتني بـ16 على 20. زارني متفقد في غار الدماء و خفّض لي العدد من 16 إلى 10 و رجع بعد شهر و أوصل العدد إلى 9 عقابا لي عن تجربة طريفة و مقنعة قمت بها و هي ليست موجودة في البرنامج الرسمي و معلومة علمية صحيحة علمتها لتلامذتي و من سوء طالعي و نحسي كان المتفقد يجهلها في ذلك الوقت ولم يقتنع بعلمي كما اقتنعت المتفقدة الفرنسية و شكرتني. ليس العيب في جهل المعلومة في حد ذاتها، و هذا وارد لدى أعلم الأساتذة، و لكن كل العيب يبرز عندما يعتبر المتفقد المعلومة الصحيحة خطأ لأنه يجهلها و الأغرب أن يسجلها في تقريره مع العلم أن هذا المتفقد بالذات يفوقني علما و تجربة و هو من أكفأ المتفقدين و أنزههم و أعلمهم لأنه متحصل على شهادة الدراسات المعمقة في علم الوراثة على ما أذكر. زارني متفقد في برج السدرية و طرق الباب قبل الدخول و طلب مني الإذن بالدخول، فتحت له الباب و رحبت به ترحيبا كبيرا و قلت له: أول مرة في حياتي يحترمني متفقد! زادني أربع نقاط و نصف فأصبح عددي 13.5. بعد عشر سنوات لحقني صدفة إلى ببن عروس متفقد غار الدماء المذكور أعلاه و وجدني أستاذا مكونا مع زميله الذي عوضه، جاءني في حصة تكوين و طلب مني بكل لطف و روح رياضية أن أنسى المشكلة التي وقعت بيننا في غار الدماء فاستجبت لطلبه فورا من فرط أدبه و سلوكه الحضاري. تشاء الأيام كما يشاء كشكار و يتفقدني هذا الأخير في برج السدرية و ينصفني أيما إنصاف و يعطيني عدد سبعة عشر, ما زلت أفتخر به حتى الآن.
كيف يكون التقييم علميا و موضوعيا و المتفقد يزور المدرس بمعدل مرة كل خمس سنوات و يقيمه خلال ساعة بعد أن يُفقده توازنه النفسي بطلته البهية و تكبره و تجهمه. ينهار المدرس منذ البداية و هو لا يرى في عينَي زائره إلا الترصد لأخطائه و تدوينها بحضور المدير أحيانا.
سأروي لكم سبع نُكَت واقعية حول التفقد في تونس:
نكته واقعية رقم 1: جاء متفقد لزيارة الأستاذ عمار، أستاذ علوم الحياة و الأرض، فلم يجده لأنه متغيب لسبب نجهله فتفقد مختار أستاذ العلوم الجديد و المتواجد بنفس المعهد. تم كل شيء بخير و الدرس ناجح و رجع المتفقد إلى قواعده سالما. بقي مختار أسابيع ينتظر التقرير و الفرحة تغمره مسبقا. جاء التقرير مذيّلا بعدد 14 على 20 لكنه باسم عمار و ليس مختار. شكى مختار مرارا و تكرارا و لم يتغير التقرير و بقي إلى يومنا هذا باسم عمار.
نكته واقعية رقم 2: حدث أن زارني في توزر متفقد في إطار الترقية المهنية. كان الدرس عاديا حتى وصلنا إلى تجربة هضم النشا داخل الأنبوب و تحويله إلى سكر العنب أو الجليكوز تحت تأثير اللعاب. فشلت التجربة لعدة أسباب كيميائية لا ذنب لي في فشلها. امتعض سيدنا و قام و غادر القاعة مسرعا و أمرني بالالتحاق به فورا. دون تعليق.
نكته واقعية رقم 3: حدثت لي الحادثة الطريفة التالية في يوم تكوين متفقدي الابتدائي في مركز التكوين: كنت اشرح لهم أسباب الحركات التنفسية عند الإنسان و قلت: يأتي التلميذ إلى الإعدادي و هو يعتقد جازما أن الهواء يدخل إلى الرئتين وينفخها فيرتفع الصدر. و هذا جواب غير علمي و الجواب الصّحيح هو الآتي: تتقلّص عضلات الصدر و عضلة الحجاب الحاجز و تتبعها الرئتان الملتصقتان بهما فيزيد حجم القفص الصدري فيخلق فراغا في الداخل يجذب الهواء من الخارج عن طريق الفم و الأنف. نلاحظ إذا أن دخول الهواء هو نتيجة و ليس سببا في حركات التنفّس. يتشبث التلميذ صاحب التصورات غير العلمية و يدافع عن نفسه بقوله أن المعلّم في الابتدائي لم يدرّسه المعلومة الصّحيحة و هذا مخالف للواقع لأن بعض التلامذة يحتفظون بهذا التصوّر غير العلمي رغم تصحيح المعلم أو الأستاذ للمعلومة و يعيدون استعماله في الثانوي و في العالي. رويت لهم ما وقع لي عندما كنت أشرح هذا الموضوع في الثانوي بعد نقلتي من إعدادية حمام الشط إلى معهد برج السدرية: نهض تلميذ مدافعا عن تصوراته غير العلمية و قال لي: أستاذ الإعدادي هو الذي علمنا خطأ. من سوء حظ هذا التلميذ أنني ما زلت أذكره من بين تلامذتي في الإعدادية و أنا نفسي الذي درسه حركات التنفس بطريقة صحيحة طبعا. ضحكت و قلت في قرار نفسي، يظلم أستاذ الثانوي المعلم و يظلم الأستاذ الجامعي أستاذ الثانوي بتحميل كل طرف الطرف الآخر وزر تصورات التلاميذ غير العلمية التي لا تريد أن تزول بسهولة من أذهانهم! النكتة هي التالية، في آخر الحصة التكوينية جاءني متفقد قديم و قال لي: قل ما تريد يا أستاذ فلن أقتنع بشرحك رغم احترامي لشخصك و لن أغير تصوري غير العلمي حول حركات التنفس و أنا على قاب قوسين من التقاعد المبكر و سأواصل الاعتقاد بأن الهواء يدخل و ينفخ الرئتين فيرتفع القفص الصدري. أجبته بالجملة المفيدة و المحببة عندي: أنا أتيت - لا لإقناعكم بالبراهين أو الوقائع - بل بكل تواضع لأعرض عليكم وجهة نظر أخرى.
نكته واقعية رقم 4: روت لي مرة أستاذة متربصة في علوم الحياة و الأرض ما يلي: كنت أخاف المتفقد و المدير و تصوّر يا زميلي العزيز، لقد هجم علىّ الاثنان في الوقت نفسه و عندما فتحا الباب دون استئذان طبعا، تراجعت إلى الوراء من هول ما رأيت حتى انكسر كعب حذائي العالي الأيسر و من كثرة الرهبة و الخوف بقيت أدرس و أنا محافظة على توازني طيلة ساعتين و كل ما رأيتهما يتهامسان و يبتسمان، أقول في قرار نفسي ضاع الترسيم و الخطيب الوسيم.
نكته واقعية رقم 5: كنا في مؤتمر علمي حول تعلمية علوم الحياة و الأرض في سوسة و كنت أترأس الجلسة و كلما صعدت إلى منصة الرئاسة إلا و استغليت الفرصة لنقد المتفقدين المتسلطين. لكن قبل كل هجوم أعتذر من زملائي المتفقدين و زميلاتي المتفقدات (Les inspecteurs didacticiens et les inspectrices didacticiennes) الحاضرين و الحاضرات، كل باسمه أو اسمها، و أستثنيهم أو أستثنيهن من النقد إلا متفقدة واحدة لا أسميها ضمن المستثنيات و هي صديقة لي و رفيقة مرحلة ثالثة، كانت صديقتي صغيرة السن و الجسم و رقيقة الملامح و خفيفة اللباس يستر سفورها خمار العلم و الصدق و العمل. جاءتني بعد الجلسة و لامتني بلطف و ابتسامة على عدم ذكر اسمها في كل اعتذار أوجهه لزملائها المتفقدين و قالت: ألست متفقدة؟ قلت: بلى، لكنك جميلة و ترقصين جيدا و أنا لم أشاهد في حياتي متفقدا يرقص! فأنت في مخيلتي لا تنطبق عليك مواصفات المتفقد و لو أصبحت وزيرا لفصلتك عن العمل حتى لا تمسّ من هيبة السادة المتفقدين و وقارَهم.
نكته واقعية رقم 6: ذهبت اليوم إلى ساحة محمد علي و التقيت صدفة بمجموعة من المعلمين النقابيين و بما أنني لا أومن بالشعار الزائف و المحنّط القائل أن "لكل مقام مقال" بل أرى أن كل مقال يصلح في كل مقام على شرط أن يكون علميا يستفيد منه الناس. و لا أعتقد أيضا في بعض مقولات اليسار حتى و لو كنت منهم. لا أستوعب و لا أفهم تعاملهم الدائم مع التناقضات المجتمعية أو المادية باعتماد المقاربة التحليلية (Approche analytique) و إهمال أو تجاهل المقاربة الشاملة (Approche systémique) .
و ترتيب هذه التناقضات ترتيبا ميكانيكيا حسب الأولوية من تناقض رئيسي إلى تناقض ثانوي. أنا أعتقد جازما أن كل التناقضات تتمتع بنفس القدر من الأهمية و لا أرتبها ميكانيكيا لا حسب الزمن و لا حسب الوزن و الأهمية بل أتعاطى معها حسب تفاعلها الجدلي فيما بينها فقد تتطور التناقضات الثانوية إلى رئيسية و قد تصبح التناقضات الثانوية رئيسية في زمن آخر و في وضعية أخرى و قد تبدو الرئيسية ثانوية من وجهة نظر فكرية معاكسة و العكس صحيح أيضا. أثناء التفاعل الجدلي أظل أنتظر النتيجة غير المعروفة مسبقا التي ستنبثق من هذا التفاعل المادي الجدلي بعقلية الباحث العلمي لا بعقلية الباحث الحامل لإيديولوجية معينة الذي يصنع نتائج بحثه بنفسه قبل إجراء تجربته ليوظفها خدمة لإيديولوجيته الساكنة منذ زمان في مخه. بعد هذا الهذيان النظري أمرّ لنقل أحداث القصة الواقعية التالية التي سمعتها اليوم بعد ما طرحت وجهة نظري حول نظام التفقد البيداغوجي التونسي على مسامع المجموعة المذكورة أعلاه. تدور أحداث هذه القصة في أواخر الثمانينات في ولاية من ولايات الشمال الغربي، بطلة القصة معلمة تبلغ من العمر 21 سنة في ذلك التاريخ (بعد أن استأذنتها في نشر ما روت و أخذت موافقتها شفويا، طلبت مني خوفا من التتبعات العدلية بتهمة الثلب، عدم ذكر اسمها و لا أسماء من ظلموها و لا أماكن عملهم.)، لم يمر على تعيينها سوى ثلاث سنوات، مترسمة بعدد 9 على 20، ناشطة نقابية قاعدية. عقابا لها على نشاطها النقابي، حسب ظنها، جاءها متفقد. امسكوا أنفاسكم و اربطوا أحزمتكم لأن ما سأرويه عن لسانها قد يفقدكم توازنكم التربوي. زارها متفقد من نوع لا أعرفه، زارها و تفقدها و بعث لها تقريرا بيداغوجيا ( ما زال في حوزتها حتى الآن) المدير الجهوي المساعد ، المسؤول عن التعليم الابتدائي بالجهة. صحيح أن هذا المسؤول الإداري كان يشتغل متفقدا بيداغوجيا قبل أن يتحول إلى موظف إداري كبير لكن، هل يسمح له القانون بتغيير جبته و صفته كما يشاء و متى يشاء و هو المؤتمن و الساهر على تطبيق القانون في الجهة؟ هل يحق له انتحال صفة المتفقد االبيداغوجي و هذا الأخير متواجد بدائرة التفقد المعنية بشحمه و لحمه؟ أنا أعتبر أن هذا التصرف الصادر عن المدير الجهوي المساعد إقرارا ضمنيا من مسؤول كبير بأن التفقد البيداغوجي سيف يسل فيشهر عند اللزوم لردع المدرسين الناشطين نقابيا و قمعهم! نسي هذا المسؤول الكبير أو تناسى أن الهدف الأساسي و النبيل المرجو من التفقد البيداغوجي هو إرشاد و توجيه المدرس بيداغوجيا و تربويا حتى يؤدي رسالته التربوية المقدسة على أحسن ما يرام! أثناء النقاش بعد انتهاء الحصة و بحضور مدير المدرسة، طلب المدير الجهوي المساعد من المعلمة أن تقوم و تتمشى أمامه ذهابا و إيابا حتى يقيّم هندامها و لباسها! بعد أسبوع جاء التقرير البيداغوجي لهذا المدير الجهوي المساعد محبطا لآمال و طموحات معلمة شابة ابتعدت عن أهلها في العاصمة لأداء رسالة نبيلة كادت أن تساوي رسالة الأنبياء، جاء و فيه تخفيض للعدد من 9 إلى 4 على 20 و يحتوي على التوصية التالية: الرجاء إعادة التكوين الجذري لهذه المعلمة. أتساءل أنا هنا و بكل براءة: من أحوج إلى إعادة تكوينه الجذري، المعلمة أو المدير الجهوي المساعد ؟ ردّت المعلمة الشجاعة على هذه الإهانة بتقرير مضاد. زارتها لجنة من ثلاثة متفقدين من العاصمة و أنصفتها بعدد 11 على 20. لم يرض هذا العدل سيدنا و مولانا المدير الجهوي المساعد و أصرّ و ألحّ على إذلال المعلمة و إحباطها و طلب إحالتها على مجلس التأديب متهما إياها بالمس بسياسة الدولة في تقريرها المضاد و كان له ذلك بسلطة "كن فيكون". أتساءل و للمرة الثانية و بكل براءة أيضا: من من الطرفين في النزاع مسّ بسياسة الدولة؟ قرّر مجلس التأديب الموقر و المستقل نقل المعلمة نقلة وجوبية مع تغيير محل الإقامة و نفذت العقوبة في شهر ماي من نفس السنة الدراسية و انتقلت مناضلتنا للتدريس بمدرسة ريفية نائية بولاية من ولايات الوسط. دون تعليق. لا تنزعجوا على مصير بطلتنا الإيجابية و زميلتنا المناضلة التربوية فهي الآن معلمة تطبيق في العاصمة. أما بطلنا السلبي فلا أشك أنه كرم على أساس أنه مرب فاضل و صالح، خدم السياسة التربوية للدولة التونسية على أحسن وجه و لا اشك، لو ما زال حيا يرزق أنه ينعم بتقاعد سعيد في كنف ضميره المرتاح و لو توفي فرحمة الله عليه و أسكنه الله فراديس الجنان و عفي الله عما سلف.
توضيح قد لا يفسد للنقد قضية: كعادتي دائما و بكل صداقة و لطف و تواضع أحوّل كل مقهى أجلس فيه إلى مقهى ثقافي و لا تعنيني التوجهات الفكرية أو الانتماءات السياسية أو الرتب الإدارية لجلسائي و أطرح همومي الفكرية و التربوية بكل شفافية قصد تعريضها للنقد بهدف تهذيبها و تصحيحها و تطويرها قبل النشر على النات و بعده. طرحت موضوع النكتة الواقعية رقم 6 فعلقا على روايتي صديقان حميمان مسؤولان، واحد مدير معهد و الآخر مدير في وزارة التربية بالقول التالي: من صلوحيات وزير التربية أن يكلّف المدير الجهوي المساعد المذكور أعلاه بمهمة التفقد البيداغوجي للمعلمة المعنية لأسباب نجهلها خاصة و أن هذا المسؤول الإداري كان يشغل وظيفة متفقد بيداغوجي قبل أن يلتحق بسلك الإداريين. لا يمكن حسب اجتهادهما أن يسلك هذا المدير الجهوي المساعد سلوكا قد يحاسب عليه إداريا و قضائيا خاصة و أنه ترك وراءه دليلا ماديا على تفقده يتمثل في التقرير البيداغوجي الذي أرسله إلى المعلمة عن طريق التسلسل الإداري.
نكته واقعية رقم 7 و هي شهادة ذاتية على العصر: كنت و أنا أستاذ شاب في غار الدماء، كلما علمت بقدوم المتفقد إلى معهدنا ينتابني إسهال فظيع و أذهب عدوا إلى بيت الراحة و اليوم شفيت و الحمد لله.
للمتفقدين نقابتهم و للأساتذة نقابتهم و الاثنتان منضويتان تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل فلماذا لا ينسقان لحل المشاكل العالقة و الطارئة نقابيا بين الشريكين في العملية التربوية؟
أنهي مقالي بطرح السؤال التالي على زملائي المدرسين، إن سمحت الوزارة بذلك: ما هي تصوراتكم حول نظام التفقد و ممارسات المتفقد؟ و كباحث علم لن أستنتج شيئا قبل إجراء البحث و أترك نكهة اكتشاف النتيجة لزملائي المتفقدين الأعزاء حتى يتعرفوا على صورتهم الحقيقية في مرآة المدرسين و أتمنى أن تكون صافية و جميلة و يستفيدوا منها في أداء وظيفتهم النبيلة على أحسن وجه. لا تظنوا أنني أكره التفقد و المتفقدين، بل بالعكس، ما تمنيت يوما في حياتي أكثر من أمنية ممارسة هذا الدور الفلسفي الابستمولوجي النقدي لما له من إشعاع على أكبر عدد من المدرسين و التلامذة. يكفي المتفقد شرفا علميا أنه يحاول جر المدرس إلى "إدراك عملية الإدراك" في البناء الذاتي للمعرفة لديه و لدى تلامذته.
لم أشارك في مناظرة التفقد لأني في بداية حياتي المهنية لم أكن مجازا و في الـ41 من عمري تحصلت على الإجازة و توجهت مباشرة للبحث العلمي و إعداد دكتورا في تعلمية البيولوجيا بين جامعة تونس و جامعة كلود برنار بفرنسا، أخذت من عمري و وقتي ثماني سنوات عجاف ماديا و حبلى فكريا
أعتذر لكل المتفقدين المحترمين، و ككل مهنة، تضم هيئة المتفقدين الغث و السمين. أؤكد لكم يا سادتي المتفقدين أنني أنطلق من غيرتي على التعليم التونسي المهدد من الداخل و الخارج و من وعي تربوي خال من الخلفيات السياسية و الإيديولوجية و ليست لي حسابات قديمة أصفيها لأن نظام التفقد أنصفني بإسناد العدد 17 على 20 و أنا راض كل الرضا. أحبكم و أعشق مهنتكم و أغبطكم عليها و أعتذر للمرة الألف إن جرحت شعوركم أو خدشت كبرياءكم دون قصد مني. ألف تحية و السلام عليكم جميعا بغثكم و سمينكم.
ملاحظة: لم أتحدث عن التفقد في التعليم الابتدائي لأنني أجهل نظامه. لكن رغم عدم إلمامي بتفصيلاته سأدلي بدلوي في عمقه: سبق لي و إن اقترحت في بعض مقالاتي السابقة إحداث خطة معلم مجال مثل معلم مختص في الرياضيات و آخر في اللغة العربية و آخر في الإيقاظ و آخر في الفرنسية و آخر في الأنقليزية و آخر في التربية كما أرجو بالمثل إحداث خطة متفقد مجال في الابتدائي
ملاحظة مضافة إلى المقال حول التفقد بتاريخ 9/10/10:
بعد 36 عام تدريس و لأول مرة في تاريخي المهني، عرض علينا اليوم متفقدنا المحترم - في أول اجتماع بيداغوجي - مقياس التفقد و قرأ جميع بنوده و شرحها بالتفصيل. أعلمنا اليوم أنه لا يوجد تفقد في دولة كندا و لا تسند أعدادا للأستاذ بعد التفقد في فرنسا.
أتساءل ببراءة الباحث: لو كان التفقد البيداغوجي ضروريا، لماذا ألغي في كندا و في فنلندا و غيرها من الدول المتقدمة و في كل جامعات العالم؟
إمضاء م. ع. د. م. ك.
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire