النقد استعلائي أو لا يكون.
مواطن العالم د. محمد كشكار
النقد استعلائي بطبيعته و
الناقد متواضع بطبيعته.
يتواجد النقد داخل طبقة تعلو
طبقة الإنتاج الذهني و اليدوي و يتواجد أيضا فوق النظريات و الممارسات حتى يتمكن الناقد
من نقد المعرفة بوضوح ليكشف كل أخطائها و كل عيوبها. و الناقد و بحكم اختصاصه، فهو
يأتي دائما في المرتبة الثانية بعد المنتج الأصلي للعلم أو الأدب أو الفن لأن
إبداع الناقد ينبني بالضرورة على إبداع المنتج.
النقد لا يعجب من لا يؤمن
بالنقد. يمثل النقد مؤسسة قائمة بذاتها و لولا الإضافات النقدية من علماء
الابستومولوجيا لما تقدمت العلوم. العالم الابستومولوجي هو شخص جالس على الربوة
لكنه شخص يشتغل. يستعمل عادة غير العارفين عبارة "جالس على الربوة" ككلمة
حق أريد بها باطل أو كسبّة أو شتيمة توجه إلى نُقاد الممارسة النقابية، و الربوة في
الواقع ليست إلا موقعا فيزيائيا يطل من فوقه الناقد على ما ينقد، و الناقد للنقابة
قد لا يمارس النشاط النقابي، لكنه ليس
متعاليا على النقابة و لا على النقابيين.
قد لا يشارك العالِم الابستومولوجي في عملية الخلق العلمي
المباشر في العلوم الصحيحة و التجريبية أو
قد يكون شارك و انقطع و لم يعد يقوم بتجارب في الغرض و إنما اختص في نقد ما يقوم
به زملاؤه من العلماء الممارسين أو المنتجين المباشرين للعلم و المعرفة عموما. لم يلمه
هؤلاء الأخيرين على عدم مشاركته في أبحاثهم بل يكتفون بتوجيه التحية له و هو رابض
على ربوته و يقولون له: "شكرا على تقييم و تعديل و تقويم أخطائنا". مَثل
العالِم الابستومولوجي كمَثل إنسان يحمل في يده كشاف نور و يتبع العالِم كظله حتى
يكشف لنا كل أخطائه و كل عيوبه. و رجاء لا
تستهينوا بالأخطاء خاصة عندما نستفيد منها، و قد يتطور العلم من
الأخطاء المشابهة. وُلد
الذكاء الإنساني نتيجة نقلة نوعية في التطور البيولوجي، نقلة ناتجة هي بنفسها عن خطأ
في جزيء الحمض النووي و انبثق عن التغيير الكيميائي في جزيء الحمض النووي تطور في
المخ البشري، و من هذا التطور تفرّع
الغصن البشري في شجرة الكائنات الحية التي بلغ عمرها حتى الآن أربعة مليار سنة حذو
فرع ابن عمنا و ليس جدنا القرد كما يردد خطأ أكثر الناس.
أنا أتمنى لكن لم أصل بعدُ إلى هذه المرتبة العليا من
التنظير العلمي. للأسف، ما زالت قيود
الممارسة النقابية تشدّني إلى الوراء مثل المشاركة في الإضرابات التي تُنفذ لصالح الوزارة
المُشغّلة أو حضور ندوات الإطارات النقابية التي يغلب عليها التنافس و التنابز و يسود
داخلها نقاش بيزنطي أو حضور التجمعات الأستاذية أمام الإدارة الجهوية، تجمعات
تُقام العديد منها من أجل مساندة و حماية
زملاء متقاعسين في عملهم. كل هذه القيود - النضالية في ظاهرها و العصبية لنفس
المهنة (Corporatisme)
في داخلها - ما زالت تُكبل العمل النقابي.
لم يعِ عامة النقابيين بعدُ
أن النقد مهمة مكتملة و مستقلة و شريفة و لا تحتاج للممارسة العملية حتى تثبت صدق
نيتها و نجاعتها، و في المقابل فالممارسة العملية هي التي تحتاج دوما للممارسة
النقدية لأن العالِم لا يستطيع المشي في الطريق بسلامة إلا بمساعدة كشاف نور
الناقد. ينظر الناقد إلى الممارسة العملية من علِ ليقيّمها بنظرة بانورامية تكشف
كل جوانب المسألة. يكتسب الناقد العلوّ و الرفعة من موقع الإشراف و المقاربة الشمولية
التي لا تهمل أي جانب من المسألة و لا يكتسبه من التعالي و التكبر.
يمثل الناقد النقابي و الناشط
النقابي مهمتان مستقلتان لكن متكاملتان و لا يمكن جمعهما في شخص واحد إلا في حالات
نادرة جدا حيث يتواجد شيء من النزاهة و نكران الذات، و الأفضل فصل الدورين عن
بعضهما و الحفاظ على مكانة كل منهما على حده، و يكون الاحترام شرط أساسي من شروط
التعايش بين الممارس و الناقد حتى يستفيد كل واحد منهما من خبرة و حرفية الآخر.
لا يمكن أن يستغني الممارس النشيط
عن المنظّر النشيط و الناقد الحصيف إلا إذا قرر الأول الاستمرار في ممارسة الخطأ
رغم تنبيه الثاني. من وجهة نظري لا يجب أن يُعتبر النقد جبنا مقارنة بالممارسة
المباشرة، و ليس الناقد في أمان فوق ربوته، و قد سبق إن قُتل الكثيرين من النقاد
في عالمنا العربي لأنهم أخطر من الممارسين في أكثر الأحيان. يمتاز الناقد على الممارس
بالقدرة على الطيران من ربوة إلى أخرى، دون أن يُكسر له جناح و هو حر طليق كطيف
النسيم.
و السلام على أمة يكفر أكثر
أبنائها بالنقد.
في النهاية, أنا لا أقصد إقناعكم بالأمثلة و البراهين
بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى. و على كل مقال سيئ نرد بمقال جيد لا
بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire