lundi 8 juillet 2013

كيف بدأ الإسلام السياسي يفقد مصداقيته في العالم العربي و يتقهقر جراء تحالفاته الخارجية المشبوهة و جراء إهماله لمكامن القوة في شعبه و مجتمعه المدني؟ مواطن العالم د. محمد كشكار

كيف بدأ الإسلام السياسي يفقد مصداقيته في العالم العربي و يتقهقر جراء تحالفاته الخارجية المشبوهة و جراء إهماله لمكامن القوة في شعبه و مجتمعه المدني؟ مواطن العالم د. محمد كشكار

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 10 مارس 2012.

مقدمة هامة
مقال فني نقدي كما أراه أو كما يبدو لي على الأقل: أتمنى أن يسمعني و يقرأني أصدقائي من الضفتين - الإسلامية و العَلمانية - هذه المرة إلى آخر المقال مهما طال، ، و هذا ليس استجداءً لعواطفهم و أنا القائل دوما و لا زلت و لن أتنازل عن موقفي الشخصي هذا: أنا أكتب لنفسي و لمتعتي الفكرية أولا و أخيرا و لا يضيرني إن قرأني واحد أو ألف، و أرى أن استقلاليتي الفكرية و عدم انتمائي الحزبي هما الضمانتان الوحيدتان لحيادي السياسي، و لن أكتب ما حييت إرضاءً لجانب معيّن على حساب جانب آخر حتى و لو كان الأول عائلتي الفكرية المرجعية و الثاني خصمي الفكري و ليس عدوي الإيديولوجي.

ليس استجداءً بل هي صيحة حب و فزع و ألم و خوف على مستقبل تونس المهدد من تدخلات أمريكا و قطر و السعودية في شؤوننا الداخلية الخاصة. أما اخوانجيتنا و يسارنا فنحن نعرفهم و خبرناهم جيدا على مدى عقود من التعايش السلمي المملوء مودة و تقديرا متبادلا مع تعميق في نفس الوقت و توضيح لنقاط الاختلاف أو الخلاف.

صحيح، شتمنا بعضنا البعض عند التشنج و التعصب، صحيح، ضربنا بعضنا البعض عند التهور لكن ما هو ثابت و صحيح أيضا أننا كلنا نحب بلدنا أكثر مليون مرة من حب الأجانب لها و الدموع التي تذرفها  الحكومات الأمريكية و القطرية و السعودية و الأوروبية عطفا علينا، ليست إلا دموع تماسيح.

من فضلكم أتركونا يا أجانب - عرب و غرب - لحالنا و نحن أدرى بشعابنا، فهل يستطيع الأخ النهضاوي أن يكره أخاه اليساري حتى و لو أراد و العكس صحيح؟ لا أظن ذلك ممكنا! و هل يمكن للأب أن تطيعه أبوّته و يخونه حنانه و يتخذ موقفا حاسما من  ابنته بمجرد أنه هو يساري الهوى وهي نهضوية النزعة؟ مستحيل طبعا و ألف مستحيل! على العكس فقد يكبر احترام الأب لابنته لمجرد أنها اختارت و بإرادتها نهجا غير نهجه و قد يكون نهجها فيه الخير كله لها و لزوجها و لذريتها.

أما سلفيينا التونسيين الطيبين المسالمين الورعين قبل الثورة، فأنا أول مَن دُهش و تفاجأ بالكم الهائل من العنف الكامن في نفوس البعض منهم حين خرج علينا غُلاتهم كالجن من القمقم بعد الثورة فجأة و دون سابق إعلام و كأن طيفا من الجن أوحى إليهم باستعمال العنف منهجا في التعامل مع إخوانهم في الوطن و اللغة و الدين، إخوانهم التونسيين العَلمانيين، أو حُقنوا بحقنة غربية الصنع سعودية التمويل و الإسناد السياسي (كلاشنيكوف في بئر علي بن خليفة و تاجروين و سيارات هامر في صفاقس و مرتبات خيالية لشباب طمّاع جاهل بدينه و دنياه و مهمش عاطل عن العمل) إلى درجة أن حكومة النهضة نفسها لا تريد بل لا تقدر على مواجهتهم لأنها مكبلة على ما يبدو بفيتو سعودي يمنعها من مواجهتهم حتى و لو أرادت ذلك حفاظا على الدعم المادي الهزيل الذي يأتيها قطرة قطرة من السعودية، السعودية التي استضافت رئيسنا المخلوع بن علي و الذي لم يجرؤ رئيس وزرائنا الجبالي على المطالبة باسترجاعه من أجل محاكمته على الجرائم التي اقترفها في حق إخوانه الإسلاميين  قبل الجرائم التي اقترفها في حق الشعب التونسي كله.

أدعو بكل لطف كل إخواني النهضاويين و جميع رفاقي اليساريين إلى قراءة هذا المقال بكل تمعّن و بكل قلب مفتوح على الآخر و خاصة عندما يكون هذا الآخر هو ابن بلدك و صديقك و قريبك و فرد من عائلتك الضيقة أو الموسّعة الذي ليس لك منه مفر، شئت أم أبيت.

أخاطبك أنت، أنت كمواطن فقير أو متوسط (الأغنياء فقط يقدرون على الهجرة الحرة المريحة و الفرار و الهرب من السفينة عندما تعصف بها الرياح الخطرة و يستطيع أيضا بعض المثقفين المحظوظين فقط الذين تُقبل ملفاتهم في  الهجرة المنظمة إلى أمريكا أو كندا أو استراليا)، أنت يا زميلي في الفقر و سوء الطالع، أنت و أنا فقط مُطالبون بل مُجبرون على التأقلم و العيش المشترك مع أمثالنا و الطيور على أمثالها تقع، اخوانجية كانوا أو يساريين، مُجبرون على العيش الضنك معا في بلد ضنك فقير و متخلف و في مدينة واحدة لا تشبه المدن و في حي واحد غير نظيف و ممكن في أسرة مضيقة واحدة. نحن التونسيون قادرون على التفاهم مع بعضنا البعض رغم اختلاف أفكارنا و مرجعياتنا على شرط أن يتركنا في حالنا الشيطان الأكبر، أمريكا و حليفاها العربيين قطر و السعودية و بعض الأنظمة الأوروبية المتواطئة معهم.

ملاحظة هامة
نص مقالي في الفقرة الموالية لهذه هو نص منسوج على منوال نص هاشم صالح في كتابه "مدخل إلى التنوير الأوروبي"، صفحة 133 - 135، تأليف: هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة و النشر و رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى 2005، الطبعة الثانية 2007، بيروت - لبنان، 264 صفحة.
شرحَ هاشم صالح في هذا النص أسباب النهضة الأوروبية في أواخر العصور الوسطى. يتحدث هذا الكتاب عن روّاد النهضة الأوروبية، و تناقضهم الفكري مع الرهبان و مع العقيدة المسيحية نفسها، في أواخر القرون الوسطى، بداية من القرن الرابع عشر ميلادي حتى القرن الثامن عشر.
القرن الثمن عشر هو عصر العقل و عصر التنوير أو عصر فلسفة الأنوار أو قرن الأنوار كما يحلو للفرنسيين تسميته و الافتخار عن جدارة بمنجزاته أو عصر التحرّر العقلي و الفكري، صاحب المشروع النضالي الضمني غير العلني بسبب خوف الفلاسفة من السلطة و الكنيسة المرتبطة بها عضويا حينذاك، هذا العقل التنويري الذي يريد تخليص البشرية الأوروبية و غير الأوروبية من ظلمات العصور الوسطى و هيمنة رجال الكنيسة. 
استعرت من الكاتب هاشم صالح القالب اللغوي لنص مقالي الموالي و طوّعت هذا القالب و حشوته أفكارا شخصية و نقدا لواقعنا العربي الإسلامي المعاصر المعيش في القرن الواحد و العشرين. يبدو لي أنني قد قمت بذلك بشفافية دون سرقة أدبية فجة أو سخيفة و دون تعسّف أو تحريف أو تجنّ على النص الأصلي و دون إسقاط مرحلة على مرحلة أو حضارة على حضارة أو دين على دين أو نقد على نقد.

نص المقال الذي أنتجته بنفسي:
لم تكن الثورة العلمية العالمية و الفلسفة الحداثية الغربية هي وحدها السبب في تزعزع التراث الديني الإسلامي البشري المتراكم و المتكلس عبر 15 قرن، أو قل بداية تزعزعه. و إنما كان هناك سبب آخر يعود إلى ممارسات بعض علماء الدين و دعاته و ممارسات بعض النشطاء السياسيين الإسلاميين مثل الإخوان المسلمين في تونس و مصر. فقد كانوا يقولون شيئا و يفعلون شيئا آخر. و هذا ما أفقدهم مصداقيتهم في أعين الكثير من المثقفين المسلمين، عَلمانيين كانوا أو حَداثيين أو يساريين.
صحيح أن قداسة "العلماء المسلمين" ظلت كبيرة في نظر عامة الشعب و بعض المتعلمين غير المثقفين و أتمنى أن تزول الغشاوة عن أعين هؤلاء الأخيرين. لقد أخذت بذور الشك تدب في نفوس الناس و بدأ البعض - ممن يمتلكون الثقافة المتنوعة المصادر و التعليم الكافي للحكم على الأشياء العامة - يشككون في أقوال هؤلاء العلماء و تعاليمهم (مثل ختان البنات و إرضاع الكبير و تعدد الزوجات و تكفير السافرات و غيرها من الشوائب التي علقت بالدين طوال قرون).

ثم أخذت الأمور تتطور أكثر فأكثر حتى وصلت إلى مرحلة الأزمة المفتوحة في نهاية القرن العشرين، عصر التنوير بالنسبة للعرب و المسلمين. و لكن لا ينبغي أن نشمل جميع علماء الدين و دعاته أو جميع الإخوان المسلمين بهذا الحكم. فبعضهم كان ورِعا عميق الإيمان و زاهدا في هذه الحياة الدنيا. و لكن الكثيرين كانوا قد نسوا التعاليم الإسلامية الأساسية السامية و النبيلة و ابتعدوا عن روح الإيمان المجرد الخالص لله في علاقة عمودية مباشرة و تمسكوا بقشور الإيمان و أبقوا على الحركات الرياضية المفرغة من كل ورع و تقوى في الصلاة و أبقوا على الجوع المادي في الصوم و على التباهي بلقب حاج و على المنّ بالزكاة و الصدقة. و هذا ما أدانه المصلحون المسلمون الجدد أمثال جمال الدين الأفغاني و محمد عبده و الطاهر بن عاشور و الطاهر الحداد و عبد المجيد الشرفي و محمد أركون و محمد الطالبي و محمد الشريف الفرجاني و هشام جعيط و هاشم صالح و علي شريعتي و غيرهم من المصلحين الجدد.

يُضاف إلى ذلك أن علماء الدين و دعاته - أو بالأحرى كبارهم - تاجروا بالدعوة فأصبحوا أغنياء جدا يعيشون حياة الرفاهية في قصور الخليجيين، أمثال الشيخ يوسف القرضاوي و وجدي غنيم و عمرو خالد و غيرهم، أو في قصورهم الخاصة،  فمعظمهم ينتمي أو أصبح ينتمي إلى طبقة الأرستقراطية.

و لكن الشيء الذي أدى إلى تدهور صورة الإسلام السياسي في أعين الناس هو تلك الملاحقات المشينة لعلماء الطبيعة و المفكرين و الصحفيين أو الاعتداء عليهم بالعنف الشديد أو نفيهم و تهجيرهم قسرا أو تصفيتهم جسديا، مثل ما اغتِيل حسين مروة و مهدي عامل في لبنان و اغتِيل أيضا فرج فودة في مصر و اعتُدي بالسكين على نجيب محفوظ و ذُبح بعض الصحافيين في الجزائر و قتل مئات العلماء العراقيين أو هُجروا قسرا إلى كردستان و الغرب و ضُرب بعض الأساتذة الجامعيين و الثانويين و الصحافيين في تونس ما بعد الثورة تحت سلطة حكومة الإخوان المسلمين التونسيين، الحكومة التونسية الإخوانية الحليفة المجهرية لأمريكا، أمريكا عدوة المسلمين بشهادة الإخوان المسلمين أنفسهم في أدبياتهم قبل "الربيع العربي"، و حليفة قطر المطبّعة الأولى مع إسرائيل عبر قناتها الجزيرة و هذا التطبيع مناف لمبادئ الإخوان المسلمين.

يبدو لي أن سلطة النهضة في تونس، هي سلطة فُرِضَ عليها سلطة موازية مكونة من سلفيين جهاديين ممولين من السعودية، أكبر دولة رجعية متخلفة في العالم و قد كان راشد الغنوشي ممنوعا من زيارتها لآرائه المناهضة لسياستها الرجعية و غير الإخوانية.

و مما زاد الطين بلّة، الأحداث الإرهابية الكبرى التي هزت العالم في  بداية القرن الواحد و العشرين في نييورك و لندن و مدريد أو الحروب الأهلية التي أكلت من عدد المسلمين الكثير في العراق و الجزائر و الصومال و أفغانستان و لبنان و السودان.

و من المتناقضات أن هذه الأحداث الإرهابية الكبرى قد قوّت من عود الإسلام السياسي الإخواني بالأساس وسمحت لجناحه المعتدل و الأكثر تنازلا و الأقرب إلى التطبيع و المتخلي عن مبادئ الحركة المنشورة في أدبياتها أن ينمو على حساب الجناح الإخواني المتطرف. بعد "الربيع العربي"، استلم الشق الإخواني "المعتدل" السلطة في ليبيا و مصر و تونس و قريبا في سوريا، و ككل الأحزاب اليمينية و اليسارية لم يشارك الإخوان كمؤسسة حزبية في إشعال و تنفيذ "الثورات" بل شاركوا كأفراد قاعديين.

كمسلم يساري عَلماني حداثي نقابي قاعدي ديمقراطي غير ماركسي و غير منتم لأي حزب أو جمعية سياسية أو اجتماعية، لا أنكر بتاتا أن الإسلام السياسي و خاصة حركة الإخوان المسلمين العالمية قد شاركت مشاركة فعّالة في النضال ضد أنظمة الاستبداد في تونس و مصر طيلة عقود من سنوات الجمر و دفعت ثمنا غاليا متمثلا في مئات من شهداء القمع و الظلم  و آلاف من المنفيين قسرا و عشرات الآلاف من المساجين السياسيين المحطمين و آلاف من المعوقين بفعل التعذيب الجسدي و النفسي و لم يسلم من الأذى مئات الآلاف من أسرهم و أقاربهم و أصدقائهم و المتعاطفين معهم و فيهم من خسر مستقبله الدراسي أو المهني أو التجاري أو السياسي و فيهم من فقد آدميته تماما أو فقد عقله من هول ما تعرّض له من تعذيب جسدي و نفسي قاس جدا. لكن إحقاقا للحق و لنعطي كل واحد أجره على قدر مجهوده فالثورات العربية الأخيرة المجهضة و المسروقة و المغدورة، قد قام بها - على ما يبدو لي - الحداثيون اليساريون و المسلمون المستقلون و القوميون و الليبراليون و الَعَلمانيون و النقابيون القاعديون و المهمّشون و العاطلون عن العمل و المثقفون الفقراء المبعدون و المقصون.

كل هذه الأحداث الأخيرة - سلطة الإسلام السياسي في تونس و مصر و ليبيا - المنبثقة بعد "الربيع العربي" و غير المبرمجة دفعت بشريحة كبيرة من المسلمين العاديين غير المسيّسين أو غير الممارسين للشعائر الإسلامية إلى التشكيك ليس فقط بعلماء الدين و دعاته و نشطائه السياسيين الإسلاميين، , بل وصل التشكيك إلى أجمل ما في العقيدة الإسلامية من قيم إنسانية عالمية منفتحة و متسامحة و غير تكفيرية و غير منفّرة و قابلة للآخر في رحاب الإسلام العالمي دون قيد أو شرط مسبق مهما كانت عقيدة هذا الآخر، يهودية كانت أو مسيحية أو بوذية أو ماركسية أو ملحدة أو لا أدرية، و دفع الدين الإسلامي و لا زال يدفع ثمن ذلك باهظا. و الله، لو أراد أعداء الإسلام أن يضرّوا بالإسلام لََمَا نجحوا في مسعاهم مثلما ما نجح هذا الطابور الخامس المتكون من أشباه علماء و أنصاف دعاة و بعض النشطاء السياسيين الجهلة بالدين و بالعلوم الحديثة الضرورية لفهم الدين، نشطاء مسنودين من قبل متطرفين إسلاميين و الإسلام الوسط منهم براء. لقد دفع الإسلام ثمن تزمّت رجالاته و تعصبهم و انغلاقهم العقلي عن فكر الحضارات الأخرى الغربية منها و الآسيوية. أعني برجالاته، بعض علمائه و دعاته و محترفي سياساته و بعض الجهلة من المنتسبين زورا إلي الحضارة العربية الإسلامية، و هم ليسوا أهلا بالانتساب إلى أول و آخر دين أممي غير عنصري لا يفرّق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى و باب الرحمة و التوبة عنده مفتوح على مصراعيه إلى آخر دقيقة من حياة "الإنسان الإنسان".

إن الإسلام لم يميّز و لم يفرّق بين مسلم أورتدوكسي و مسلم عَلماني و مسلم يساري و لم يغلق باب رحمته أيضا في وجه  اليهودي و النصراني و البوذي و اللاأدري و الوثني و الملحد. و لنا عبرة لمن يعتبر في إسلام روجيه قارودي في سن متأخرة، 69 سنة، و هو المنظّر و المؤسس للحزب الشيوعي الفرنسي سابقا، و انظر ماذا يقدمه هذا العالِم الآن نصرة للإسلام  و المسلمين في جميع أنحاء العالم و انظر أيضا وقوفه البطولي ضد اللوبي الصهيوني في فرنسا و ما عاناه شخصيا من جرّاء موقفه الجرئ  و الشجاع هذا.

تربصوا و تريّثوا يا أولي الألباب من المسلمين المتعصبين ولا تصدروا أحكاما تكفيرية أرجأها الله بعفوه و رحمته و حكمته إلى يوم القيامة و أنتم تتعجلون الإساءة إلى أمة محمد الفعلية و المحتملة، و الأمة المحتملة  أرحب لأنها تشمل بالقوة - بالمعنى الفلسفي للكلمة - الناس أجمعين، مسلمين فعليين و مسلمين محتملين من غير المسلمين الحاليين.

إن الناس لم يعودوا يفهمون كيف يمكن للمسلم السنّي العراقي أن يقتل المسلم الشيعي العراقي و العكس صحيح أيضا أو يفجر مكان عبادته التي هي نفس عبادته، و الغريب أنه يتم كل هذا باسم القرآن و الرسول محمد صلى الله عليه و سلم أو باسم الحسين بن علي بن طالب رضي الله عنه، في حين أن الشيعي مؤمن مثل أخيه السنّي و مسلم مثله!...صحيح أنه ينتمي إلى مذهب آخر في الإسلام، و يمارس الطقوس الدينية و العادات و الاحتفالات و الأعياد بطريقة مختلفة نوعا ما، و لكنه في الأصل مؤمن بالله و بالقرآن و برسوله محمد الأمين...فكيف يمكن للإيمان أن يدفع بالسنّي لقتل أخيه الشيعي أو أخيه السنّي و يدفع بالشيعي لفعل نفس الشيء بأخيه الشيعي أو أخيه السنّي، كلهم يقتلون بعضهم بعضا دون قضية و دون رحمة و الحيوانات من نفس الفصيلة أرحم منهم على بعضهم بعضا؟ هل يُعقل هذا في زمن إنساني متقدم متنوّر متطور كهذا؟ ألا يوجد هنا تناقض أو سوء فهم للإيمان؟ هكذا بدأت بذرة الشك تدب إلى النفوس المطمئنة للإسلام. قال تعالى: "أَلاَ بذكر الله تطمئن القلوب".

ينبغي أن نعلم هنا أن الشيعة العراقيين قد قاموا بتصفية السنّة، شركائهم في المواطنة و العرق و الدين و اللغة و السنّة فعلوا بالشيعة نفس الشيء، خاصة بعد دخول الأمريكان إلى العراق في 2003. و قد وقّع و بصم على هذه التصفية غُلاة الشيعة، حكام العراق الجدد بالتحالف مع النظام الشيعي الإيراني، و أجج الحرب الأهلية معارضة سنّية بمباركة و تمويل قطري - سعودي. و الغريب أنهم زعموا أن ذلك ضروري من أجل توحيد العراق خدمة لأجندا أمريكية - إيرانية - سعودية، لا ناقة فيها و لا جمل للعراقيين المدنيين الفقراء المسالمين، الخاسرون الأولون و الأخيرون في هذه الحرب الأهلية المفبركة و المبرمجة من الخارج بهدف نهب الثروات الطبيعية و كسر شوكة العراق حفاظا على أمن إسرائيل على المدى القريب و البعيد. و اضطر قسم كبير من العراقيين المرابطين داخل وطنهم الأصلي لضيق ذات اليد على التقوقع و الاحتماء بانتمائهم القبلي و العشائري و قُتل الكثيرون رجالا و نساء و أطفالا على يد الميليشيات السنّية و الشيعية المتعصبة. و اضطرّ الباقون من العلماء و المثقفين العراقيين عندئذ إلى الهجرة القسرية إلى كردستان حفاظا على أرواحهم حيث وجدوا ملجأً آمنا لهم حتى يوفروا لقمة العيش الكريم لأسرهم و أبنائهم القصّر. و كان الهاربون و المهجّرون قسرا أو اضطرارا يشكلون النخبة المتعلمة و المتكونة و المثقفة و المنتجة منهم. كانوا علماءً و تقنيين سامين و صناعيين صغارا و كبارا و تجارا و حرفيين أو فنانين و مزارعين محترفين و مبدعين في كل المجالات الفكرية و الأدبية و الشعرية و الفلسفية و ما أكثرهم في عراق الحضارات المتعاقبة عبر تاريخه المجيد.

يُقدر عدد المهاجرين و المهجّرين بخمسة ملايين، و هو رقم ضخم جدا بالقياس إلى العدد الجملي للسكان و هو ما يقارب الثلاثين مليون نسمة سنة 2012. و هرب قسم آخر إلى سوريا (مليون و 200 ألف) و الأردن (700 ألف) ومصر (80 ألف) و إيران (50 ألف) و لبنان (20 ألف) و بلدان الخليج (200 ألف) حيث شكلوا في البلدان المضيّفة جاليات مهمة. أما البلدان الغربية المتسببة الأولى و الوحيدة في نكبة العراق و تشريد أهله فقد كانت شحيحة جدا في استقبال اللاجئين العراقيين: وصل الخوف لدى بعض العراقيين إلى الهجرة - هربا من الحرب الأهلية - إلى أمريكا (700 فقط في انتظار استقبال محتمل لـ7 آلاف مسجلين بالمفوضية الأممية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR) و الدنمرك (200 و أكثرهم مترجمين مع عائلاتهم) و السويد (9 آلاف) و فرنسا (115 فرد). هذه هي ثمار الدمقرطة الأمريكية الغربية الملعونة سيئة الذكر التي فُرِضت على العراق سنة 2003 بعد أن غزى أرضه نصف مليون جندي متعددي الجنسيات على  ظهور الدبابات الأمريكية و البريطانية و العربية المستوردة. و هذه هي ثمار التعصب الديني أو المذهبي السنّي و الشيعي الذي نتج عنه، و هذه بعض "إنجازاته": لوحة كارثية درامية لم يحدث مثلها في التاريخ القديم و لا الحديث، شهداء و أيتام و معوقين و مشردين و مفقرين و عاطلين بالملايين. و قد ندم العرب و العراقيون بعدئذ على ما فعلوه بأنفسهم بتعاونهم و تحالفهم مع العدو الأمريكي، و لكن بعد فوات الأوان و بعد خراب مالطة أعني خراب العراق أما مالطة فلا بأس عليها لأنها من حسن حظها و الحمد لله ليست عربية و لا إسلامية.

يحضرني هنا غصبا عني المشهد السياسي التونسي البائس الراهن و أرثيه أو قل أنصح أولي الأمر منا  بكلمات في الصميم قبل تخليهم القسري المحتمل عن السلطة عن قريب - إن شاء الله و الشعب - إن واصلوا على هذا النهج الخاطئ و لم يتداركوا أمرهم و يغيّروا إستراتيجيتهم السياسية و يختاروا حلفاءهم حسب مصلحة شعبهم و ليس حسب مصلحة حلفائهم الوقتيين أمريكا و قطر و السعودية و أذكّرهم أن في السياسة لا وجود لصديق دائم و لا لعدو دائم و إنما المصلحة العليا لتونس و شعبها الأبي هي الدائمة و الضمانة الوحيدة لبقائهم في السلطة: من غرائب الأمور أن يُلدغ المؤمن من نفس الجحر عديد المرات و لا يتعظ، و نرى اليوم بعد ما وقع الذي وقع في العراق و أفغانستان و بعد الثورة التونسية المبشرة بالخير، نرى و نتعجب و نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نرى أن حزب النهضة الحاكم في تونس لم يستوعب التجربة و لم يتعلم و لم يستفد من الدرس العراقي الدرامي و لم يتعظ من هذه المصيبة، نراه يقيم تحالفا يبدو إستراتيجيا مع أمريكا و مع قطر حيث توجد أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، قاعدة انطلقت منها الطائرات الحربية الأمريكية و البريطانية لدك العراق و قتل أبنائه الأبرياء المدنيين بالملايين و تحطيم بنيته التحتية و تخريب متاحفه الغنية و طمس تراثه و آثاره الحضارية.
أنهي كلامي هذا بالدعاء التالي: أفيقوا بني وطني يا منتمين و متعاطفين مع حكومة النهضة، أفيقوا لقد أعطتكم أمريكا هدية مسمومة عندما أعانتكم على تسلّم السلطة بعد انتخابات شعبية ديمقراطية نزيهة و شفافة بالمقاييس الغربية! أفيقوا بربكم و ارجعوا إلى شعبكم و معارضتكم الوطنية الديمقراطية فهؤلاء الأخيرين يمثلان الحليفين الوحيدين الضامنين لبقائكم في السلطة و لن تنفعكم مساندة أمريكا فهي معروفة بالغدر و لكم أسوة - لو تتفكرون - في غدرها بأكبر حلفائها في الشرق الأوسط، غدرت بحسني مبارك و لن تنفعكم  أموال قطر و السعودية، أكبر دولتين رجعيتين متخلفتين غير ديمقراطيتين في العالم و فاقد الديمقراطية لا يعطيها لغيره.

لا تزال أمامنا فرصة أخيرة لأنه عندما تشتعل العصبيات القبلية و المذهبية بين قيادات الإخوانجية الحاكمة المتحالفين مع أمريكا و قطر و السعودية و قيادات السلفية الجهادية المتحالفة مع الوهابية السعودية و قيادات الصوفية الطرقية المتحالفة مع مثيلاتها العالمية المنظمة و الموازية، سوف تشتعل و تتأجج الحرب الأهلية بفعل فاعل خارجي ليس له هدف إلا تدمير البلاد الآمنة و المتجانسة و الغنية  بأهلها رغم اختلافهم الفكري و يجب أن لا ننسى و نغفل أو نتغافل عن الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في كبد السماء و التي تؤكد أن أمريكا محترفة في هذه المجال و قد أتقنت عملها الدنئ في فلسطين و العراق و أفغانستان و السودان و ليبيا و الصومال و قسّمتهم و جزّأتهم و الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه.
حرب أهلية تونسية محتملة و منتظرة، لا يستطيع أحد أن يطفئها إن اشتعلت! دواعي قبلية مذهبية دينية اجتماعية دفينة، تنتظر و تترصد الفرصة السانحة للتعبير عن نفسها و عن مكبوت حقدها. حرب أهلية لن تركد و لن تهدأ قبل أن  تأتي على الأخضر و اليابس رغم قلة الأخضر و كثرة اليابس، اليابس المتجسّم في الفقر و الجهل و التخلف و التعصب الديني و الأيديولوجي السائد في بلدنا و الذي يمثل الفتيل المولّد لهذه الحرب القادمة التي أتمنى لها من كل جوارحي الموت في المهد.

يبدو لي أن بعض الأجنحة المتطرّفة في الإسلام السياسي، قيادة و قاعدة - و أتمنى أن أكون مخطئا على طول الخط - تؤيد هذا التوجه المشئوم نحو الحرب الأهلية. و هذا يكذّب الرأي الشائع و القائل بأن الشعب ليس متعصبا و إنما الحق على السياسة و الحكام، ...الخ. هذه كلها خزعبلات. الشعب أيضا قد يكون متعصبا في فترة من الفترات و متسامحا طيبا في فترة أخرى. كل شيء يعتمد على نوعية الظروف و نوعية القيادات الداخلية و نوعية التحالفات الخارجية و مدى ارتفاع مستوى الشعب أو عدم ارتفاعه من النواحي التنويرية و الفكرية و الاجتماعية و الاقتصادية. التعصب مرض قد ينتشر كانتشار النار في الهشيم إذا ما كانت الظروف مهيئة لذلك و في أيدينا نحن، الشعب بمجتمعيه السياسي و المدني، أن نجعل الظروف غير مواتية و غير مشجِّعة. نستطيع بقدرة الله أن نوقف التعصّب إذا ما قضينا مبكرا على الظروف التي تغذّيه و تنعشه، هذا كل ما في الأمر، لا أكثر و لا أقل. و ليست شتيمة و لا سبة للشعب أن نقول أنه يعاني من مرض التعصب المذهبي و الديني و العشائري و القبلي و القومي في هذه الفترة أو تلك من تاريخه المتحول صعودا و هبوطا.

يجب أن لا نخجل من تاريخنا أو نزوّره أو ننكر ما وقع فيه من حروب أهلية جراء هذا التعصب و الأمثلة على صحة هذا الكلام حية و متعددة في الحروب الأهلية الأخيرة التي وقعت في لبنان و الجزائر و العراق و السودان و الصومال. علينا قول الحقيقة كما جرت دون تزييف أو مبالغة حتى نتعظ و نعتبر منها حفاظا على أبنائنا و فلذات أكبادنا من الأجيال القادمة إن لم نستطع المحافظة و فرطنا في الأجيال الحالية. و يمكن القول بأن مجزرة الحرب الأهلية الجزائرية الأخيرة هي من أفظع المجازر التي ارتكبها الإسلام السياسي المعاصر بمعية خصمه و شريكه في الجريمة ضد الإنسانية، النظام العسكري الدكتاتوري الجزائري، و قد ذهب ضحيتها ما يقارب أو يفوق 200 ألف مواطن جزائري من الخصمين و من الشعب الكريم المدني البرئ براءة الذئب من دم يوسف. حرب أهلية، صفّق لها النظام المدني شبه العَلماني الجزائري القائم حتى الآن بمباركة و تواطؤ غربي و عربي و اعتبر بغباء شديد أن المدنية قد انتصرت على الإرهاب و الهمجية! و لم تقتصر الحرب المذهبية على الجزائر و إنما اجتاحت أيضا الصومال و السودان و الباكستان و أفغانستان و العراق و فلسطين و اليمن و هي في طريقها إلى جميع البلدان العربية إن لم تفق أنظمتها "الثورية" الجديدة من غفلتها و تصحّح مسارها و تثق في شعبها و تتحالف مع أصدقائها و تتجنب أعداءها الأمريكيين التاريخيين.

البصمة الفكرية م. ع. ـد. م. ك:
بكل شفافية، أعتبر نفسي ذاتا حرة مستقلّة مفكرة  و بالأساس مُنتقِدة، أمارس قناعاتي الفكرية بصورة مركبة، مرنة، منفتحة، متسامحة، عابرة لحواجز الحضارات و الدين و العرق و الجنس و الجنسية و الوطنية و القومية و  الحدود الجغرافية أو الأحزاب و الأيديولوجيات.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي.

Mes deux principales devises dans la vie, du moins pour le moment 
-         Mohamed Kochkar : faire avec les conceptions non scientifiques (ou représentations) pour aller contre ces mêmes conceptions et en même temps auto-socio-construire à leurs places des conceptions scientifiques
-         J. P. Sartre : Les idéologies sont liberté quand elles se font, oppression quand elles sont faites

مواطن العالَم (أعتذر لكل المواطنين في العالَم غير الغربي على فعله و يفعله بهم حتى الآن، إخوانهم في الإنسانية، المواطنون في العالَم الغربي)، مسلم (أعتذر لكل المواطنين غير المسلمين على ما فعله بهم أجدادي المسلمون)، عربي (أعتذر لكل المواطنين غير العرب على ما فعله بهم أجدادي العرب) تونسي (أعتذر لكل المواطنين التونسيين على ما فعله بهم نظام بورقيبة و نظام بن علي طيلة سنوات الجمر الخمسة و خمسين)، "أبيض- أسود" البشرة (أعتذر لكل المواطنين السود في  العالَم  علىِ ما فعله أجدادي البيض بأجدادي السود)، يساري غير ماركسي (أعتذر لكل المواطنين غير اليساريين و لليساريين غير الماركسيين في  العالَم  علىِ ما فعله بهم رفاقهم الماركسيون اللينينيون الستالينيون الماويون)، و غير منتم لأي حزب أو أي أيديولوجيا ( أعتذر لكل المواطنين غير المنتمين حزبيا أو أيديولوجيا في العالَم عن كل خطأ ارتكبته في حقهم الحكومة و المعارضة و المتعاطفين معهما).


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire