أفكار وممارسات "تقدمية"
ظهرت في نصف القرن الأول الهجري. للأسف
جُمِّدت ولم نستفد منها بعد انتهاء الخلافة الراشدة. تبجحنا بها طيلة خمسة عشر قرنًا
ولم نطبقها يوما ولم نطوّرها بل قبرناها في المهد. تلقفها الغرب وأعاد اكتشافها في
بداية نهضته في القرن الثاني عشر ميلادي ثم صقلها وهذبها وأنسنها وصاغها أفكارا
نيرة ونظريات اجتماعية وحقوق إنسان وساعده في مسعاه توفر ونضج الأسباب المادية من
علم وتكنولوجيا. وعلى سبيل الذكر لا الحصر سأذكر البعض منها مع الإشارة الهامة
أنني سأتناول الموضوع من الجانب الفلسفي وليس من الجانب الفقهي أو التاريخي
الدقيق:
1.
العلاقة العمودية دون وساطة بين الخالق
والمخلوق. اكتشفها الغرب في القرن الخامس عشر ميلادي مع ظهور البروتستانتية التي
أنكرت صكوك الغفران الممنوحة من البابا. أما نحن المسلمون، فلم نعمل بها وفي عصور
الانحطاط وسّطنا الأولياء الصالحين بيننا وبين خالقنا وفي العصر الحديث أصبحنا نوسّط
تجار الدين من أمثال دعاة البترودولار المصريين والخليجيين.
2.
آدمية الأنبياء والرسل بما فيهم محمد صلى
الله عليه وسلم. قال تعالى: "وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ
فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا" و"هل كنت إلا بشرا رسولا" و" قُلْ
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا
وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" و"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ". في بداية القرن
العشرين ميلادي، رُفِت أستاذ جامعي مسيحي من جامعة السربون الفرنسية بطلب من
البابا، لمجرد أنه أنكر ألوهية عيسى، عليه السلام. أما نحن المسلمون، فقد
أضفينا على الرسول قداسة وعصمة لم يكن يدّعيها لنفسه إلا في تبليغ الوحي الإلهي
وأحطنا صحابته والتابعين وتابعي التابعين بهالة من القدسية وحنّطنا نصوصهم
وجعلناها سرمدية عابرة للزمان والمكان. قدسية منعتنا من الاجتهاد والتفكر في
ديننا.
3.
حرية المعتقد
واحترام الأديان الأخرى. قال تعالى: "لا إكراه في الدين قد
تبيّن الرشد من الغيّ" و"لا نفرّق بين أحد من رسله".
4. "إلا
فاطمة يا علي": صيحة حنان أبوي صادق أطلقها رسولنا الكريم -صلوات الله عليه- عندما
فكر صهره علي بن أبي طالب في الزواج من ثانية وفاطمة الزهراء ابنة الرسول ما زالت
على ذمته. اقتداء بالرسول، وكآباء نحب بناتنا كما يحب الرسول ابنته، لذلك نطلق نفس
الصيحة ونقول: "إلا ابنتي يا صهري فلان"، فكل ابنة عند أبيها فاطمة.
5.
اجتهاد عمر
-رضي الله عنه- في تأويل أحكام القرآن وتحريمه إقامة الحد على السارق في عام الرمادة (حلت فيه مجاعة) ومَنْعِه
عطاءات المؤلفة قلوبهم. في العصر الحديث، أوقفنا الاجتهاد فأصبحنا رجعيين متخلفين.
6.
تقديم حفظ
النفس على حفظ الدين وتقديم الحرية على تطبيق الشريعة. بعد الثورات العربية، غزتنا
إيديولوجية الإسلام السياسي المتطرف فعطلت فينا العلم والعمل وعِوض أن نلتفت لحل
مشاكلنا المادية والاجتماعية، أرجأناها وقدمنا عليها الحساب والجزاء والعقاب
والتكفير. يُرجأ الحساب والجزاء والعقاب والتكفير ليوم القيامة وهو اختصاص من صفات
الله وحده. غريب أمرنا نحن المسلمون، نقدّم ما يجب إرجاؤه ونرجئ ما يجب تقديمه.
7.
هداية البشر
هي أيضا من صفات الله فقط (إنك لا تهدي من أحببت ولكن
الله يهدي من يشاء). دخلنا في اختصاص رباني و تجاوزناه فأصبحنا في السعودية نحث
الناس على الصلاة بالسوط وندعو في سوريا المسلمين للإسلام بالديناميت
والكلاشينكوف.
8. إلغاء القبليّة والعنصرية اللونية والجندرية.
بلال، العبد الحبشي أصبح من صحابة الرسول المقرّبين وأول مؤذّن في الإسلام. وزوّج
الرسول -صلى الله عليه وسلم- ابنة عمه القرشية الأرستقراطية من عبد محرر وهو زيد
ابنه الذي ليس من صلبه. بعد الخلافة الراشدة، رجعت التقاليد الاجتماعية القبلية
بقوة وأرسى الأمويون والعباسيون حكما قبليا أرستقراطيا متوارثا وجاء من بعدهم
السلاطين العثمانيون من عائلة واحدة أيضًا.
9. "إلعن
المعصية ولا تلعن العاصي": لأن المعصية ضارّة باتفاق جميع المسلمين أما
العاصي فهو بشر قد يهديه يوما ربه ويغفر له سيئاته كلها. كل إنسان غير مسلم هو مسلم
بالقوة أو مشروع مسلم فلا تيأسوا من رحمة ربكم ولا تضيّقوها بعد أن وسّع الله فيها
-سبحانه تعالى لحكمة لا يعلمها إلا هو الحي القيوم- لتشمل عباده الضالّين فجادلوهم بالتي هي أحسن إن كنتم
حقا من المسلمين. قال تعالى: "فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر إلا
من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر".
10.
التسامح الديني في العهد
العربي الإسلامي الذهبي الذي عاش تحت ظله مفكرون وأدباء وشعراء ومغنون مختلفون عن
السائد من أمثال المعري وأبو نواس والتوحيدي ومسكويه وأبو الفرج الأصفهاني والجاحظ
وعمر ابن أبي ربيعة وغيرهم كثيرون دون أن ننسى أو نتناسى من قضى نحبه من عظماء
المفكرين والكتاب جرّاء تحررهم وخروجهم عن خط السلطة السائد والظالم أمثال ابن
المقفع وبشار والحلاج مع التذكير المهم أن القمع الذي وقع في تاريخ الحضارة
الإسلامية لا يساوي واحدا على ألف مما عاناه وقاساه روّاد النهضة الأوروبية في
القرون الوسطى من مجازر اقترفتها في حقهم الكنيسة المسيحية ومحاكم تفتيشها
المرعبة، سيئة الذكر.
11.
احترام الوالدين وإكرامهما
وتبجيلهما، قيمٌ تجلت في أروع وأرق آية في القرآن حسب رأيي المتواضع.. قال تعالى:
" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر
أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل
من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربّياني صغيرا". انظر
كيف يعامل الغربيون كبارهم باحترام شديد ويوفرن لهم جراية تقاعد مرتفعة تَقيهم
الحاجة والسؤال مع الإشارة إلى أن أكبر لوبي في أمريكا الشمالية هو لوبي
المتقاعدين وليس لوبي الصهاينة كما هو متداول عند أكثر الناس وانظر كيف يعامل
أكثرية المسلمين مسنّيهم ولا يضمنون لهم العيش الكريم والرعاية الصحية وأكبر دليل
على صحة كلامي أن جل المتقاعدين التونسيين من عمالنا بالخارج يلجؤون إلى
المستشفيات الفرنسية لأقل وعكة صحية تلمّ بهم .
12.
عقلانية ابن
رشد. تلقفتها جامعة السربون بباريس وبنت على أفكار صاحبها نهضة علمية، نهضة
عقلانية أشعّت بشمسها على العالم أجمع بما فيه العالم الإسلامي الذي طرد أكبر
فيلسوف مسلم عربي عقلاني في العصور الوسطى وأحرق كتبه وتبنى عوضًا عنها أفكار
خصومه الفلاسفة المسلمين من أمثال الغزالي وابن تيمية ومنذ القرن الثاني عشر
ميلادي لم تقم لعلمنا وعقلانيتنا قائمة.
خاتمة:
اثنَي عشر مثالاً من الأفكار
العربية الإسلامية السابقة لعصرها، قد يكون الغرب أعاد اكتشافها وتوظيفها في نهضته
ثم أخذها وطبّقها أفضل تطبيق، أما نحن المسلمون فمن عمانا لم نرها أو لم نرد أن
نرها حتى بعد أن نضجت الأسباب المادية والاجتماعية لتطبيقها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire