vendredi 4 novembre 2022

انظر وتمعّن ما فعله بعض أهل السنّة بتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. عبد الله العروي

 

المصدر: كتاب عبد الله العروي "السنّة والإصلاح" الطبعة الأولى 2008، المركز الثقافي العربي, بيروت, 224 صفحة.

 غلاف  الكتاب:  على شكل جواب على تساؤلات امرأة أجنبية مسلِمة، يكتب العروي هذا الكتاب. وهي تساؤلات تتناول صورة الإسلام. وكيف يقدم نفسه، وكيف ينظر إلى الأديان الأخرى، خاصة وأن السيدة: مسلمة، بحكم الانتماء، وتعيش في محيط تتعدد فيه الأديان. عبر الرد يطرح العروي تصوره الشخصي، الفردي، متجاوزا ما يمكن أن نسميه ثوابت، إلى رحابة حرية التفكير والفهم، أمينا لمنهجه التاريخاني الذي يعني اكتشاف الواقع المجتمعي الذي لا يدرَك حقا إلا في منظور التاريخ، فما يحرك المجتمع ليس الحق بقدر ما هو المنفعة.

صفحة 6: مرّ عليّ وقت طويل قبل أن أفهم أن ما يحرك المجتمع ليس الحق بقدر ما هو المنفعة.

صفحة 7: لا أحد مجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه (c’est ma devise).

صفحة  43: سنّة تقابل "نوموس" اليونانية و منها الناموس. الناموس هو ما تخطه الكواكب في السماء، ثم يرقم في سجل. يحصل إذن تنزيل بالمعنى الحرفي.

 صفحة 75: الرواية بواسطة، شهادة فلان عن فلان مادة معروفة يشتغل عليها يوميا المؤرخون والقضاة. أما الصيغة المباشرة، الكلمة الملقاة بدون واسطة، فهذه إما تقبل على حالها بدون تطلع أو تساؤل، تتلى كما نزلت، وإما تستشكل إلى ما لا نهاية. تطفو الشبهات على سطح الظاهر، فتدقق و تقوّم وتختفي ثم تظهر من جديد وكذلك دواليك.

صفحة 77: صحيح أن الأمة الواحدة تفترق لأسباب...تعود إلى المصلحة والشهوة والأنانية أكثر مما تعود في الأساس إلى فهم و تأويل كلام الله، هذا ما يفتأ يردده المؤرخون وعلماء الاجتماع. لكن هل كان الانقسام يطفو وينمو بهذه السرعة، هل كان يتمركز بهذه الشدة، لولا غموض في اللفظ وشبهة في الكتاب ؟

صفحة 78:عكس ما يخشاه بعضنا ويتمناه غيرنا، لا ينتج عن المطالعة (مطالعة الكتابين الآخرين) أدنى ضرر بل العكس هو الحاصل. يخرج القرآن من المقارنة أقوى تأثيرا وأكبر قيمة.

الهامش 20 صفحة 85: أوضح دليل على ما نقول هو ما يتعلق بوضع المرأة في الإسلام. ينسى غير المسلم أن ما يستبشعه موجود في العهد القديم (الحجاب، تكوين 66: 24، تعدد الزوجات يعقوب وأزواجه الأربع، تكوين 26-23: 35) وكذلك في العهد الجديد، في عبارة بولس:

Femmes, soyez soumises à vos maris comme au Seigneur. Car le mari est le chef de la femme comme le Christ  est le chef de l’Eglise. (Ephésiens, V. 22-24).

صفحة 88: هل من الضروري أن ننتظر أن يفعل بنا الزمن هذه الأفاعيل، أن يرغمنا على التكيف ؟ هل من الضروري أن نفاجأ باكتشافات، علمية وتاريخية، مذهلة لنغير من أحوالنا ؟ نستطيع من الآن أن نسير في هذا الاتجاه. وذلك باعتماد التحليل العقلي والتاريخي فيما يتعلق بالنص الذي نقرأه اليوم. يكفي أن نستعيد موقف متكلمينا الأوائل، موقفهم الحقيقي، لا ما نسب إليهم بعد فترة الهزائم والتقهقر.

إذ كتب علينا نحن أيضا التيه والتحريف.

صفحة 89: لماذا هذا التهيّب، هذه الخشية، مما تسفر عنه الحفريات ؟ لأن ما يبدو لنا اليوم عجيبا، مذهلا، باهرا قد يتحول بين ليلة وضحاها إلى أمر تافه مبتذل. لا نزال نفكر بفكر أجدادنا ظنّا منّا أن أفقنا المعرفي محفوظ لا يتغير. صحيح أن الواجب هو أن نضع أنفسنا موضعهم حتى نتفهم أحكامهم، لكن ليس علينا أن نصادق على كل ما قالوه واستنتجوه.

صفحة 94: الإسلام ليس سوى "ّقراءة" يقوم بها شعب بعينه، قبل أن تدوّن تلك القراءة الخاصة المتميزة في نص مضبوط.

صفحة 95: الهامش 3 صفحة 95: تأويل خاطئ لمفهوم الإعجاز دفع فقهاءنا إلى الإصرار على أن الإسلام نشأ في صحراء.

صفحة 101: وإذ نذكّر بهذا الواقع، بأن للعرب تاريخا قبل الإسلام، نفهم بكيفية أفضل ما حدث في ظل الإسلام، سرعة الانتشار، الحذق السياسي عند الزعماء، الخبرة العسكرية عند القادة، نباهة المتكلمين القدامى، توأمة مكة وبيت المقدس، انتقال مركز القرار مبكرا من المدينة إلى دمشق، إلخ.

صفحة 103: ما يعدّه البعض وهُم المؤمنون المتذوقون غنى وغزارة في القرآن، يرى فيه البعض الآخر عقما وضحالة.

صفحة 127: هذا النص الذي تقرئينه (القرآن) وتحاولين فك ألغازه، لم ينزل دفعة واحدة، بل تكوّن على مدى عقدين من الزمن. كان متفرقا و لم يجمع ويؤلف مجددا إلا بعد مدة لا تقل طولا عن الأولى. وسيرة النبي المعتمدة اليوم لم تحرّر إلا بعد مرور قرن على تاريخ جمع القرآن (الهامش 1 صفحة 127: سيرة ابن اسحق سنة 150 هـ/ 767م.). والأحاديث المتعلقة بأقوال، وأعمال النبي لم تصنّف بكيفية تجعلها في متناول القضاة والوعّاظ والمُفتين إلا بعد مرور قرن آخر على تأليف السيرة.

صفحة 149: في نقطة معينة من التاريخ، علينا أن نحددها بدقة، يقوم رجال السنّة، أنصار التقليد ودعاة الإتباع، بعملية زبر وتجذيب وترتيب. كل ما علا وظهر، أو فاق وفاض، كل ما تجاوز وتعدّى، وكل ما لم يقف عند حد معلوم وجب التخلص منه . والحد المعلوم ما هو ؟  في جملة واحدة هو تأويل سادة مدينة الرسول لسيرته الدنيوية بعد الانتهاء من عملية الزبر هذه، يلتفت أهل السنة إلى الماضي ويفعلون به ما فعلوا بحاضر أيامهم. يتصرفون كما لو أن ما كان وتحقق لم يكن سوى أضغاث أحلام يجب محوه بالكامل من ذاكرة الجماعة على أساس قاعدة صارمة: كل مخالف معدوم ثم بعد الماضي يتطلّعون إلى المستقبل ويتخذون الترتيبات اللازمة لكي لا يخضرّ مجددا ما يبس ولا ينتعش ما خنق. من أعلى المنابر المحتكرة لهم، في المساجد والمدارس الممنوعة على خصومهم، يقررون ما يجب القيام به حتى يُضمن البقاء والاستمرار، جيلا بعد جيل، لنفوذ أمثالهم وغلبة تأويلهم الخاص لكلام الله وهكذا يمكرون بمكر التاريخ. باسم فترة زمنية وجيزة، فترة مسطّحة ومختزلة، مصحّحة ومنقحة، يُطلب من التاريخ أن يتوقف هو الآخر عند حده، يُؤمر أن لا يتجدد أبدا ولا يتميز، لا يتنوع ولا يتطور، بعبارة أوضح يُلزم بأن يتنكر لمضمونه ومغزاه. يفعل أهل السنة ما يفعلون ولسان حالهم يقول: ما الفائدة من تكرار ما قد تحقق بالفعل، إذ ما تحقق هو الحق الجامع المانع، الكافي الشافي ؟ وبالطبع تحت هذا الضغط الهائل يتعثر التاريخ. ما تبقى له من قوة يستهلكها في ممانعة التغير حتى يحافظ على الوضع المتعثر  عندها لا يمكن استئناف الحركة إلا بدافع خارجي، دافع دنيوي أعني (الهامش 10 صفحة 150: كثيرا ما تُحرر الهزائم العزائم. حدث ذلك في روسيا وتركيا والصين). قبل أن يحصل ذلك تغزو السنّة، أي ذهنية التقليد والإتباع، كل مظاهر الحياة، الفكرية والسلوكية، بل تفرض هيمنتها حتى على من قاوم نشأتها كالخوارج والشيعة وروّاد الحكمة. تؤسس كل جماعة سنّة خاصة بها، فتتوحد النتائج اجتماعيا وتاريخيا والغريب هو أن هذا التعميم التدريجي يُعدّ في حد ذاته دليلا قطعيا على صحة منهج السنّة. 

صفحة 159 : المادة المطروحة على أنظارنا، ليست مجموعة وقائع، وإنما هي نظرية وتأصيل لما أفرزه تاريخ مبسّط، محجّم، مختزل إلى القليل الأقل، تاريخ تراجُع وخذلان. المحصّلة نسميها تجاوزًا الإسلام التاريخي، إسلام الجماعة، الإسلام السنّي، نجعل منه مثالا ونقيس عليه كل ما سبقه وأعقبه، عند العرب وعند غيرهم، أي أننا نتصرف في ماضينا وماضي الغير حسب هوانا.

صفحة 160: المذهب الظاهري هو التنظير القوى والأمتن لموقف السنّة وهذا الموقف هو خاص لجماعة معينة، نخبة اجتماعية وسياسية. عندما فقدت هذه النخبة سيطرتها على السلطة حافظت على المذهب (نقول اليوم حافظت على الإيديولوجيا) الذي يتوافق مع وضعها الجديد أتم التوافق. هذا ما يعترف به ضمنيا علماء وشيوخ المذهب  …كم تهون الحياة ويسعد المرء إن هو تشبث بالمظهر فقط وابتعد عن كل جدل عقيم حول اللطائف والشبه، إذا ما اختار أن يتصرف في علاقاته بإخوانه من بني البشر على أساس أقوال وأفعال جامعة ثابتة دون أدنى تطلّع إلى حل ألغاز الغيب. 

صفحة 162: قبل أن تنتصر كانت السنّة تزعم أن الفرق كلها في النار سوى واحدة، بعد أن انتصرت، ورغبة منها في التسامح والاحتضان، عادت وقلبت الحكم بالقول إن كلها ناجية سوى واحدة. 

المسائل التي طرحتْها الفِرق بشأن مشكلات واقعية، سياسية واجتماعية، نلخصها فيما يلي اعتمادا على ما جاء في كتب الكلام -        الحق مقابل الباطل -         الإيمان مقابل الكفر -         الإمامة مقابل المُلك  -         السنّة مقابل البدعة -         التقديس مقابل التجسيم -         الجبر مقابل القدر -          العدل مقابل الجور. 

الروح مقابل المادة …اكتفت السنّة بالتحذير من اقتحام تلك المجاهل. كتبت على الباب: حدٌّ لا يُتجاوز لم يعد اليوم مبرر للتحذير. لم يعد هدفنا التبشير بالقناعة، تشجيع الأمية باعتبارها عنوان البراءة والإيمان الفطري. الظرف التاريخي يفرض علينا فرضا أن نغامر ونتقدم في الحقول الملغومة.  (إضافة المؤلّف محمد كشكار: عندما يصطفّ الأستاذ الجامعي في الشريعة والطبيب والمهندس وعالم النفس وعالم البيداغوجيا والطبيب النفساني والسياسي المحنّك، يصطفّون كلهم ببراءة الأطفال يصلّون بخشوع يوم الجمعة وراء إمام متواضع التكوين ويستمعون إليه بانتباه في درسه وخطبته وهو يُفتي وينظّر في مسائل تخصّ شؤون الدين والدنيا. أيُفتَى ومالك في المدينة ؟ أيتكلم ويشرح الإمام غير المختص والمصلي المختص موجود ؟ عشنا ورأينا العالِم يتعلم من الجاهل ! أيوجد أكثر من هذا تشجيعٌ على الأمية ؟).

صفحة 167:  السنّة ملازمة لمفهوم البراءة 

ليست المسألة هل الرسالة موجهة لشعب أمّي بقدر ما هي هل صحّتها مشروطة بتلك الصفة، وعندئذ تكون الأمية مطلوبة على الدوام والاستمرار …من يسلّم بهذه المقولة ويربط صحة الرسالة بالأمية الفطرية، ألا يستخلص ضمنيا، ولو لم يعلن ذلك، أنه يحسُن بالنخبة المثقفة أن تعمل على أن تبقى الأغلبية أمية ؟ والمقصود هنا ليس اللاثقافة، العجز عن الكتابة والقراءة، بل البراءة، السذاجة الفطرية، القناعة الخُلقية، التواضع الأصلي، الإقرار بالعجز والحاجة، العفة الغريزية، الاستغناء عن توسّع الفكر وتفنّن الذوق  القناعة محمودة في كل حال، في شؤون الجسم كما في شؤون العقل  تُؤسس السنّة بالرفض والإقصاء وتنتعش وتنمو بالانتقاء والتزكية. 

صفحة 169:  السنّة دائما حذرة، دائما متأهبة. تخشى باستمرار إما هجمة الخارج وإما مروق الداخل، فتتصرف كالسلحفاة، كلما استشعرت الخطر تقوقعت لتستمسك وتصمد. 

تخشى غير المعهود، حتى البسيط التافه، في الملبس أو المأكل أو الأثاث أو النطق، وقبل وفوق تخشى الجديد في الفكر والوجدان …قد يقال كل شيء عن السنّة سوى أنها تفتقر إلى المنطق والاتساق. إنها في الواقع غاية التناسق، كل جزء منها يأخذ برقاب الأجزاء الأخرى …يستحيل إذن، إذا ما وقفنا خارجها، أن نعتبرها مرادفة للدين أو العلم أو التاريخ. هذه مفاهيم تتخطاها من كل جانب. يتجدد التاريخ بالتراكم، العلم بتمحيص المبادئ، الدين يتهذيب الشعور وتعميق الوجدان لا شيء من هذا يؤثر في السنّة إذ تتقوقع وتتحصّن. 

صفحة 189: خاتمة: المجاهدة والذوق 

لقد حذرتِني، أيتها المسائِلة الكريمة. قلت وأكدتِ: "كلمني في أي شيء، حدثني بما تشاء، لكن لا تحاول أبدا إقناعي بأن العلم سراب، الديمقراطية مهزلة والمرأة أخت الشيطان. في هذه الموضوعات الثلاثة لا أقبل أي نقاش". 

 صفحة 191 : السنّة تكوّن مستمر. في كل من أطوارها تتأثر بحادث وتعمل آليا على طمسه. هذا ما نستخلصه من وقائع فترة المدينة (يثرب)، الفتنة الكبرى، الثورة العباسية، تفكك الخلافة، الهجمة الصليبية، الغزو العثماني، الاستعمار الأوروبي، الاستيطان الصهيوني إلخ. 

كلما اتسع مسرح الأحداث و تعدد المشاركون، كان أكبر وأعمق تأثر السنّة بالحدث، شكلا ومضمونا: 

 -          كان واردا أن تضمحل اللغة العربية وتخلفها لغة أخرى. لم تندثر العربية، غير أنها انفصلت عن الخطاب اليومي. 

 -          كان واردا أن ينقرض الشعب العربي مع اختلاطه بالعجم. لم يحدث ذلك، حافظ العرب على هويتهم، غير أنهم فقدوا كل مبادرة. 

 -          كان واردا أن تذوب نخبة قريش في جموع الموالي. لم يحصل ذلك. ظلت تشكل طبقة متميزة، لكن كشاهد على الماضي. 

هذه عوامل ثلاثة تحمل في آن طابع الضرورة وطابع الاتفاق وبذلك تفسر استمرارية السنّة وتعمّقها المتزايد. 

بما أن أشراف مكة لا يزالون يتمتعون بالجاه والنفوذ، لا لسبب غير عراقة النسب، فمن الطبيعي أن يتشبثوا بمفهوم الإرث والتقليد. 

 صفحة 192: السنّة التي "تتجدد" على رأس كل قرن، كما يُروى، أي تَحرر من الشوائب، هي بالطبع غير السنّة السابقة عليها. فهي بالمعنى الحرفي، سنّة مبتدعة، أو لنقل في استعمال اليوم "نيو- سنّة". أولا تستحق النعت بمجرد أنها تعمل في محيط مختلف ؟ ذلك الحدث الذي يغير المحيط (الهجرة، الفتنة، الثورة، الهزيمة، الغزو، الاحتلال، الاستيطان…) يزيد السنّة انتقاء وصفاء، اتساقا وعمقا. فهو بالضرورة فاصل بين قبل وبعد داخل المجرى السنّي نفسه. وهو ما تنفيه السنّة بالتأكيد، إذ لا تعترف أبدا بأي عامل داخلي أو خارجي في تشكل أي من أوجهها. 

بعبارة اليوم، ونستعملها عن قصد، الحدث يميز ما هو "نيو"، وما هو "بوست". 

والسنة، في أية لحظة من تكوّناتها، "نيو-سنّة"، وهو ما لا تقول به أبدا. 

والسنّة في أي لحظة من تاريخها، "بوست – سنّة"، وهو ما لا تعي به قط. 

 صفحة 193: وعند الجميع تستقر السنّة وتتقوى بمضمون جديد وأسلوب جديد. 

الهامش 3 صفحة 193: كل سُنة تتقوى بإخفاقاتها. لم تختف اليهودية بعد هدم المعبد وسقوط الدولة. لم تضمحل المسيحية الأرتودكسية بضياع القسطنطينية، لم تنحل الكثلكة بظهور البروستنتينية ولم تقض الحرب الصليبية على الإسلام. 

صفحة 130: من كانوا يتطلعون إلى أن تحكم باسم الله الجماعة... فإنهم الخوارج بمعنى العصاة المتنطعون الرافضون لكل قيادة وضبط وترويض.

من كانوا يفضّلون أن يحكم باسم الله، الأخيار الأشراف هم المؤلفة قلوبهم، من لم يعتنقوا الإسلام إلا في آخر لحظة والذين كانوا في الغالب أصحاب نفوذ وحنكة سياسية عريقة.

من كانوا لا يتصورون أن تورث سلطة النبي... إلا كما تورث الطبائع والعادات، أي داخل البيت وحسب العرف، فهم الشيعة.

... أن المؤهلين للفوز والغلبة هم أشراف مكة.

فهم الذين سيفرضون فهمهم للنص. بسلوكهم وبآرائهم سيضعون أسس السنة، أي كيفية تطبيق النص الأزلي على الواقع البشري المتحول.

... الشيعة لا يعارضون فكرة السنّة بقدر ما يتشبثون بسنّة مخالفة. أما الخوارج فإنهم لا يرضون بأية سنّة، بأي تقليد مستقرّ ومتراكم.

صفحة 132: كل ما نقوله عن التراث السنّي، سلبا أو إيجابا، ينسحب على مقابله الشيعي، إذ الأصول واحدة، والمنهج واحد، والمصطلح واحد.

لذا، وعكس المذهب الخارجي، لا يمكن للمذهب الشيعي أن يرشح نفسه بديلاً على المجتمعات السنّية.

الإسلام المعروف في التاريخ هو إسلام الجماعة.

والاسم يطابق المسمى. هو إسلام أنشأته جماعة معينة عبر عملية طويلة بدأت مبكرا، في المدينة نفسها.

صفحة 133: واضح إذن أن الإجماع، رأي عدد محصور من الأشخاص، هو الذي يحدد المعنى النظري والمقصد العملي للنص.

قد يرى البعض، لأسباب بديهية، أن هذا الموقف غير ملائم لكل الظروف وأنه يجب تعديله في حالات خاصة. الأمر وارد والرأي مقبول. لكن من ناحية المنطق ما يقوله أنصار السنّة، عبر الأجيال، في غاية القوة والتماسك.

صفحة 134: في هذا التلازم بين التاريخ والمجتمع والنص تكمن قوة السنّة الإسلامية، وربما كل سنّة متواترة.

... هذه النخبة المحنكة (أسياد مكة) كانت تنصح بإغفال المشكلتين (مسألة الإيمان عند الخوارج ومسألة الحكم الشرعي عند الشيعة) أصلا والنهوض بما هو أهم وأنفع: تشييد مملكة الإسلام.

صفحة 137: ما نلاحظه فترة بعد أخرى (في التاريخ الإسلامي): تقدّم وثراء على مستوى الفكر، وعلى مستوى الواقع ضحالة وتعثّر.

صفحة 142: طريق هذه الجماعة وحده سالك، من حاد عنه هلك.

صفحة 143: تراجع العقل لصالح النقل ولم يسترجع حيويته إلا مع بوادر حركة النهضة.

تراجع الباطن لصالح الظاهر، سيما بعد أن غزا التصوف الطبقات الشعبية الأمية. فأفرغت المفردات من مضمونها الفلسفي.

صفحة 146: تخصص كتب السنة فصولا طويلة للعلم... حصر العلم في ما هو شرعي.

... العلم من  هذا المنظور، كالإيمان لا يزيد ولا ينقص. فهو منذ الأزل كامل، ثابت، جاهز، موهوب (إضافة المؤلّف محمد كشكار: هذا التعريف يناقض تعريف العلم الحديث الذي هو بطبيعته ناقص أبدا وغير كامل، متحول دوما غير ثابت، مبتكر غير جاهز، مصنوع بمجهود العلماء غير موهوب من الله). لم يبق إذن إلا أن نعرف حكمه الشرعي، أي أن نميز المحمود منه عن المكروه والمباح، النافع دينا ودنيا عن الضار أو المجاني أو المسلّي (الملهي).

صفحة 147: الأمية صفة حميدة فيحسن الحفاظ عليها. العلم فرض كفاية ليس إلا (الهامش 7 صفحة 147: " إن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية. ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك." الشاطبي، المصدر نفسه، ج  IV ص 337).

بيد أن القائلين بهذه الرأي الصارم...ليسوا بلداء أو ضعاف العقول، بل بالعكس أصحاب فطنة وحذق... فيحق القول إن حالهم يكذب دعواهم.

صفحة 148: النتيجة واضحة وهي أن منهج السنّة، اعتماد الإتباع ونبذ الابتداع، يؤدي حتما، بوعي أو بغير وعي، إلى ثقافة سمع ولسان (الهامش 8 صفحة 148: انظر طه حسين، الأيام، حيث يروي المؤلف كيف تعلم المنطق والحساب رغم أنه لا يبصر)، في تعارض بارز مع ثقافة عين ويد التي قوامها الملاحظة والممارسة.

صفحة 157: لعبة الفقيه المستفتى هي رفضه الفصل بين الاختيارات المتاحة للبشر ورفع القضية إلى حكم الله... وبما أن الأمر كذلك، يتسلى الفقيه بإيراد كل الاحتمالات في انتظار أن يفوت الأوان ولم تعد فائدة في إبداء أي رأي بعد أن يكون الواقع قد ثبت وترسّخ ( الهامش 15 صفحة 157: هل المكس شرعي أم لا ؟ هل واجب المسلم أن يهاجر إذا تغلب العدو الكافر على وطنه ؟ لا يزال الفقهاء يتنازعون في مثل هذه القضايا حتى بعد أن تكون الأحداث قد تجاوزتها.).

مع مرّ الأيام ينمو الكلام في الله ويتفرع، بينما الكلام في شؤون البشر، في السياسة والمجتمع، يخبو ويذبل، مع أنه الأصل والأساس.

صفحة 182: إذا صح أن مذهب الخوارج استعار من روح القبيلة العربية المشبعة بحب الحرية والمساواة، فإن مذهب الإرجاء متأصل في تذمر الموالي – وما أكثرهم في عهود الإسلام الأولى ! – وامتعاضهم من وضعهم الاجتماعي المتدني.

صفحة 184: الهامش 9: "أعلم الناس بما لم يكن وأجهل الناس بما كان" هكذا كان يصف أبا حنيفة خُصومه من أصحاب الحديث.

صفحة 185: يعدد ابن حزم ... الجرائم و الشنائع التي حرضت عليها أو أجازتها كل الأديان السماوية بلا استثناء. قد يستغرب القارئ المعاصر أن يصدر هذا الكلام من رجل كابن حزم، لكن الرجل لا يناقض نفسه إذ العقل في نظره آلة منطق تفصل بين الصواب والخطأ لا دليل أخلاقي يميّز الخير عن الشر (الهامش 11 صفحة 186: " الركوع والسجود لولا أمره بذلك وتحسينه إياه، لكان لا معنى له"..."تشويه النفس، الختان، الإحرام، طاعة فقط" المرجع نفسه ص 146 إلى 159).

صفحة 199: تُمنِّي (السنّة) الناس بتحقيق كل ما يحلمون به. تُراكِم الوعود: سأريكم كيف بدأ الكون وكيف انبرى الزمن. سأطلعكم على أسرار الحياة والموت، ألغاز الحركة والسكون، الصحة والسقم. ومقابل هذا أطالبكم بأمر بسيط، إقامة شعائر تدل على الطاعة والانقياد، التواضع والزهد. من يستطيع رفض عرض سخي مثل هذا ؟

كثيرا ما نسمع أن من يعتمد العلم الموضوعي يحكم آجلا أو عاجلا، على السنّة بالتلاشي والانقراض. الواقع هو ما أُثبت في الفقرات السابقة، ما يقضي على السنّة بالتقادم هو الزمن الذي، كالجنّي، ينفلت من القمقم ويَسْرِي في الهواء كاشفا الندوب المخيفة، باعثا الصدى المواكب لخطاب السنّة.

تقول هذه: لا تتمثلوا أبدا بالخالق بل بالرسول، ثم تزيد، ساهية، في كل لحضة وفي كل حال. فتفتح الباب لجدال لا نهاية له. ثم بعد حين تدرك الخطأ فتستدرك: لا تغلو في السؤال، لا تلحوا في التوضيح، اتركوا مجالا للمتشابه، المتداخل، اللامميز. العقل، كالجسد، رفيق غير أمين، النفس وحدها تستحق الاهتمام، بها يتعلق المصير.

بماذا أجيب ؟

صفحة 203: بعبارة أدق، إذا صح، كما تقرر السنّة، أن عدالة الله ليست عدل البشر، فيجب، بالمقابل، أن لا نجعل من العدالة البشرية عدلا إلهيا. سهت السنّة عن هذا الاستنتاج، فساعدت على إحياء طغيان كسرى وقيصر، كذّبت بتصرفها ما تردده بلسانها: تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

صفحة 204: السنّة اختزال مستمر، اختزال الوحي في الشرع، ثم اختزال الشرع في عمل مجموعة محدودة من الأفراد. فتأتي القاعدة الصارمة: الطريق السوي هو تقليد هذه الجماعة، في الكبيرة والصغيرة، والمداومة على التقليد (العض عليه بالنواجذ) جيلا بعد جيل دون ميل أو حيد.

تصل السنّة إلى هذه الخلاصة مرغمة، تجنبا للمفارقات التي أقضّت مضاجع الخصوم. تفعل ذلك وتقبل مسبقا كل النتائج.

إلا أن هذا الموقف، إن كان مبررا داخل المجتمع الإسلامي، لا قدرة له على الصمود في وجه التحديات الخارجية، سيما بعد أن يكون العدو قد اقتحم الدار واستقر فيها.

الاستعمار غزو وتسلط. يفسد القرى ويذل أعزتها. فلا يلبث أن يفجر بمحض وجوده النظيمة الفكرية والعقائدية والخلقية التي عملت السنّة طوال قرون على تركيبها وتجليتها. تتجدد الوضعية التي وصفها ابن حزم، تتكافأ الأدلة عند الجميع، مع قلب الأدوار إذ يصبح المسلمون هم أهل الذمة (الهامش 17 صفحة 204: لم يعد الإسلام في موقع الحكَم بين الملل والنحل كما كان أيام ابن حزم. وهذا ما تصر السنّة على نفيه. قد تكون محقة لو اقتصر الأمر على العقيدة، إن هي عمقت التحليل وتعرضت بكفاءة لما يقول به الخصوم اليوم، لا ما كانوا يقولونه في الماضي لأنهم تغيروا وغيروا مقولاتهم عبر القرون).

لكن السنّة مخطئة يقينا في المجالات الأخرى، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، إلخ، وهو حصرا ما نتكلم فيه.

الاستعمار هو الحدث بامتياز، فيه تتجمع محركات التاريخ. لم يعد في وسع أحد تجاهل آثاره. يحل الاستعمار ما عقدته السنّة، ينثر ما نظمته، يضيء ما ألحت على طمسه. يقوم بعملين متناقضين: يعيد إلى النور ما ليس بسنّة، وفي الوقت نفسه يمنعه من أن يتطور إلى سنّة مضادة، إلى بديل.

هذا هو منحى الإصلاح الحديث، السر في ظهوره وفي إخفاقه.

يخفق مشروع الإصلاح (مشروع الأفغاني وعبده و الكواكبي وغيرهم) لأنه يتم في ظل الاستعمار. لا مستقبل لأية عقيدة بديلة وهي تعارض في آن السنّة وما – بعد السنّة.

والمأزق لا ينتهي بذهاب الاحتلال (الاستعمار المباشر)، لأن الوضع الذي ولّد الاستعمار الغربي يستمر بمميزاته الجوهرية، أهمها التوافق على جميع المستويات. الاستقلال السياسي لا يرفع عنا صفة الأقلية الثقافية، التي تتأثر ولا تأثر، تمانع ولا تبادر، تستدرك ولا تبدع، حتى وإن كانت لها أغلبية العدد.

في نظر الآخر، أي الأغلبية الثقافية، كل واحد منا، أيا كان مُقامه، يعرّف تلقائيا بالسنّة، أكان مواليا لها أو معترضا عليها (الهامش 18 صفحة 205: يتعامل المجتمع الغربي، في إطار قوانينه الوضعية، مع الإسلام كما لو كان دينا عشائريا فئويا ومع الشريعة كما لو كانت عادات قبلية، تماما كما كان فقهاؤنا يتعاملون مع الشرائع الأخرى، يسمحون بأن يستمر تطبيقها حفظا للأمن والاستقرار داخل دولة الخلافة. على فقهائنا اليوم أن يفهموا أن منطق الذمّة هو ما يطبق على الأقليات الإسلامية، ويستنتجوا من هذا الوضع النتائج اللازمة).

علينا إذن، لكي نتحرر فكريا، لنواجه مشاكلنا في العمق، أن نتخطى، على الأقل نظريا، منظور الغير، أي علينا أن نقفز فوق حدود الزمن والمكان.

صفحة 206: تؤكد السنّة على أن واجبها هو إظهار العقيدة بإقامة الشعائر. بقولها هذا تكرس حكم الحدث رغم أنها تظن العكس. تنكر التاريخ فلا ترى أنه يمكر بها.

لا ترى مثلا أن الشعائر ليست على مستوى واحد. بعضها، كالختان والحج والهدْى، يخلّد الانتساب لإبراهيم، إثباتا لصحة ودوام الوعد. بعضها كالجمعة والزكاة والصدقة والجهاد، يؤسس الجماعة ويحفظها. بعضها كالصيام والصلاة، يكسر الشهوة المهددة لالتحام المجتمع. وبعضها كالشهادة يطمئن الفؤاد.

المكوّن الأخير، الذي ينعت عادة بلب أو عين الدين، وحده عصيّ على مؤثرات الزمن و المكان. أما سواه فينتمي إلى الحدث. هو حادث متأثر بكل حادث لاحق، فيدخل بالضرورة تحت حكم العلم الموضوعي من أرخيولوجيا ولغويات واثنولوجيا، لإلخ.

والنص المؤسس نفسه يشير إلى هذا الأمر عندما يذكر الأمد أو الفترة، وهو ما يتوسع في بسطه وشرحه كل من الحديث والفقه وعلم الكلام.

الرق مذكور في القرآن. أحكامه مبينة، من ضمنها الدعوة إلى إنهائه بتحرير الرقاب. له إذن أمد، لأحكامه بداية ونهاية، نسخ بمعنى آخر.

صفحة 207: هناك سؤال شهير: لنطبقه على أنفسنا: ما هو حيّ وما هو ميت في وجداننا ؟

نَخَرَ الاستعمار السنّة ولا يزال. عرقل الاستعمار الإصلاح ولا يزال.

صفحة 208: تود السنّة لو تحبسنا في زاوية وتلزمنا الاختيار، إما شريعة سماوية قارة وإما قوانين بشرية متغيرة. بموقفها هذا، وعكس ما تظن، تؤبد الحاضر المظلم. هل يوجد على وجه الأرض وطول التاريخ سوى أوامر من بشر؟  وهؤلا ء المتحكمون إما مغرورون يدّعون اتصالا دائما ومباشرا مع الخالق ، بدون أدنى برهان، وإما متواضعون يعترفون أنها (القوانين) من اجتهادهم (الهامش 21 صفحة 208: "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله" آية 50 س 6 الأنعام، "ولا أعلم الغيب ولا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا" آية 188 س 7 الأعراف، "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد" آية 6 س 41 فصّلت).

الحذر، مجرد الحذر، بصرف النظر عن خطورة الوضع، يدعونا إلى تفضيل المتواضع على المتكبر، من يطرح مقترحه للنقاش، يقبل أن يجرب، يعدل، وربما يلغي مؤقتا إلى حين تبرز فرصة جديدة لتجريبه مرة أخرى.

يتنصل النصارى من ضغط الكنيسة بتولي فن الإغريق وقانون الرومان. يتحرر كبار مفكري اليهود من نير الشريعة وقيودها باصطناع العلم التجريبي والفن. يقلل البوذيون من استغراب غيرهم بالتأكيد أن ما لديهم هو فلسفة حياة وأسلوب عيش ليس إلا.

السنّة، أية سنّة، تنعقد وتنحل بمغالبة العلم والفن والسياسة.

صفحة 209: إذ نقرر ما سبق نكون قد أدركنا السنّة وتجاوزناها. لحظة الطلاق نقرها من وجه وتقرنا من وجه.

تود السنّة أن تنقد كل شيء فيها، وأن تنفي كل شيء ليس منها، مع أنها تحمل في بنيتها آثارا لا تنكر ولا تمحي مما ترفض.

وتلك الآثار الباقية، شاهدة على ما قبل مكة والوحي، وشاهدة كذلك على ما بعد المدينة والغزوات، نسلمها بصدر رحب و بكامل الاطمئنان إلى البحث العلمي وبالتالي إلى منطق السياسة. ليقل في شأنها الباحثون، المسلمون وغير المسلمين، ما يشاؤون، لا ضرر علينا من أقوالهم.

ترى السنّة في اختيارنا هذا تراجعا واستسلاما، ونرى فيه نحن وعد إحياء وتجديد.

صفحة 212: نستبعد العلم والسياسة، فيم نتكلم إذن ؟ في معينهما المشترك. سميه بأي لفظ شئت، سيدتي، أما أنا فإني أرضى بكلمة عادية، متداولة، مفهومة للجميع منذ العهد الهلستيني، أعني لفظة فن بالمعنى الأوسع، الذي يشير إلى النفس وضرورة تهذيبها المستمر.

كلامنا عن النفس ونزواتها، ما نضبط منها ولو لفترة وما لا نقوى عليه رغم محاولاتنا المتكررة.

خلاصة: السنّة لا تتغير: جهالة أو إيمان.

خلاصتنا، وعيا بالحال وكشفا عنه، حال بعد-سنّة، هي : مجاهدة أو تذوّق.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire