vendredi 11 novembre 2022

هل الجينات هي التي تحدّد مسبّقا ووحدها الصفات الجسمية للكائنات الحية ؟ ترجمة مواطن العالم

 

 

المصدر: كتاب "نهاية الكل وراثي" لهنري أتلان، مطبعة إينرا، باريس 1998، في 91 صفحة.

تعريف هنري أتلان: مبرّز في الطب، عالم في البيولوجيا وفي البيوفيزياء. معروف بأبحاثه في البيولوجيا النظرية ومعروف أيضًا بالتفكير الذي يطوّره في الإبستومولوجيا (أو نظرية المعرفة أو فلسفة العلوم) وكان عضوًا في الهيئة الاستشارية للأخلاق في علوم الحياة والصحة.

 

نص هنري أتلان:

في مقال بعنوان "السبب و النتيجة في علم الأحياء" 1961، يميّز "أرنست ماير" بين مقاربتين مهمتين تصفان أنواع الأسئلة المطروحة في البيولوجيا:

1.     المقاربة الأولى  تتمثل في "البيولوجيا الوظيفية" التي تحاول أن تفهم آليات الوظائف البيولوجية كالتنفس والهضم والطرح داخل الخلية، أصغر وحدة تركيبية ووظيفية في كل جسم حي. في هذا الإطار، تطرح أسئلة من نوع "كيف ؟". والطريقة المعتمدة هي طريقة "فيزيائية-كيميائية" تسعى جاهدة لإعادة الظواهر الملاحظة إلى آلياتها الفيزيولوجية الدقيقة. يستشهد ماير بكلود برنار الذي يُصِرّ على إضافة مفهوم "خطة التنظيم" للاختزالية "الفيزيائية-كيميائية" لكي نفهم "علم الوظائف الحيوية". من الواضح أن فكرة كلود برنار تفوح منها رائحة "مذهب الإحيائية" لكن ماير بيّن كيف أن "البيولوجيا الجزيئية"، بفضل اكتشاف "الشفرة الجينية"، قد أعادت صياغة هذه الفكرة وخلّصتها من سياقها الإحيائي. تنطوي فكرة "خطة التنظيم" على "غائية"،  على حافة شكل من أشكال "قصدية" الحياة أو "قصدية" الحي (للحياة وللحي هدف بيولوجي محدّد سلفا) وهذا مما لا يقبله فكر علمي مادي. غير أن الملاحظة المباشرة، خاصة ملاحظة "تطوّر الجنين" في رحم أمه، من نطفة إلى جنين كامل الأعضاء والوظائف، توحي بقوة وجود مثل هذه الغائية سلفا في جينات هذا الأخير. يؤكد ماير أن هذا المشكل قد حُلَّ بفضل الاكتشافات المؤسسة للبيولوجيا الجزيئية والتي تتجسم في اكتشاف تركيب الحمض النووي وخاصة اكتشاف الشفرة الجينية. مكّنتنا هذه الاكتشافات من التعامل مع آليات تركيب وصنع البروتينات على أنها آليات "نقل معلومات"  ووصف لجزيئات ضخمة، الحمض النووي والبروتينات، بأنها جزيئات حاملة لمعلومات وراثية. لقد سمح لنا في الواقع اكتشاف الشفرة الجينية، مفتاح التطابق بين تركيب الحمض النووي وتركيب البروتينات، من التعرض بكفاءة لفكرة المعلومات الوراثية في البيولوجيا. انطلاقا مما سبق وبسرعة رهيبة ينتقل ماير من الشفرة الجينية إلى فكرة "البرنامج الوراثي". بالنسبة له وبوضوح، لقد كُتِبَ البرنامج الوراثي سلفا في جينات الحمض النووي وهذا البرنامج يوفّر لنا  تفسيرا آليا ماديا وليس إحيائيا للتطور الموجّه للكائنات الحية. يتراءى لنا أن ليس لهذا التطور غاية.. لا.. له غاية، لكن بصفة آلية. حول هذا الموضوع، اخترع ماير عبارات، سوف تعرف شهرة كبيرة، خاصة عبارة " القصدية الآلية". تتوفر في هذا النموذج كل مظاهر القصدية لكنها تبقى فقط مظاهر لأن تنفيذ البرنامج الوراثي في الخلية يقع آليا ويشتغل مثل برنامج الحاسوب، يعني دون قصد أو بقصد آلي بواسطة آلة الخلية لتركيب وصنع البروتينات. قِسْ على ذلك تطوّر أو عمل الكائنات الحية الذي نستطيع فهمه وتفسيره بالتنفيذ الآلي البسيط للبرنامج الوراثي دون اللجوء لِقصدٍ أو نية مسبقة روحانية أو فكرية. يحاول ماير تجاوز الغائية الروحانية التي تحدد هدفا مسبقا للحياة بفكرة أن الهدف موجود ماديا وآليا في الحمض النووي لكن غير مقصود روحانيا أو ما ورائيا.

 

2.     المقاربة الثانية تتمثل ، حسب ماير، في "البيولوجيا التطوّرية"، التي لا تبحث في كيفية عمل أجسام الكائنات الحية بل تسأل لماذا هم هكذا ويشتغلون كما هم يشتغلون ؟ لا يجب أن نحمّل هذا السؤال صيغة غائية مِثل من أجل ماذا هم هكذا ؟ بل نترجمه إلى السؤالين التاليين: كيف حصل هذا ؟ كيف تمت الأشياء بهذه الصفة ؟    يتعلق الأمر إذن بالجانب التاريخي للبيولوجيا ويستحضر ماير أكيدا النظرية الداروينية الجديدة الكلاسيكية القائلة بـ"التحول النوعي" و"الانتقاء الطبيعي". التطور البيولجي هو الذي ينتج كائنات حية غائية في ظاهرها لكن هي ليست كذلك حقا لأنها تشتغل بواسطة برنامج وراثي مسبق.


هذا ملخص لأسس "براديـﭬم" قائم الذات هو براديـﭬم "الكل وراثي" وهو يدرَّس على نطاق واسع وقد حظي بتطوّر كبير وما زال إلى اليوم يتعزّز بصفة مذهلة. مع ذلك نلاحظ منذ أمد قصير نوعا من الإضعاف التدريجي لهذا البراديـﭬم. كيف نفسّر هذا التناقض ؟

بغض النظر عن ضعفه المفاهيمي، الذي سوف نرجع إليه في مقال آخر، لقد أثبت استغلال هذا الإطار من التفكير خصوبة علمية عالية وسمح بتطوّر خارق للعادة للنتائج التجريبية الحيوية. بلغ هذا الاستغلال قمته مع مشروع اكتشاف جينات الحمض النووي البشري (في سنة 2000، انخفض تقديرها الجملي في الـ46 صبغية الموجودة داخل كل خلية بشرية من 100 ألف جينة إلى 25 ألف فقط). استغل هذا الاكتشاف بعض المؤمنين بالحتمية البيولوجية أو الوراثيين وقالوا لنا: ما دام كل شيء مكتوب في البرنامج الوراثي فيكفي أن نحل شفرته ورموزه حتى نفهم كل طبيعة الكائن الحي مهما كان بكتيريا أو إنسان أو أي كائن حي آخر. من هنا أتت الفكرة الداعية لقراءة تسلسل المعلومات المبرمجة في الجينات حتى نكتشف- مثل قائمة معلومات في برنامج حاسوب- منطق طبيعة تنظيم الجسم البشري.

الاستغلال المفرط لهذا البراديـﭬم هو الذي كشف ضعفه بنفسه وبدأت تتزعزع بجدية فكرة "الكل وراثي". هذه الفكرة تقول أن كل أو جل تطوّر وعمل الأجسام الحية مقرر مسبقا ومكتوب في جينات البرنامج الوراثي في الحمض النووي لكل كائن حي. بدأت هذه الفكرة تُعوض تدريجيا بنموذج أكثر تعقيدا (complexe). يرتكز هذا النموذج الجديد على جملة من الأفكار كالتفاعلات والتأثيرات المتبادلة بين الوراثي، الذي لا ننكر دوره المركزي، وبين ما "ما بعد الوراثي" الذي بدأنا نتلمّس أهميته. هل يبشر هذا الانزلاق الفكري بولادة براديـﭬم جديد ؟

في مارس 1997، نشر في مجلة "طبيعة  بيوتكنولوجيا" مقال ممضَى من قِبل أستاذ البيولوجيا الخلوية والجزيئية بجامعة بركلاي، ريشار سترومان. في هذا المقال الذي أثار قليلا من الضجة، كيفما يشير إلى ذلك العنوان " الثورة الكونيانية القادمة في البيولوجيا"، يحلل سترومان، وكما ورد أيضا في العنوان الفرعي للمقال "ما بعد الوراثي ونظرية التعقيد" (la complexité) ويقول: يتكون هذا البراديـﭬم المنبثق الجديد، من مفهومَي "ما بعد الوراثي" و "التعقيد" اللذان يضيف إليهما مكون ثالث أو مفهوم ثالث، "التنظيم الذاتي".

لقد انبثقت البيولوجيا الجزيئية من شلاّل رائع من الاكتشافات وأوجدت خلال بضع سنين حلولا لسلسلة من المشاكل الكبرى تخص الحمض النووي الحامل المادي للجينات وعملية تركيب البروتينات بجميع مراحلها الوسيطة. لكنها وقعت في خطأ نظري وابستومولوجي، خطأ يتمثل في اعتقادها تفسير كل الوظائف الخلوية اعتمادا على هذا الجزء الأساسي من المعلومات الجديدة وقد جرّنا هذا التوسع الفاحش إلى تمشّيات مغلوطة أفضت بدورها إلى  سيطرة براديـﭬم "الكل وراثي" (le tout-génétique). رغم أن البراديـﭬم الجديد الذي يسمَّى "ما بعد الوراثي" عرف كيف يصلح البراديـﭬم السابق "الكل وراثي" ويكمّله بإضافة تمثّلات أكثر تعقيدا تُدخِل في حسابها آليات ما بعد الوراثي في عمل وتطور الكائنات الحية لكن لقد سبق وأرسي براديـﭬم " الكل وراثي" عديد المعتقدات غير العلمية في المجتمعات العلمية، نستحضر من بينها على سبيل الذكر لا الحصر، المعتقد المركزي المتمثل في التفسير الخطي البسيط لمراحل صنع البروتينات من جينة إلى أنزيم إلى وظيفة أو صفة خلقية. نعلم منذ وقت طويل أن هذا التسلسل المبسّط المكتشف لدى "الكائنات غير مكتملة النواة" (les procaryotes) كالبكتيريا لا يصلح لتفسير نفس الظاهرة عند "الكائنات مكتملة النواة" كالإنسان (les eucaryotes): قد تشارك عدة جينات أو مورّثات في التعبير عن صفة واحدة من الصفات الخلقية أو قد يساهم جين واحد في التعبير عن عدة صفات وراثية كتحديد الفصيلة الدموية مثلا. ونعلم أيضا أن هذا التسلسل الخطّي ذو الاتجاه الواحد، مِن الحمض النووي داخل النواة إلى نسخته على شكل حمض نووي ريبي (ARN) داخل السيتوبلازم وصولا إلى ترجمة هذا الأخير إلى بروتينات مسؤولة عن الوظائف البيولوجية، تسلسل خطّي لم يعد قادرا وحده على تفسير تركيب وصنع البروتينات داخل الخلية الواحدة مهما كان اختصاصها عصبية أو عضلية أو دموية أو جلدية أو قلبية أو شحمية أو رئوية أو كبدية أو عظمية أو غيرها. نواجه هذا النموذج الناقص بنموذج أفضل يتكون من علاقات رجعية ذات اتجاهين وليس ذات اتجاه واحد: تتدخل الجينات في صنع البروتينات والبروتينات بدورها تؤثر على عمل الجينات، تنبثق الوظيفة البيولوجية ليس من بروتين واحد وإنما من التفاعل الذي يتم بين عدة بروتينات، كل هذه الشبكات من العلاقات المعقدة التي أحدِثت في السيتوبلازم بعد الحمض النووي ترجع و تؤثر أيضا في عمل الحمض النووي داخل النواة وفي عمل نسخته من الحمض النووي الريبي داخل السيتوبلازم. بصفة عامة، نلاحظ بروز براديـﭬم واعد يجدّد الاعتناء بـ"الجزيئات الناقلة للمعلومات" (مثل جينات الحمض النووي أو جينات الحمض النووي الريبي أو جينات العُضيّة الخلوية -organite- المتخصصة في التنفس الخلوي وإنتاج الطاقة أو جينات السيتوبلازم أو البروتينات) ولا يختزلها في جينات الحمض النووي فقط. مما ينقل مركز الاهتمام والثقل من براديقم "الكل وراثيّ" – حيث يختزل كل شيء في المصدر الأصلي أي الحمض النووي- إلى براديـﭬم "ما بعد الوراثي" حيث التحليل يصبح أكثر تعقيدا مما يجبرنا على إقامة حلقات من العلاقات الرجعية (تنطلق من "أ" نحو "ب" ثم ترجع نحو "أ") في كل مرحلة من مراحل صنع البروتينات بين الحمض النووي والبروتينات وبين البروتينات والوظائف البيولوجية.

 

تاريخ أول نشر في صفحتي الفيسبوكية: حمام الشط في 17 أوت 2010.

 

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire