الأسئلة التي كانت تُحيّرني:
-
لماذا يتحارب البشر فوق الأرض وفيها من الخيراتِ ما
يكفيهم وزيادة
؟
-
لماذا نصرف أموالاً طائلةً على الهدمِ ولو صرفناها
على البناء لأصبحت الدنيا جنة على وجه الأرض، ولانْقرضَ الفقرُ والجهلُ والجوعُ
وزالت جل الأمراضِ ؟
-
لماذا لا نرى للأخلاق الوضعية ولا للأخلاق الدينية
أيّ تأثيرٍ على سلوكات العالَمين الأنانية والعُدوانية ؟
-
لماذا لم يجلب لنا العِلمُ كل المنافع التي كنا
ننتظرها منه ؟
-
لماذا تَبنّيتُ مفهوم المواطنة العالمية ؟ (justification a posteriori)
-
لماذا اخترتُ مفهوم "ما فوق الوراثي" أو عِلم
"التخلّق"
(L`épigenèse)
كموضوع لأطروحة الدكتورا سنة
2007 ؟ (justification
a posteriori)
نص
صاحب الفكرة في كتابه، صفحة 165:
الانتقاء
الطبيعي الدارويني
(La sélection naturelle)
ميّز القِيم (Les traits)
التي تعزز اللحمة داخل المجموعة البشرية الواحدة (القبيلة التي ننتمي إليها) وفي
نفس الوقت تدعّم العداوة بين المجموعات البشرية البدائية (القبائل الأخرى التي لا
ننتمي إليها):
على
المستوى الجماعي، ميّز الانتقاء الطبيعي بعض القِيم، مثل التضامن والتعاون والتسامح
والشفقة والإيثار. قِيمٌ وصلت إلى حد التضحية بالنفس من أجل مصلحة المجموعة، قِيمٌ
إيجابيةٌ كوّنت أسُسَ العيش المشترك داخل كل مجموعة من المجتمعات
البشرية. لكن الانتقاء الطبيعي لهذه القِيم بقي بشكل عام مقتصرًا على الداخل.
وتتمثل
النتائج السلبية لهذه القيم الإيجابية في النزعة الدفاعية المفرطة، انعدام الثقة
في الآخر، التنافسية والعِدائية حيال أعضاء المجموعات الأخرى. قِيمٌ سلبية انبثقت
من الإيجابية وكوّنت بذور الصراعات والحروب التي تركت بصماتها على طول تاريخ
البشرية جمعاء حتى يومنا هذا.
هذا
التحليل يرجع بنا إلى عصورٍ كانت فيها مجموعات قليلة من البشر البدائيين تتخاصم
حول أهم المصادر الغذائية التي توفرها لهم الغابة والسافانا الإفريقية عشرة آلاف
سنة قبل عصرنا الحالي. في البداية كانت تُحدَّد المجموعة حسب علاقات القرابة
الدموية السائدة داخل العائلة أو القبيلة طِبقًا للصفات المبرمجة في الجينات. (إضافة
المؤلف محمد كشكار:
ADN:
C`est un logiciel performant et sophistiqué mais il est très ancien et conçu
pour l`homme primitif de la forêt.
فلا
تغترّ أيها الإنسان، فأنتَ والشانبانزي تتشابهان في 98،5% من الجِينات المشتركة
(Gènes communs)،
وأنت
وشجرة المَوز في 60%، ونبات
الأرز يفوقُك في الجينات عددًا: هو 30-40 ألف جِينة، وأنتَ 25-30 ألف فقط !) مرّ زمنٌ وأتى آخر، وتوسعت المجموعة الصغيرة فضمّت أراضٍ مشتركة، مصالح مشتركة، امتيازات
مشتركة، اعتقادات مشتركة، قِيم مشتركة (Des valeurs partagées)، أحكام مسبقة مشتركة، أحقاد
مشتركة، أي الاشتراك في كل ما يدعّم وحدة المجموعة، "مجموعتنا ضد
مجموعتهم".
إضافة
المؤلف محمد كشكار:
مقولة
"مجموعتنا ضد مجموعتهم" تُتَرجَم بلغة عصرنا، فتصبح: يهود ضد عرب، غرب ضد باقي العالَم أي المركزية
الأوروبية، دار الإسلام ضد دار الحرب، بورجوازية ضد بروليتاريا، شيوعية ضد
رأسمالية، يسار ضد يمين، داعش ضد بشار، إخوان ضد السيسي، مدينة ضد ريف، الرجل ضد
المرأة، الحاكم ضد المحكوم، الأغنياء ضد الفقراء، العالَم الأول ضد العالم الثالث
إلخ.).
ما
هي الإيديولوجيات العصرية التي تدعم اليوم الوحدة داخل المجموعة الواحدة وتؤجج
الصراعات وتشعل الحروب بينها وبين المجموعات الأخري ؟
هي
إيديولوجية القومية الشوفينية، غربية كانت أو عربية. هي الإيديولوجية الدينية
المتعصّبة، إسلامية (سوريا، العراق، ليبيا، مصر، أفغانستان) كانت أو يهودية
(إسرائيل) أو بوذية (بيرمانيا، التيبت، الكشمير). هي الإيديولوجية الامبريالية،
رأسمالية (أمريكا) كانت أو شيوعية (الصين).
نص
صاحب الفكرة في كتابه، صفحة 166:
الانتقاء
الطبيعي الدارويني عند البشر لم يُميّز
قيمتَي الحيطة والحكمة الضروريتَين لتوليد الرغبة في تقديم التضحية بالامتيازات
الحينية في سبيل التحضير لمستقبل أفضل للإنسانية جمعاء: البحث عن المصلحة الحينية،
سواء كانت فردية أو جماعية، يفسر استغلالنا اللامسئول للثروات الطبيعية، ويفسر
أيضًا تجاهلنا للعواقب الوخيمة التي قد تنجرّ عن فعلنا المشين هذا. عواقبٌ بدأت
اليوم تهدد جنسنا البشري وتهدد بالانقراض أنواعًا كثيرة من الكائنات الحية الأخرى،
حيوانات ونباتات.
لم
يعد يشغلنا كل ما يتجاوز مستقبلنا الحيني مثل ما بعد التقاعد أو أمل حياتنا أو
مصير أولادنا وأحفادنا.
ما
أردتُ تبليغَه كعالِم بيولوجيا يتمثل في التأكيد على أن القيم السلبية (النزعة
الدفاعية المفرطة، انعدام الثقة في الآخر، التنافسية والعدائية حيال أعضاء
المجموعات الأخرى) هي قيم فطرية جينية وراثية
مبرمجة لإنتاج إنسان لزمانٍ غير زماننا، زمان سبقنا بعشرة آلاف سنة عند
بداية تشكل المجموعات البشرية الصغيرة في إفريقيا أولا (من 3000 إلى 10000 نسمة).
قيم وسلوكات كانت صالحة وضرورية في ذلك العصر، عصر ندرة الموارد الغذائية أو صعوبة
التحصل عليها. صفات ساعدتنا على الصمود في طورٍ من أطوار تطورنا الطبيعي (L`évolution)
ولولاها لانقرضنا كالديناصورات ولَذهبت ريحنا ولم يبق إلا أحافيرنا (Fossiles humains).
هذه القيم أو الصفات أو السلوكات أصبحت اليوم عبئًا ثقيلاً نحمله منذ الولادة،
وباتت معطِّلة للقيم الإيجابية فينا (التضامن مع المجموعات الأخرى، التعاون معها
والتسامح والشفقة والإيثار).
انتهى الاستشهاد.
خلاصة
القول وليس خاتمته:
الإنسانُ
لا يولدُ إنسانًا متحضّرًا منذ البداية بل يصبح متحضِّرًا بجهده وعلمه وثقافته:
ليس قياسًا على الإنسان الغربي الحالي، فهو في الواقع أقل منا في العمق تحضرًا
وإلا لَما احتلنا وقتل منا الملايين ظلمًا وبهتانًا، ولَما قصفنا بالطائرات في بور
سعيد وبنزرت والساقية ودمشق وبغداد وطرابلس و.. و... ولَمَا باع لنا سلاحًا
فتّاكًا من صُنعه وترويجه وتآمره وانتهازيته.
يولد
الإنسان طبيعيًّا (L`homme de la nature)،
وهو حضاريًّا أقرب لإنسان القرن 3000
قبل-م، أكثر من قُربه إلى إنسان القرن 21م. تولد معه غرائزه المحدَّدة شبه كليًّا
من قِبل جيناته، غرائزٌ تشد إلى الأسفل، إلى الحيوانية، إلى الطبيعة، إلى
الأنانية. غرائز تحدّد القيمَ السلبية فينا (النزعة الدفاعية المفرطة، انعدام
الثقة في الآخر، التنافسية والعِدائية حيال أعضاء المجموعات الأخرى). نزعةٌ، يسمّونها
المتدينون "النفس الأمّارة بالسوء"، وعلماء النفس يسمّونها
"الهُوَ" في اللاوعي
(Le Ça ).
نفسٌ أمّارةٌ بالسوء، نفسٌ موروثةٌ (Le tout-génétique)،
تقابلها نفسٌ مكتسبةٌ بواسطة ما يقع عبر التفاعل بين الجينات
الموروثة ومحيط الجينات الخلوي والخارجي عن الجسم تمامًا،
L`épigenèse,
sujet de ma thèse de doctorat, UCBL1, 2007
نفسٌ أمّارةٌ بالخير وإذا
كنتَ علمانيًّا سمّها النفس المتحضرة المتسلحة بالقيم الإيجابية فينا (التضامن مع
المجموعات الأخرى، التعاون معها والتسامح والشفقة والإيثار).
نحن،
بشر اليوم، نعيش جهادًا ضد "النفس الأمّارة بالسوء" أو صراعًا مريرًا
بين الثقافة والطبيعة،
Interaction entre culture et
nature d`où émerge l`homme de l`homme au
dépens de l`homme de la nature
صراعًا
بين "الأنا" في الوعي (Le Moi) و"الهُوَ" في اللاوعي
(Le Ça )
أو جهادًا يحدّ من سيطرة شهواتنا وغرائزنا على سلوكاتنا اليومية: يهذبها، يعلمها،
يربيها، يَشْكُمُها، يطهِّرها من أدرانها ويقودها برفقٍ نحو الرقيّ والتمدن والتحضّر
والرقة واللياقة والأدب والذوق الفني الرفيع وصقل الحواس والحب والتواضع ونكران
الذات والتطوع من أجل خدمة الغير.
نصقلها
بالدين، بالفلسفة، بالفن، بالتصوف، بالعلم، بالزهد، بالتقوى، كلها أنواع راقية من
مواد التطهير: وسائل نبيلة لبلوغ غايات أنبل.
وإذا
لم نبذل هذا الجهد فرديًّا وجماعيًّا، ونحن التونسيون في الواقع وللأسف لم نبذله،
يساريون وإسلاميون وقوميون وليبراليون، لذلك لم تُغيّرنا الأخلاق الإسلامية ولا
اليسارية، فلا دين فينا نفع ولا عِلمَ ولا فلسفةَ !
أما
كيف ثبّت فيّ هذا الكتابُ اختياري للمواطنة العالمية (justification a posteriori)، فأظنه سؤالٌ لا يتطلب شرحًا على
الشرح الذي سبق. المواطنة العالمية، أراها تمرّدًا على الفطرة وعلى التقوقع وخروجٌ
إراديٌّ دون انبِتاتٍ، خروجٌ عن الانتماء القومي الضيق أو الديني المتعصب، خروجٌ
إلى آفاقٍ أرحبَ، آفاقٍ نكتسبها ولا نرثها. المواطنة العالمية هي حب كل البشر دون
تمييزٍ، هي سموٌّ على القبلية والوطنية الشوفينية، هي مستقبلُ العالَم خاصة في عصر
الاتصالات والمواصلات، عصر اختفت فيه الحدود ومعها التأشيرات والجدران العازلة،
عصر أصبح فيه للإنسان جناحان افتراضيان وأصبحنا كالعصافير لا نمر من البوابات الحدودية، حلمٌ تحقق، حلمٌ غير مبرمجٍ في جيناتنا.
أحلامي
كل دقيقة تكبر ويومي أصبح أفضلَ من أمسِي. يبدو أن واقعي أصبح أسرع من أحلامي: أكتبُ مقالاً يتفاعل معه في الحين صديقٌ
حقيقيٌّ أو افتراضيٌّ في موسكو أو واشنطن، حلمٌ للإنسانية تحقق. للأسف جيناتي لا
تطاوعني، خَطْوَتُها بمليون سنة، ما أبطأها، لم أعُدْ أطِيقُ انتظارَها.. المتخلفة
!
آه
يا جيناتي لو تلحقي بأحلامي، وتزرعي في جنبَيَّ جناحَين، أزورُ ابنتي حبيبتي في
كندا، لم أرها منذ ثمان سنوات، أعِدُكِ، أضمّها وأقفل راجعًا، حفيدتي دخلت المدرسة
ولم أقبّلها لا عند الذهابِ إلى المدرسة ولا عند الإيابِ !
المصدر:
Livre : Génétique
du péché originel. Le poids du passé sur l`avenir de la vie. Christian de Duve (Prix
Nobel de médecine, Un biologiste et moraliste), Editions Poches Odile Jacob,
Paris, 2017, 240 pages.