jeudi 18 août 2022

ماذا جنيت من ثلاثة عشر سنة قضيتها أتعلم في الجامعات ؟

  

انتقلت من الثانوي إلى الجامعة بعد إجراء امتحان خاص بمدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين (ENPA) دون المرور بالباكلوريا. بعد دراسة جامعية أولى دامت سنتين تخرّجت وأنا عمري 22 عاما أستاذا مساعدا في الاعدادي، اختصاص علوم الحياة والأرض. عدت إلى التعلّم الذاتي في سن 27، أعددت نفسي بمساعدة زملائي للترشح الحر لاجتياز الباكلوريا العلمية الجزائرية، تحصلت عليها بملاحظة متوسط. عدت للدراسة الجامعية للمرة الأولى بالمراسلة في جامعة "رانس" بفرنسا وأنا في سن 30، درست الفلسفة الإغريقية سنة واحدة ولم أواصل لأسباب مادية. عدت للدراسة الجامعية للمرة الثانية بالحضور وأنا في سن   38 وأكملت الإجازة خلال ثلاث سنوات بملاحظة حسن. عدت للدراسة الجامعية للمرة الثالثة وأنا في سن 46 وبعد عامين بحث علمي تحصلت على "دبلوم الدراسات المعمقة" في  تعلميه البيولوجيا بملاحظة حسن جدا. أضعت عامين بين  الشعور بالإحباط والإحساس بالفشل والتردد في اختيار موضوع أطروحتي.  عدت إلى الدراسة الجامعية للمرة الرابعة وأنا في سن 50 وبعد خمس سنوات بحث تحصلت على الدكتورا بملاحظة مشرّف جدا مع الشكر الشفوي للجنة دكتورا ثنائية الإشراف من جامعة تونس وجامعة كلود برنار بليون 1 بفرنسا. مسيرة دراسية خاصة لا تُحتذى، متعثرة و بطيئة جدا، لا أنصح الشباب بمحاكاتها.

رغم طول مدة الدراسة و تعثرها لأسباب خارجة عن قدراتي الذهنية، لم أشعر يوما بالملل أو القلق، بل على العكس كانت أيام سعادة ومرح ومتعة فكرية. وددت لو طالت الدراسة الجامعية إلى آخر العمر لأن كل متع الحياة الدنيا -لو كان فيها متع في متناول الفقراء ما عدا متعة التدخين السامة- لا تساوي المتعة الفكرية.

لم أجْنِ من كل هذا الجهد إلا عملا بسيطا أقتات منه متنقلا في الجمهورية التونسية من مدينة مغمورة إلى أخرى ولست نادما لأن ما حققته هو إرضاء لنفس طموحة غير طمّاعة وشتان بين الطموح والطمع !

جنيت ثقافة علمية متشعبة ومركبة واكتشفت أن كلما اطلع الإنسان أكثر عرف أن ما يجهله أكبر.

أقدّم لكم في الفقرة الموالية، ما جنيته ويتمثل في بعض المفاهيم أو أدوات التحليل والتفكير التي بقيت لي من سنوات البحث العلمي، وسأقدمها دون تعمق وبصيغة أدبية أكثر منها علمية، لأنني سوف أتعرض إليها في مقالات أخرى بالتفصيل العلمي:

مفهوم "التفاعل" 

(L’interaction)

يحل هذا المفهوم السحري كل المسائل الملتبسة في النقاش الفكري ويجيب منهجيا على كل الإشكاليات بمنطق مشاركة كل الأطراف في الفعل ورد الفعل.

مثال 1:

السؤال: هل الذكاء وراثي أم مكتسب ؟

الجواب: يتفاعل الوراثي مع المكتسب "فينبثق" منهما الذكاء.

مضى زمن الفصل التعسفي بين الوراثي والمكتسب إلى غير رجعة.

مثال 2:

السؤال: ما هي أسباب تخلف العالَم العربي ؟ هل هي داخلية أو خارجية  (مفهوم المؤامرة) ؟ هل هي دينية أو عَلمانية ؟ هل هي معاصرة أو تاريخية ؟ هل هي نتيجة الفساد أو الاستبداد ؟

الجواب: تفاعلت كل هذه الأسباب فيما بينها وخلقت وسطا حضاريا، عشنا داخله أربعة عشر قرنا و"انبثقنا" منه أفرادا وشعوبا ودولا عربية-مسلمة لألأسف متخلفة.

 

مفهوم "الانبثاق" أو "الانبجاس" (L’émergence)

ينتج الانبثاق عن التفاعل بين عناصر الظاهرة الطبيعية أو التفاعل الكيميائي فهي إذن ليست حتمية وليست معروفة مسبقا.

مثال 1:

يتعاون الآلاف من حشرات النحل لبناء خلية النحل. كل واحدة تقوم بعمل بسيط دون نية مسبقة ودون تصميم ذهني "فينبثق" من مجموع الأعمال المنفردة والبسيطة لجماعة النحل بناء هندسي دقيق لا يقدر على تصميمه أكفأ المهندسين.

مثال 2:

إذا انتقدت التعليم في تونس, يطالبك محاورك بنبرة المتحدي بالبديل, ومن أين لي أنا المواطن الواحد بالبديل ؟ البديل ليس شيئا توجد وصفته الجاهزة سلفا بشكل كامل في جيب النقابة أو الوزير، وما على هذا الأخير إلا وضعها موضع التنفيذ.  البديل الإصلاحي للتعليم، هو بناء "ينبثق" منك ومني ومن آلاف الأساتذة والتلامذة والأولياء والمختصين في علوم التربية والتعليم.

 

مفهوم "التخلّق المخي  أو ما بعد  الوراثي المخي "  (L’épigenèse cérébrale)

كلمة "ما بعد" تفيد أن هذا المفهوم الجديد جاء ليكمّل ما أتى به النموذج السائد "الكل وراثي" (Le tout génétique) الذي يؤكد خطأ أن كل الصفات الذهنية البشرية وراثية (كالذكاء والعنف). هَرِمَ مفهوم "الكل وراثي" وتشقق  فوُلِد من رحمه نموذجٌ جديدٌ يجمع بين الموروث والمكتسب: "يتفاعل" الموروث مع المكتسب داخل خلايا المخ البشري فـ"ينبثق" الذكاء من تفاعلهما. لا يمكن توريث مَلَكَة الذكاء البشري كاملة وإلا لكان كل أولاد العباقرة عباقرة بدورهم. فالذكاء إذن هو 100 %  موروث بيولوجي و100 % مكتسب حضاري. لا يولد الإنسان ذكيا أو غبيا (إلا في بعض حالات أمراض التخلف الذهني الوراثي أو الجيني). "قد" يصبح الإنسان ذكيا لو توفر له المحيط المناسب والاستعداد الجيني ولو كدّ واجتهد.

 

مفهوم "التركيب أو التعقيد" (Complexité La)

 قد يتبادر إلى ذهن جل المدرسين, ابتدائي وثانوي, أن تبسيط المعارف بجميع أنواعها قد يساعد التلميذ على تقبلها بسهولة. لكن يبدو أن مربينا نسوا أو تناسوا أن تبسيط المفاهيم العلمية قد يجر التلميذ إلى الخطأ وهذا التبسيط الخاطئ قد يرسخ في ذهن التلميذ فيصعب علينا إصلاحه لأن التصوّرات غير العلمية لا تتغير  بسرعة ولا تنهزم بسهولة. العلم مركّب بطبيعته لكن المدرس المتمكن هو الذي يقدمه في وضعية تعلمية تراعي مستوى التلميذ ولا تسطّح المشكل ولا تبسّطه حتى لا تُفقده تعقيداته العلمية الهيكلية.

 

مفهوم "المقاربة الشاملة" (L’approche systémique)

تركّز هذه المقاربة على التفاعلات بين كل العناصر، وتعتمد على الإدراك الشامل للمشكلة أو القضية فنتناولها من جميع جوانبها وجميع زواياها دون إهمال لأي جانبٍ أو زاويةٍ منها. تتعامل "المقاربة الشاملة" مع عدة مجموعات من المتغيرات في نفس الوقت. هي مقاربة ناجعة في التعليم الحديث تعتمد "بيداغوجيا المشروع"  أو تعّلمات المواد المشتركة (Pédagogie de projet): يبحث التلميذ على حل إشكالية علمية ما،  ولحل هذه الإشكالية، يستعين في الوقت نفسه بمعارف من مادة علوم الحياة والأرض ومادة الفيزياء. يحضَر التلميذ تجاربه في المخبر لإتمام مشروعه بنفسه تحت إشراف أستاذ العلوم وأستاذ الفيزياء في نفس القاعة. يُطبَّق هذا المشروع بنجاح في التعليم الثانوي بفرنسا لأن وزارة التربية الفرنسية وفرت له التجهيزات الضرورية، أما في تونس فقد فشلنا في تطبيقه في الإعدادي لسببين اثنين, أولا لعدم توفّر الفضاء اللازم وثانيا لعدم اقتناع الأساتذة بجدوى "بيداغوجيا المشروع". عدم اقتناعٍ ناتجٌ عن نقص في تكوينهم الأكاديمي في علوم التربية.

 

مفهوم "تداول النماذج التعلمية بيسر" (Jongler avec les modèles d’apprentissage)

يَغرَق الأستاذ في كثرة النماذج والطرق التربوية ويحاول تطبيق أفضلها. نذكر من بين هذه النماذج, المدرسة البنائية لـ"بياجي" والمدرسة البنائية الاجتماعية لـ"فيڤوتسكي" والمدرسة السلوكية لـ"سكينر" والتلقين والتقليد والمحاضرة المباشرة وغيرها. لا يمكن التفضيل علميا بين نموذج وآخر لأن كل واحد منهما قد يصلح في وضعية لا يصلح فيها الآخر. أمثلة حية: 1. المحاضرة المباشرة تبلّغ المعلومة عندما يكون مستوى الباث والمتلقي متقارب مثل المتفقد والأستاذ في الملتقيات البيداغوجية في مراكز التكوين المستمر. 2. يكتسب المتدرب الجديد لدى الحدّاد أو النجار أو الميكانيكي مهارته بالتقليد. 3. يحفظ الصغير القرآن في الكتّاب بالتلقين. 4. في بعض الوضعيات التعلمية، يتعلم التلميذ في الابتدائي بالمكافأة والعقوبة. 5. يرتقي المتلقي إلى مستوى ذهني أعلى عندما يبني معارفه بمشاركة أستاذه وأقرانه. 6. يتملك التلميذ معارفه عندما يراجعها وحده في المنزل.

مفهوم "نفي الحتمية البيولوجية والجينية" 

(  L`anti - déterminisme biologique et génétique)

         نظرية "نفي الحتمية البيولوجية والجينية" تعيب على منافستها نظرية "الحتمية البيولوجية" تجاهلها لتأثير المحيط على عمل الجينات أو المورّثات و إهمالها لأهمية المكتسب من مدرسة الحياة ومؤسسات التعليم. نظرية "الحتمية البيولوجية" تعترف بتأثير الموروث فقط وتهمل التفاعل الذي يحصل بين المكتسب والموروث وترفع من شأن "الموهبة" وتحط من شأن التدرّب والاجتهاد. نحن نعرف أن الاستعدادات البيولوجية الموروثة عند البشر ليست متساوية لكننا نعرف أيضا أن العمل والاجتهاد والمثابرة تتظافر في صنع ما يسمّيه عامة الناس "الموهبة". الموهبة هي القدرات الذهنية العالية المتوفرة عند بعض الناس: نقول مثلا أن هذا التلميذ "موهوب" في الرياضيات, ماذا يعني "موهوب" ؟ هل ولِد وهو قادر على حل المسائل الرياضية المعقدة ؟ طبعا لا ! هل كُتِبت في جيناته قواعد الرياضيات ؟ طبعا لا ! إذن، ما يُسمى بالموهوب في الرياضيات هو شخصٌ أصبح قادرا ولم يولد قادرا, اكتسب القدرة الرياضية أثناء تعلّمه وتدرّبه ولم يرثها عن والديه لكن قد يكون ورث عنهما استعدادا جينيا غير حتمي الغاية. لو ولِد عالم الرياضيات والفيزياء المشهور "انشتاين" مثلا في الصحراء وعاش مع الرعاة ولم يدخل المدرسة لأصبح في أحسن الحالات راعيا ماهرا للجِمال أو الماعز لكنه ولحسن حظه ولد في ألمانيا وتعلم في جنيف وبَنى علمه بمساعدة فريق من العلماء في أمريكا فأصبح موهوبا ولم يولد موهوبا رغم استعداداته الوراثية الذاتية لتقبل العلم والمعرفة.

خلاصة القول

أحُث بكل حب ولطف الشباب على مواصلة تعليمهم العالي في المرحلة الثالثة مبكرا حتى يبقى في العمر متسع للبحث والبناء العلمي ولا أقول الاكتشاف لأن العلم ليس جزيرة مهجورة نكتشفها صدفة. العلم كدّ وجدّ وجهد وبحث وتمحيص، نبنيه لبِنَة لبِنَة بأنفسنا وبمساعدة الآخرين فوق أساس متين من الموروث الحضاري المكتسب عبر تاريخ البشرية والموروث البيولوجي الذي لا ناقة لنا فيه ولا جمل. لم يتغير المخ البشري بيولوجيا منذ عهد الفراعنة أو أبعد من ذلك لكن القدرات الذهنية عند الإنسان قفزت قفزة عملاقة بفضل التراكم المعرفي البشري الكوني وتفاعل الحضارات منذ القديم.

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire