dimanche 21 août 2022

الإشكاليات العامة في التعليم الابتدائي. الهادي بن جابر، معلم متقاعد بعد 40 سنة تدريس

 

 

اقترح علي صديقي الكتوب كشكار أن أساهم بالحديث عن تجربتي في كتابه الذي خصصه للتعليم أو بالأحرى نقد التعليم بتونس. فها أنا مدعو للكتابة عن التعليم بدعوى ممارستي له طيلة أكثر من أربعين سنة فماذا عساني أقول وأنا رجل الميدان الذي يطبق ما دُبِّرَ له دون استشارته أوسماع رأيه فلا أنا أجد لنظريات المختصين في ذاكرتي صدى ولا أتذكر ما خططوا ولا ما بنوا ولا ما هدموا. بل أنني أتذكر فقط كيف أن الحلقات التكوينية التي كنا نُدْعَى إليها من حين لآخر كانت ترمي بنا كل مرة في دوامة الشك في كل طرقنا السابقة وإحلالٍ برنامجٍ ثوريٍّ بديلا عنها يبشر به مسؤول جديد (من متفقدين وما شاكل) في انتظار أن يأتي المسؤول الموالي ليدعونا للهدم والنقد الحاد من جديد وتقبّل برنامج ثوري آخر.  فهل أنا كنت مدرّسا جيدا أو أنا من ضمن الذين ساهموا في انحدار التعليم إلى ما هو عليه الآن من تردّي وكيفَ لا أكون وأنا في قلب المنظومة التي أدت إلى الفشل؟ فإن كنتُ من الذين تسببوا في انحطاط التعليم (الذي هو الآن واقع ملموس لا ينكره عاقل) ؟ فهل أنا واع ومتبصر بالخطايا والمصائب التي اقترفتها يداي ؟ أفلا يجدر بي إذن أن أصمت وأغيب عن الساحة مثل التجمعيين القدامى الذين أدوا بالبلاد إلى الكارثة فيُطلب منهم الآن أن يخجلوا و يبتلعوا ألسنتهم.  وإن كنت من الجيل الذهبي وأسديت عملا جيدا فـفيما أنا مختلف اليوم عن الجيل الجديد الذي يُنعت بأنه مخرّبٌ للتعليم؟ وبماذا يمكن أن أنصح المدرسين الحاليين حتى يفيدوا الميدان والأجيال؟ أم أن العيب يكمن في البرامج التعليمية التي أمليت علينا فقبلنا بها وطبقناها كالآلات ؟ فلماذا نتكلم اليوم وندّعي في العلم فلسفة بعد أن ساهمنا ولعقود في المأساة؟ وحتى إذا استُمِع إلينا فهل نحن قادرون على الخروج من داخل المشهد والنظر بموضوعية وتجرّد، نظرة تجعلنا قادرين على كشف الهنات التي عايشناها أو هل نحن واعون بها لنحذر من تبعاتها؟ .... هل أنا قادر اليوم على الإجابة والحسم في هذه التساؤلات بنعم أم لا ؟...  أظن أنني وبكل تواضع عاجز عن تقديم إجابة حاسمة, ولن يكون كلامي هنا من باب الإدلاء بالوصفة السحرية والكشف عن السر الذي عجز الغير عن كشفه وتقديم المفتاح السحري المنتظر. بل سأحاول تقديم شهادة مَن عاين وعايش الميدان قرابة نصف قرن بعيدا عن النظريات والعناوين المنمقة والأهداف الملوِّحة بغد أفضل.  وكمعلِّم ترشيحي سأعترف أولا بما سيفاجئ الكثير فأنا شخصيا وأظنه حال الكثير من زملائي : أنفي كوننا دخلنا التعليم بعد الحصول على تكوين متين ودقيق خلال تعلمنا في مدارس ترشيح المعلمين فهذا ادعاء لم أنل شرفه إذ نحن دخلنا التعليم مثل الكثير من غير الترشيحيين بدون تأهيل سابق ولا نظريات نعتمدها في ممارسة عملنا . أقصد أننا بدأنا سنة التربص - التي من المفروض أن يُمتَّع بها كل منتدب للخطة - دون تجربة سابقة نستمدها من مدرسة ترشيح المعلمين. هذا وأننا خلال تلك السنة كنا ندرس فصلا واحدا في حصة عادة ما تكون صباحية ونتلقى بعد الزوال دروسا في علم النفس والبيداغوجيا بمدرسة ترشيح المعلمين تحت إشراف متفقد. ويشرف على تأطير عملنا مساعد بيداغوجي. وأتذكر فيما يخصني أن حَظي العاثر ابتلاني في تلك السنة بمتفقد نرجسي وفارغ وبمساعد بيداغوجي زيتوني لا يفقه في التعليم شيئا. ثم وفي غالب الحال كان يُرمى بنا - بعد سنة التربص - في أرياف معزولة كنا نتعذب فيها فندرّس أطفالا أغلبهم حفاة عراة يأتون للمدرسة من مسافات نائية يرتجفون من الجوع والبرد - يفرحهم فنجان الحليب الساخن الذي كان يمدهم به حارس المدرسة وهو أكيدا حافز مهم على مجيئهم - ويتكدسون في فصول عارية باردة ومكتظة ذات فصلين مدْمجَين في غالب الأحيان. وكانت المدارس الريفية النائية تعاني أيضا من تغيب المدرسين أو عدم وجود مدرس أصلا لأن أغلب الشباب الذين يُرسلون إلى تلك الأصقاع النائية حيث العمل في ظروف جد قاسية ولا إنسانية يدفعهم في آخر الأمر إما إلى التغيّب المتكرر أو إلى ترك العمل نهائيا والتسبب في شغور لا يُملأ في الغالب بسرعة ولذلك كنتَ تجد دوما تلاميذا تنقصهم حلقة أو أكثر (سنة أو جزء من سنة دراسية) فتخيل كيف يكون العمل في تلك الظروف . فما هو الهمّ الأكبر لكل معلم آنذاك ؟ إنه حتما لن يكون أداء واجبه على أفضل حال... كان كل منا إلى جانب الجهد اليومي في تأمين الأكل وماء الشرب يطمح ويحاول التخلص من ذلك المنفى وتلك المعاناة... أما الواجب وحسن الأداء فلمن استطاع إليه سبيلا... فهل كان حال التعليم وقتها أفضل مما هو عليه اليوم ؟ لا أظن... وللقارئ أن يتخيل شابا قليل التجربة في وسط تنعدم فيه المراجع و المساعدة وكل مَن معه من زملاء يمر بنفس المسار حتى المدير لا يكون عادة سوى مكلفا "بالعمل الدوري" القسري وهو تقريبا مثلهم في بداية مرحلة التعليم إذ قلّ أن تجد هنالك من راكَم اقدمية أو تجربة تفيد. طبعا ليست كل الظروف هكذا وليست كل المدارس هكذا... ولكن الأمر من هذا الأمر أنني. ولما توصلت بعد أكثر من عشرين سنة إلى الالتحاق بما يُسمى "المناطق المحظوظة" لم أجد إطارا تعليميا أفضل... بل كانت بعض الحالات "المتعبة"همّها الدخل الإضافي الممكن تحصيله بكل الطرق... من الأكيد أن الأمر لم يكن بهذا السواد المفجع ولا بُد أننا أبلينا بعض البلاء الحسن فقد كانت ترتدّ إلينا بعض الأصداء عما قمنا به هنا وهناك في حلنا وترحالنا بين الأرياف والقرى والمدن التي درّسنا فيها. و لكن هل كان هذا شأن الجميع أو حتى الأغلبية ؟... هل أن الأمر موكول للصدفة ومرتبط بضمير هذا وذاك؟ فعندما يستذكر الإنسان من صادفه طيلة مساره سوف يتذكر دون شك أغلب الزملاء الذين عرفهم ويتذكر خاصة أداءهم: جيلنا فيه بالتأكيد رجال ونساء نزهاء جادّون بنسبة أكبر من الآن ولهم أياد وفضل على منظوريهم ولا ينكر هذا إلا جحود ولكن كانت فيه أيضا كوارث وشخصيات "لا تتمنى أن يُغلق عليها باب مع أبنائك" أما البرامج والمقررات المدرسية فلنا معها قصة أخرى.  كنا نعايش الكتب المدرسية ونلاحظ بالعين المجرّدة انحدار المستوى فيها من فترة إلى أخرى وهنا أورد حكايتي مع كتب الفرنسية التي لاحظت بالتجربة تدني مستواها وغرقها في السطحية إذ كنت وأنا في مدرستي بالداخل أتساءل عن هذا الذي أدخل علينا "رندينو" حتى التقيت بالشخصية اللامعة وعرفت بعض أسباب المشكل من تلك الأصناف التي تتحصل على امتياز تأليف الكتب المدرسية في "البدروم أو ما شابه". ولكن الضربة القاضية والتحول الأعظم كان مع التعريب والارتقاء الآلي والمساواة الجائرة في الضوارب بين مختلف المواد بحيث يكون المتفوق في ما كنا نسميه "التْرِبْ" بمعنى مختلف مواد التربيات أفضل من التلميذ المتفوق في اللغات أو العلوم.  وبفعل تجربتي الطويلة مع الرياضيات في المستوى الابتدائي فإن لي حول هذه المادة تساؤلات لم أجد لها إلى حد اليوم إجابة شافية. نعم أنا ذاك المدرس الذي كان تلاميذه يسقطون في مناظرة السادسة لعدم حصولهم على العدد الكافي (أو أصفار) في الرياضيات وأنا ما زلت لحد الآن ولتواصل ممارستي لهذه المادة, لم أفلح في إيصال المفاهيم الرياضية "لكل التلاميذ" الذين أدرسهم, أؤكد المشكلة وأتمنى أن يقع التفكير في حل جذري لها بعيدا عن النظريات المنمقة وباعتماد واقع الأمر ولن يقنعني أحد بأي نظرية في الموضوع ما لم تُجرب على أرض الواقع ورأيي الشخصي في هذا موضوع (الرياضيات) بالذات ولكن الأمر قد يشمل كل المواد, أن مواصلة تقديم المعلومات والدروس بهذه الطرق النظرية والمجردة هي بيت الداء... يجب إخراج الدرس من بين جدران قاعة القسم وربط المدرسة بالواقع المعيش وبالحياة اليومية وبالتجربة الذاتية... أظن أن عهد المدرسة "المنارة" التي تشع وحدها على الكون قد ولّى وانتهى وكل إصلاح يتجاهل هذا الشرط لن يَحضى بالنجاح.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire