jeudi 11 août 2022

شهادة على العصر: تجربتي كأستاذ تونسي متعاون في الجزائر

 


عام  1980 التحقتُ بــ"إعدادية زيروت يوسف" بولاية سكيكدة و كان عمري 28. وصلت القرية مساء. لا يوجد بها نزل. قضيت ليلتي في الحمام التركي بالقرية ونمت على حصيرة. توجهت باكرا إلى المدرسة الإعدادية وقابلت المدير. كان جزائريا بربريا أمازيغيا قبائليا يتكلم الفرنسية فقط في زمن تعريب التعليم الجزائري! كان دعاة التعريب من الوزراء والمسؤولين الكبار يبعثون أبناءهم يدرُسون التغريب بالخارج حفاظا على عقول فلذات أكبادهم من التعريب.

انتدبوني لتدريس العلوم الطبيعية بالفرنسية لآخر دفعة نجت من نظام التعريب. نعم أقول نجت لأن التعريب المشوه في نظري يساوي تجهيلا وتفقيرا لثقافة الأستاذ والتلميذ  لو لم نوفر مراجع علمية بالعربية وأساتذة متكونين بالعربية ومجلات علمية مختصة ننشر فيها إنتاجنا العلمي و إنتاج غيرنا بالعربية. كان أستاذ العلوم الجزائري المعرّب غير قادر على مطالعة الكتب المدرسية والمراجع المكتوبة بالفرنسية وغير قادر أيضا على قراءة المجلات العلمية الفرنسية المختصة مثل (La Recherche) أو شبه المختصة مثل (Sciences & Vie). كان يعتمد في إعداد دروسه على كتاب التلميذ فقط. أما التلميذ الجزائري المعرّب (يدرس الفرنسية كمادة مستقلة ويدرس كل العلوم الصحيحة والإنسانية بالعربية) الحاصل على باكلوريا علوم بالعربية والموجّه إلى سنة أولى طب يجد صعوبة كبيرة في مواصلة تعليمه الجامعي الطبي المفرنس تماما لأنه غير مؤهل للبحث في المراجع الطبية المنشورة بالفرنسية أو بالأنقليزية. لا توجد في الجزائر مراجع طبية حديثة بالعربية ولا مجلات علمية عربية مختصة أو شبه مختصة.

مبدئيا، أنا من دعاة التعريب ولكن ضد تطبيقه العاجل. قبل أن نعرّب التعليم علينا, حسب وجهة نظري المحدودة, أن نبدأ بتوفير مراجع معرّبة في كل المجالات والاختصاصات في المكتبات المدرسية والعامة والتجارية وتوفير مجلات علمية مختصة معرّبة في حينها في الأكشاك. عُرِّب التعليم الأساسي والإعدادي والثانوي في الجزائر على عجل فخُرِّب وأنتج أجيالا لا تقرأ إلا بالعربية وهذا غير كافٍ لأنها لن تبدع و لن تنتج إلا في مجال الدين, المجال الوحيد المعرّب بالكامل, ولذلك انتشر التطرف الإسلامي بسرعة غريبة في جزائر التسعينات قبل تونس والمغرب. عُرِّب التعليم الأساسي في تونس بفرعيه, الابتدائي والإعدادي, فأصبح في طريقه إلى التخريب أيضا مثل الجزائر.  كنا نظن أننا في تونس أذكى منهم فأبقينا على الثانوي مفرنسا لكن  نسينا أن من يكون أساسه هشّا لا يستطيع أن يعلّى في بنيانه.

كان زملائي الجزائريون المعرّبون المتخرجون حديثا عاطلين بالفعل في اللغة الفرنسية. كانوا يلجؤون إليّ مضطرين, يعلو وجوهم الحياء، طالبين منّي كتاية برقية بالفرنسية  أو قراءة بطاقة شروط استعمال آلة غسيل أو دواء (notice d'emploi). كنت أترجم لهم مقالات (le Monde Diplomatique ) و(La Recherche ) و(  Sciences & Vie) وكانوا يستمعون إليّ بانبهار وإعجاب شديد كأنني بابلو نيرودا  يلقي شعرا في ثوار اسبانيا الشيوعيين.

أسكنوني مع أستاذ عراقي وآخر سوري. كان العراقي شيوعيا هاربا من صدام وهو أول من علّمني كره طاغية بلاده منذ 1980. أما السوري فكان يخرج من الدار عند إثارة أي نقاش سياسي حول الأنظمة العربية لثقته التامة في قدرة مخابرات بلاده الفائقة على التصنت دون تكنولوجيا التصنت. قسّمنا الأدوار في المطبخ وبدأت أنا بمقرونة حارّة فقال لي العراقي: أنت يا "أبو جاسم" عيّنّاك منذ اليوم غاسلا للأواني ولا شأن لك بالطبخ وبقيت على هذه الحال كامل السنة. كان العراقي شاطرا جدا في إعداد الأكل وفي تقديمه أيضا. كان يعزف العود ويدرّس الأنقليزية. درس التصوير الفني بألمانيا الشرقية ودرّسه من بعد بمدينة بسكرة بالجزائر. كان قارئا نهما لأمهات الكتب وقد تعلّمت منه الكثير وأوّل مرة في حياتي أشعر بعقدة نقص حضارية إزاء عربي مثلي. كان محروما من الدخول للعراق إثر صدور حكم إعدام غيابي ضد كل الشيوعيين العراقيين في المهجر. كان يذهب إلى سوريا ليقابل أمه القادمة من العراق. كنا في الدار أربعة عزاب, ثلاثة أساتذة  وعراقي صغير, أخ الكبير, لم يتشيّع بعد (من الشيوعية وليس من الشيعة) وكان جميلا جدا وكان يدرس في الإعدادي في الجزائر. رغم كثرة ما حدثني معلّمي العراقي الشيوعي عن الظلم والقهر وكبت الحريات والتعذيب وشرف الإعدام بمسدس القائد, لم يحدثني قط عن الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة عكس قناة الجزيرة التي صمت آذاننا وكأنها تستمتع بالحروب الأهلية العربية. منذ 1980 حكمتُ على تجربة صدام بالإعدام الفكري لأنني ضد الإعدام الجسدي. من يسلب كرامة مواطنيه في بلادهم لا يحق له أن يطالبهم بالدفاع عنها ضد الأعداء الغزاة. بعد عشرين سنة من معاناة الشعب العراقي وعذابه بأيادي عراقية صدّامية, جاء الأمريكان  فوجدوه لقمة سائغة لا قدرة له ولا رغبة في المقاومة. كيف تطلب من مسلوب الإرادة وربيب الذل والقمع لعقدين من الزمن أن ينتفض فجأة ويستبسل في الذود عن دياره وعشيرته وعرضه؟ لا تصدقوا المقولة المشهورة "كُرْ فأنت حُرْ" فعنترة أسطورة نفخ فيها العرب بعد الإسلام كما أكد طه حسين في كتابه الشهير والمثير للجدل حول الشعر الجاهلي.

ألبَسَ زميلنا العراقي نوافذ بيتنا ستائر فقلت له: أتحداك أن تجد ستائر في بيت عُزاب في تونس. كان يحكي لي عن مطاعم دجلة أيام الرئيس البِكر وكيف كان يتعشى سمكا ويسكر "عرقا" بـنصف دينار عراقي. كان أبوه مثل المنجد يتحدى أولاده في تفسير أي كلمة أنقليزية تخطر على بالهم. آمنت أن العراقيين شعب متحضر وخاصة الشيوعيين منهم الذين عرفتهم ولن أنسى أن الحضارة العربية الفارسية الإسلامية في العراق أنجبت وربت خيرة العلماء في الدين والدنيا.

لم تكن لي علاقات بالجزائريين ولا بالجزائريات إلا للضرورة المهنية أو الحياتية. كنت أقضي أكثر وقتي في المطالعة وبتكليف من مجموعتي الجمنية اليسارية الفكرية وليس السياسية، تكليفٌ ودي و ليس إلزاميا ولا تنظيميا ولا حركيا، قرأت القرآن وتفسير الجلالين  وصحيحَي مسلم والبخاري وظلال القرآن لسيد قطب وشهادة الحق لأبي الأعلى المودودي ونظرات في القرآن للإمام حسن البنا وكل أدبيات الإخوان المسلمين بهدف التعرف على الجذور الفكرية لحركة الاتجاه الإسلامي (1980), المولود الجديد فى الساحة الفكرية التونسية بعد ما كانت مرتعا مباحا للشيوعيين والقوميين فقط.

أثناء تواجدي بالجزائر اتصلت بجامعة قسنطينة للتسجيل بقسم الفلسفة حتى أكمل تعليمي العالي. قال لي العميد: ليس لنا أماكن شاغرة بالفلسفة لكن تستطيع التسجيل بالطب على شرط التخلي عن الإعارة أي التدريس. رفضت لأني ليس لي مورد رزق غير التدريس ويا ليتني ما رفضت أو ربما أحسن ما فعلت لأن الطب يتطلب قلبا كاسحا وأنا قلبي "رهيف" وحساس. كان الطلبة التونسيون بالجزائر يهرّبون سراويل "دجين" وينفقون من فارق الثمن وفارق العملة في السوق الموازية.

في وسط العام الدراسي جاءتني برقية عاجلة من فرنسا تعلن وفاة زوج أختي الكبيرة بباريس. ذهبت إلى بنكي في مدينة سكيكدة لأسحب مبلغا بالفرنك الفرنسي. قال لي الموظف: لا يوجد عندنا سوى البيزيتاس العملة الاسبانية أو الليرة الإيطالية. التجأت إلى حلاّل المشاكل زميلي الحاج الفلسطيني الذي كان يؤجّر سيارته الخاصة (وهو سائقها) في الأفراح ويأخذ أولاده الخمسة يأكلون  مجانا في الولائم. اتصل بالموظف البنكي الجزائري وقال له: صديقنا بن علي, و كنت حينذاك أحمل لقب بن علي, ذاهب إلى فرنسا فماذا تريد أن يجلب لك كهدية؟ قال: دجين. أعطاني الفرنكات وسافرت. اشتريت له دجين بـ80 فرنكا أي ما يساوي تقريبا 8 دنانير تونسية فأصبح بعد الرشوة يقوم من كرسيه ويستقبلني بالأحضان وأنا داخل للبنك. ما أرخص قيمة بعض الموظفين الجزائريين في ذلك الوقت وأين هُم من دعاية المليون ونصف شهيد والشعب الأبي وكانت أول رشوة وآخر رشوة أدفعها في حياتي. كان بعض التونسيين يقضون حوائجهم ويرشون بعض الموظفين الجزائريين بقطعة صابون تونسية نوع لوكس.

أسست في المدرسة الإعدادية بزيروت يوسف (ولاية سكيكدة) نادي قصة على منوال النادي الذي كنت أنشطه في إعدادية غار الدماء بتونس. اتهمني ظلما بعض زملائي الجزائريين الحزبيين الموالين من  حزب جبهة التحرير الجزائرية بشتم الشعب الجزائري في هذا النادي الناجح فأبعدتني وزارة التربية الجزائرية في نقلة عقاب إلى مدينة جامعة ولاية واد سوف بالصحراء الجزائرية.

أردت زيارة مكان عملي الجديد قبل الرجوع إلى تونس في العطلة الصيفية. ذهبت إلى مدينة قسنطينة الأقرب إلينا من سكيكدة لأستقل الحافلة إلى مدينة بسكرة حيث توجد الإدارة الجهوية للتعليم بالجنوب. وصلت إلى محطة الحافلات فوجدت صفا طويلا كالعادة أمام شباك التذاكر. أخذت مكاني في الآخر والناس يتدافعون دون سبب ظاهر. بعد ساعة من الانتظار المتحرك أصبحت الثاني في الصف. دفعني الثالث بكتفه وأزاحني من أمامه وأخذ مكاني. لم أرد الفعل وعدت بكل برودة دم إلى آخر الصف لأن لا أهدر طاقة في غير محلها. احتج عِوضي الجزائري الأول في الصف وحلف بأغلظ الأيمان أن يقتطع لي تذكرة قبل المعتدي وهذا ما حدث فعلا. قال لي منقذي بابتسامة فيها إعجاب واستغراب: " أنت, إما غير جزائري أو مثقف جدا". أجبته: " الصفة الأولى صحيحة وأما الثانية فأحاول الاقتراب منها كل ساعة بكل جهد وعزم مع العلم أنها مستحيلة المنال.

في السنة الثانية إعارة, سافرت إلى الجزائر عبر الحدود الجنوبية مرورا بتوزر ونفطة وحزوة. اجتزنا الديوانة التونسية بسلام وبعد كيلومترين وجدنا الديوانة الجزائرية في انتظارنا بالورود والطبل والمزمار, ألسنا عربا أشقاء وأجوارا اشتركنا في مقاومة الاستعمار الفرنسي واختلطت دماؤنا في ساقية سيدي يوسف التونسية. لا يوجد بيت راحة. ماء في صهريج تحت الشمس يذكرني بالصهريج الفارغ لتهريب الفلسطينيين في قصة غسان كنفاني "رجال تحت الشمس". صفّ طويل وانتظار تحت شمس الجنوب في شهر أوت دام أربع ساعات. موظفون يلعبون الورق ويحتسون المشروبات المثلجة ويقهقهون غير مبالين بالمواطنين وهل نحن مواطنون في هذا الوطن؟ نقلت المشهد لزميلي الأستاذ الفلسطيني المتعاون بمدينة جامعة, مقر عملي الجديد. فقال معلقا: المحتلون الإسرائيليون لا يعاملون الفلسطينيين المارين عبر المعابر مثل ما يعاملكم جيرانكم شرطة حدود الجزائر وديوانتها. كانوا يفتشوننا ويحجزون حتى جريدة الصباح خوفا وحماية للدولة الجزائرية القوية من الانهيار لو دخل عدد واحد من جريدة الصباح ولم يكن يخطر على بالهم إمكانية ظهور المهدي المنتظر وهو الـ"فايسبوك" الذي نقلنا حقا من الظلمات إلى النور ونصرنا على القوم الظالمين فأصبحنا بقدرته ندخل الجزائر صباحا مساء وحتى يوم الأحد دون استشارة شرطي يحمل في جمجمته مخا وهو لا يحتاج أكثر من نخاع شوكي ينظم ذهابه إلى دورة المياه.

وصلت مدينة جامعة بالجزائر وللأمانة رحبت بي السلط الحزبية المحلية ترحيبا جيدا. التحقت مباشرة للسكن مع أستاذين تونسيين قديمين في المنطقة. كان الحي مخصصا لرجال التعليم وكان السكن مجانيا للجزائريين والأجانب والماء أيضا مجانيا للجزائريين والأجانب والجولان مجانيا لسيارات الجزائريين وسيارات الأجانب, لا ندفع المعلوم السنوي للجولان في الجزائر. هذا من بقايا اشتراكية بومدين ومكاسبها التي أنتقدها في جوانب أخرى مثل غياب الديمقراطية وكبت حرية الصحافة والتطبيق المشوه للاشتراكية مثل ما فعل أحمد بن صالح في تونس الستينيات .

انتدِبت كمدرس علوم الحياة والأرض بالفرنسية لكن أصبحت أغيّر الاختصاص كما تغير الحرباء لونها. بدأت عملي في إعدادية مدينة جامعة كمدرس للعلوم التطبيقية الفلاحية. كنا أنا وتلامذتي نفلح الأرض ونزرع البطاطا والفول ونجني ثمارها ولا نأكلها. بعد عام بدأت أدرس التكنولوجيا وكيفية استعمال سخان الحمام وغيره من الآلات, اعتمدت في تحضير دروسي على كتب رسمية تونسية في التقنية لفقدان البرنامج والكتب الجزائرية في هذا الاختصاص. انقرض تعليم العلوم بالفرنسية في عامي الرابع من الإعارة فاقترح عليّ صديقي المدير تدريس اللغة الفرنسية في نفس الإعدادية فقبلت ووافقت الوزارة الجزائرية وتجدد عقدي لمدة أربع سنوات أخرى بمجرد تزكية من المدير. المدير وما أدراك ما المدير, أصفه لكم بكل دقة وأمانة وهو داخل صباحا لمدرسته: كان بدينا لحد الإفراط, يرتدي قميصا خارجا من سرواله كاشفا عن بطنه وينتعل في قدميه "شلاكة نيلون بنصف دينار تونسي" وفي يده "قرطاس فول مدمس" يأكل البذرة ويلفظ القشرة على الأرض بقوة دفع رهيبة مباشرة. لا تغرّكم المظاهر ولا تحكموا بسرعة على البشر فهذا المدير طيب جدا ومتكون جدا, ودون مبالغة لقد كان قادرا وبجدارة وتفوق أن يعوض أي أستاذ يتغيب وفي أي اختصاص ويؤدي المهمة أحسن من الأستاذ المتغيب نفسه.

تعلمت السياقة في الجزائر وحصلت على رخصة في الوزن الخفيف والثقيل وعلَّمت قانون الطرقات مجانا و بمنزلي لصديق جزائري أمّي.

اشتريت بالحاضر, في عامي الثاني بمدينة جامعة, سيارة مستعملة وثلاجة وموقد طبخ 

(Une cuisinière)   

وتلفازا بالألوان وسرير كبيرا وغسالة أوتوماتيكية وتزوجت بتونس من الجميلة والرقيقة سهام الرحال أثناء عطلة الشتاء. وفّرت لي المدرسة الجزائرية "فيلاّ" للسكن تابعة لها دون كراء ولا فاتورة ضوء ولا فاتورة ماء. وكما يقول المثل التونسي " اغسل ساقيك وادخل" وفي جانفي 1983 دخلت أنا وزوجتي في شهر عسل شتوي متواضع لكن دافئ.

كنت مقاطعا الجلوس في المقاهي وأسهر مع زملائي الجزائريين والفلسطينيين في ساحة الحي شبه مجاني السكن ومجاني الماء (كان نصف الحي مجاني السكن ونصفه الآخر شبه مجاني لأن كراء "فيلاّ" كان بـ200 دينار جزائري أو 20 ألف جزائرية, يقابلها 4 دنانير تونسية أو 4 آلاف تونسية في السوق السوداء ة, الدينار الجزائري هو بمثابة  100 مليم عندنا في تونس ). كنا نفترش الرمل الصحراوي النظيف والناعم الدافئ ونتجاذب أطراف الحديث والنقاش دون تمييز في الجنسية لقرب لهجتي من لهجتهم الجنوبية. كانوا يعشقون رئيسهم السابق الهواري بومدين ولا يقبلون نقده. لا يحبون رئيسهم الشاذلي بن جديد وكنت أنا على العكس, لا أوافق  بومدين في ديكتاتوريته ولا في طريقة تطبيق اشتراكيته رغم إيماني الراسخ بوجاهة بعض ما جاءت به النظرية الاشتراكية ولو غيرنا فيها الديكتاتورية بالديمقراطية والثورة بالتغيير المتدرج في المفاهيم والتصورات. أحترم بن جديد لشعره الأبيض ولبساطته ولتوفر مستلزمات الحياة في عهده. كان عهدا ذهبيا بالمعنى النفعي للكلمة, تمتع الجزائريون بالأمن والعيش الكريم في عهده بعد ما قُمِعُوا في العهد الذي سبقه وقتلوا في العهد الذي لحقه.

على ضوء القمر وكاس الشاي الأخضر الخفيف و"الحمص المعاود" التونسي الذي يعشقه زملائي الجزائريين, كنا قرابة عشرين أستاذا نناقش خبر تأسيس المغرب العربي خلال اجتماع الرؤساء المغاربة الأربعة في المغرب الأقصى في الثمانينات. كان كل زملائي متفائلين ومصدقين الوعود وكنت أقول لهم: لا تصدقوا الأقوال قبل أن تروا الأفعال. نشأت السوق الأوروبية المشتركة على المستوى الاقتصادي والثقافي قبل أن تنتقل إلى المستوى السياسي أما نحن فبدأنا من القمة وبحول الله ستنكسر رقبتنا وسنتدحرج من الأعلى إلى أسفل السافلين. وها قد مر الآن على التأسيس والحفل الضخم قرابة ربع قرن ولم يتحقق، لا مغرب عربي كبير ولا صغير بل اشتعلت الحرب الأهلية في الجزائر وحصدت مائتي ألف جزائري بأيادي جزائرية وطنية خالصة مائة في المائة.

كان زميلي الفلسطيني الأستاذ المتعاون بالجزائر المذكور أعلاه وهو من سكان غزة الحاليين يتدخل في النقاش أحيانا وبحرقة شديدة تستشفها من نبرة صوته وشرع يقارن بين عهد الاحتلال المصري المباشر لغزة قبل 67 وعهد الاحتلال الإسرائيلي المباشر بعد هزيمة 67. قبل 67, كانت الفوضى تعم القطاع تحت الحماية المصرية وكان الفدائيون الفلسطينيون, أبطالا في نظر العرب وقطّاع طرق في نظر الغزاويين, كانوا يقظّون مضاجعنا نحن المدنيين الأبرياء العزل ويفرضون علينا سيطرتهم بقوة السلاح الذي يحملونه ضدنا وليس ضد العدو. قبل 67, لم يكن الأمن مستتبا في القطاع ولا في الضفة والقدس الشرقية. بعد 67, جاءت إسرائيل بجيشها وجبروتها وفرضت القانون والأمن ودخل المجاهدون المزيفون إلى جحورهم وأصبح العمال الفلسطينيون يتوافدون على إسرائيل 48 بمئات الآلاف يكسبون لقمة عيشهم من عرق جبينهم في بناء المستوطنات وزراعة الأراضي الفلاحية لصالح اليهود الصهاينة المحتلين القادمين من بولونيا وروسيا وأمريكا والمهجّرين من الدول العربية التي جبنت أمام جيش الهجوم الإسرائيلي واستأسدت ضد رعاياها اليهود الأبرياء العزل وأجبرتهم بالقوة على مغادرة أوطانهم العربية وحولتهم من يهود عرب مسالمين في أغلبيتهم إلى صهاينة معادين لنا نحن الفلسطينيين فقط. ويضيف زميلي الفلسطيني معتذرا عن جلد الذات الفلسطينية العربية: لا تأخذوا كلامي هذا على أنه تجميل للوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي بل هو تقبيح للوجه المجمّل للاحتلال العربي المصري والأردني للضفة والقطاع قبل 67. الإحتلال الإسرائيلي هو تمييز عنصري واضح بين اليهودي والعربي أما الاحتلال العربي فهو تمييز متخف أشد عنصرية لأنه يميز بين عربي وعربي وبين مسلم ومسلم لم يميز الله بينهما إلا بالتقوى. بعد أن أتم زميلي الفلسطيني سرد شهادته على العصر, عصر الانحطاط العربي, ألقيت عليه السؤال التالي: لماذا لم تطالبوا قبل  67 بالاستقلال التام والتخلص من الاحتلال المصري لغزة والاحتلال الأردني للضفة والقدس الشرقية وتبنوا دولتكم المضيّقة وعاصمتها القدس الشرقية قبل أن تحتلها إسرائيل في 67؟ نسيت أو تناسيت جوابه لأن لا أجرح شعوركم أكثر مما هو مجروح.

جمعت معاهد مدينة جامعة أساتذة متعاونين من 8 جنسيات مختلفة: 5 مصريين و3 فرنسيين و1 ايرلنديا و1 باكستانيا و2 فلسطينيين و1 سوريا و7 تونسيين و1عراقيا. استدعتنا مرة مديرية الأمن بولاية واد سوف في يوم واحد لأمر يهمنا دون ذكر السبب بالتفصيل فتغيبنا كلنا والتحقنا بدار الأمن على بعد مائة كيلومتر من مدينتنا, وصلنا الثامنة صباحا, دخلنا, سألونا: هل غيرتم محل إقامتكم؟ أجبنا جميعا بلا. قالوا لنا شكرا ومع السلامة. ضاع يوم دراسة على التلامذة الجزائريين بسبب غباء ضابط أمن جزائري كان أجدر به أن يطلب المعلومة هاتفيا (غبيٌّ أولٌ).

كانت الجالية التونسية, أكبر جالية أجنبية في مدينة جامعة,  تتكون من ست عائلات, أربعة أساتذة و بائع فطائر مقلية وسائق شاحنة. كنت الوحيد الذي يملك سيارة ( R14 ). كان زملائي الثلاثة يستعملونها لقضاء حوائجهم ولم أكن أمانع. اقترحوا عليّ تحويلها إلى ملكية مشتركة فقبلت فورا. قدرنا ثمنها بألف دينار تونسي، كل واحد ساهم بربع مليون. بقيت البطاقة الرمادية باسمي. حرّرنا شفويا في شأنها كراس الشروط التالية: إصلاح العطب مشترك أيا كان المتسبب فيه أيا كان المكان الذي فيه العطب، في تونس أو في الجزائر. ثمن البنزين مشترك في حدود شعاع 50 كلم من مدينة جامعة ولو زادت المسافة عن هذا القدر، يتحمل السائق على نفقته دفع ثمن الوقود الزائد المستهلك. تبيت السيارة أمام منزلي أنا مهما كان توقيت رجوع المسافر وتنطلق من أمامه مهما كانت ساعة الانطلاق. إذا رغب أحدنا في فض الشركة, يقبض مائة دينار تونسي بعد بيع السيارة في التوقيت الذي يحدده الباقون. تدرب عليها لنيل رخصة السياقة أربعة تونسيون, زوجتي وزميلي وزوجة زميلي وزميلتنا حتى تقطعت أوصالها وهرمت. غبطنا زملاؤنا المصريون على اشتراكيتنا وتفاهمنا وقد كانت تجربة فريدة في حياتنا ولو نسج على منوالنا الكثير من الموظفين في العاصمة التونسية القاصدين العمل من الأحواز إلى العاصمة، لَوفرنا الكثير من الطاقة وحمينا بيئة عاصمتنا من التلوث وبهذا الصنيع نكون قد طبقنا التنمية المستديمة. يذهب الموظف التونسي الفقير في بلد العالم الثالث إلى عمله البيروقراطي غير المنتج في أغلب الأحيان وهو راكب عربة تجرّها 4 أحصنة ( voiture populaire de 4 chevaux ) وهو في الواقع حصان واحد يكفيه. لماذا لا يتفق 4 أو 5 موظفين جيران (من حمام الشط مثلا ويشتغلون في العاصمة بالتوقيت الإداري) على  استغلال سيارة أحدهم  أسبوع " أ" و سيارة آخر أسبوع "ب" فيربحون راحتهم من عناء السياقة ويوفرون ثمن البنزين ويتجاذبون أطراف الحديث في الطريق حول الكرة والمسلسل التركي وتنازلات عباس وعنتريات أردوقان الفارغة ووعود أوباما بتحرير فلسطين والمقاومة الافتراضية التي يقوم بها موسميا حزب الله وحماس والجبهة الشعبية أو يناقشون وضع العمال المصريين  المسجونين في السعودية الذين بلغ عددهم تقريبا  12 ألف وهو عدد يساوي أو يفوق حسب بعض الإحصائيات عدد السجناء الفلسطينيين في إسرائيل أو يجيبون على سؤالي ونكستي وهزيمتي وحيرتي وانكساري: هل نحرّر السجناء المصريين في السعودية أولا أو الفلسطينيين في إسرائيل أولا؟ وهل نلجأ في تحريرهم إلى الجامعة العربية أم مجلس الأمن أم المؤتمر الإسلامي أم المقاومة الموسمية؟

حملتْ زوجتي وولدت في الجزائر بنتا مثل القمر, سميتها عبير من عبير الجنة. دخلت زوجتي المستشفى في مدينة جامعة ولم يطلبوها في دفتر علاج ولا جواز سفر ولا بطاقة تعريف. سألوها عن اسمها فقط. ولّدها في ظروف طيبة طبيب مصري متعاون وكفء، اسمه أسامة، الله يرحم والديه. لم أدفع مليما واحدا في الدخول ولا في الخروج وهذه تُعد من مكاسب الاشتراكية التي أتمسك بها بعد ما بدأت تتخلى عن بعض منها -مع الأسف المر والشديد- الدولة الجزائرية واتبعت نصائح البنك الدولي مثل ما فعلت قبلها كل أخواتها الدويلات العربية التابعة المطيعة والمهذبة حيال مانحها "صندوق النقد الدولي"، دويلات قامعة ونافية لكل الحريات وكامتة لكل الأصوات ومانعة لكل التجمعات ومحبطِة لكل تطلعات الشعوب العربية وآمالها وطموحاتها. شعوب كريمة في سخائها وعطائها وتمسكنها واستقالتها وتسليمها السلطة لمدة 14 قرن إلى حكام الظلمة مع احتفاظها بالألقاب الرنانة الفارغة كالشعب العظيم  والشعب الكريم و"نموت نموت ويحيا الوطن". وإذا مات المواطن فبمن ولِمَن سيحيا الوطن يا ترى؟

تمت دعوتي مرة إلى مديرية الأمن ببسكرة  لاستخراج بطاقة الرعايا الأجانب لزوجتي الوافدة الجديدة فاحتطت للمناسبة وحملت معي كل الأوراق اللازمة، قدمتها للموظف فتمعّن فيها جيدا ثم قال لي: ملفك تنقصه ورقة مهمة. قلت: ما هي؟ قال: شهادة معرّفة الإمضاء تشهد فيها أنك تطعم وتسكّن زوجتك معك. قلتُ متعجّبا: وهل يعقل أن تأكل زوجتي عندي ثم تذهب تبيت عند الجيران؟ أجابني بغلظة وحزم: نحن نطبق القانون. كتبتُ الشهادة الغريبة وذهبت إلى البلدية طالبا التعريف بالإمضاء فضحكوا عليّ, لكنهم ختموا عليها بسبعة أختام فحملتها إلى المركز ورجعت بزوجتي أطعمها وأسكّنها بشهادة ضابط أمن جزائري (غبيٌّ ثانٍ).

كان أهل مدينة جامعة كُرَماء معنا وأذكر منهم خاصة مدير الدائرة الحزبية، سليمان أوبيرة، الذي كان يدعونا لوجه الله كل أسبوع إلى وليمة عربية فاخرة في منزله دون أن ينتظر منا جزاء ولا شكورا. بعد عودتي بسنوات سمعت أنه أصبح نائبا في مجلس النواب وسمعت أيضا أن  مصباحا كهربائيا انفجر في وجهه صدفة في بهو المجلس ففقد بصره ومات بعد سنة تقريبا. رحمة الله عليه وجازاه الله خيرا على كرمه الحاتمي الجزائري ويا ليت مسؤولينا يفعلون مثله مع ضيوفنا الأساتذة الأجانب.

كنت بين جيراني الأساتذة السوافَى (نسبة إلى مدينة واد سوف) كالسمكة في الماء وصدّقت بالفعل أننا شعب واحد, أعني السوافى والنفاوزة (نسبة إلى نفزاوة). لهجتنا واحدة وتقاليدنا مشتركة وتمورنا متشابهة كلون قشرتنا.

كان زمنُ بن جديد زمنَ وفرة وأمن وأمان. كنا نشتري السكر بالشكارة وبسكويت الڤوفرات بالكرتون. كانت البقول رخيصة والخضر والفواكه متوفرة في السوق والسمك المثلج المستورد معروضا بأثمان بخسة في المغازة الكبرى (  Les galeries). أما "الموز بالصندوق" فلم يتوفر إلا مرة واحدة في الثماني سنوات التي قضيتها في الجزائر وكانت "شبعة موزية" فريدة من نوعها. وزّعوه علينا في المدرسة حسب الاختصاص وما دمت من أساتذة العلوم فهَم أقرب للموز من أساتذة الرياضيات وقد كانت حصتي أكبر حصة. أما اليوم في تونس 2010, فلا أقدر ماديا إلا على شراء 5 موزات كل أسبوع على عدد أفراد العائلة وموزة واحدة في الأسبوع خير من تخمة واحدة في ثمان سنوات.

مدينة المرّارة مدينة صغيرة تقع قرب مدينة جامعة, تنازع أهلها مرة حول تقسيم الأراضي بين العروش والقبائل ولم يكن يوجد لدى البلدية ولا الولاية ولا الرئاسة أي مثال هندسي ينظم عملية التقسيم. فكّر المجلس البلدي المحلي في حل النزاع ودون المرور بالتسلسل الإداري الجزائري, راسل مباشرة الدولة الفرنسية, المستعمر القديم, طالبا مثالا هندسيا يحدد ملكية كل قبيلة وحدودها. أمدّته السلطة الفرنسية مشكورة بخريطة مفصلة لكل الأراضي ببلدية المرّارة. أصدر الوالي الجزائري قرارا بحل المجلس البلدي بمدينة المرارة عقابا له على الاستقواء والاستنجاد بالأجنبي لحل نزاع وطني.

نصّبوا مجلسا بلديا جديدا بالمرّارة وجاء الرئيس بن جديد لزيارة المرّارة لتأكيد حضور الدولة الجزائرية. اعترضتْ المجلس البلدي الجديد معضلة جديدة, ألا وهي و جود آليات ضخمة وعالية جنب الطريق الذي سيمر منه رَكْبُ الرئيس الوطني وهي بقايا مهمَلة متبقية من مشروع قديم فشل في التنقيب على المياه. تتطلب إزالتها ميزانية ضخمة قد ترهق المجلس الفتي لكن إمكانية مشاهدتها من قِبل الرئيس عند مروره ترهق المجلس البلدي الجديد وقد تعرّضه إلى مساءلة قانونية. فكّر المجلس الموقر مليا في حل وطني ولم يلجأ هذه المرة إلى المستعمر الفرنسي واستنبط حلا وطنيا خالصا يتمثل في ردم كل الآليات التي تقدر بالملايين تحت الرمال حتى لا يراها الرئيس ومرّ موكب الرئيس بسلام ودُفِنت أموال الشعب تحت الرمال ولا زالت إلى الآن رائحة البيروقراطية النتنة تنبعث من مقبرة المشاريع الكبرى وتزكم الأنوف الوطنية.

يوم 16 جوان 1988, ولِد ابني الثاني في مدينة جامعة في المستشفى المحلي بجامعة في ظروف طبية طيبة ومجانية مثل ولادة ابنتي الأولى عبير. ذهبت إلى مقر البلدية لتسجيله وقد اخترنا له, أنا وأمه, اسم "نادر". سألني الكاتب عن الاسم فقلت "نادر". أجابني: هذا الاسم ليس موجودا في كتاب الأسماء وهو ليس اسمًا عربيا فلن نسجله في دفاترنا فمن الأفضل لك أن تختارَ له اسما آخرا وبسرعة. لم أصدق ما سمعت إلا بعد أن رمى لي بكتاب الأسماء. قرأته وتفحصته فلم أجد فيه اسم "نادر" ولكنني وجدتُ فيه أسماء عربية وأخرى تركية أو فارسية مثل "بهجة" و"شوكة" و"دنيا زاد" و"شهرزاد". حاولتُ إقناع موظف الحالة المدنية بالبلدية بأنني لست جزائريا ومن حقي اختيار الاسم حسب القانون التونسي وليس حسب كتابكم غير المنزل. أجابني بلغة البيروقراطي الذي ليس له أدنى استعداد للتفاهم: أنت لست أجنبيا, أنت عربي. قلت له مستغربا: كيف لا نجد في كتابكم  اسم "نادر" وهي كلمة عربية مشتقة من فعل ندر ونقول ندر الشيء أيّ قل وجوده. ردّ عليّ مغتاظا: أتريد أن تسجل ابنك أو تتركه في المستشفى دون اسم. استعذت من الشيطان الرجيم ونظرت من النافذة الشفافة وكان المطر ينزل في الصيف فأوحى الطقس إلى ذهني اسم "غيث" فقال لي: موجود في الكتاب. خرجتُ فرحا بابني, نادرا كان أم غيثا وبعد أربعة عشر سنة ولِد ابني الثالث وكنت في تونس فأسميته "نادر" وثأرت لنفسي من ذلك العبد المأمور كاتب البلدية الجزائري المغمور أو الموظف الجزائري  (غبيٌّ ثالثٌ في قصتنا).

عند نهاية عقدي في 88 ذهبت إلى فرنسا واشتريت سيارة مستعملة. رجعت إلى مدينة جامعة وجمعت أمتعتي وغادرت الجزائر نهائيا متأسفا على العشرة الطيبة والأخلاق الكريمة لأهل الجنوب الجزائري. وفي صباح يوم 15 جويلية 1988 انطلقت عائدا إلى تونس بسيارتين, المشتركة والجديدة. تعطلت كثيرا في ديوانة الجزائر لتعقد الإجراءات البيروقراطية ووصلت إلى الديوانة التونسية حوالي العاشرة ليلا. قالوا لي: لن تدخل تونس اليوم لأن التصريح بجلب سيارتين يتطلب موافقة رئيس المركز وهو غير موجود الآن في العمل وعليك -إن شئت-انتظاره حتى صباح الغد لتسوية وضعيتك. قلت: وإذا أدخلت سيارة واحدة فقط؟ قالوا: في هذه الحالة نصرح لك بالدخول فورا. مهما رويت لكم لن تصدقوا حرق الأعصاب والمعاناة الرهيبة والمعاملة السيئة والإهانات غير المباشرة والتجاهل والاحتقار الذي نتعرض له في الحدود من قِبل الشرطة والديوانة الجزائرية, والله الإسرائيليون أرحم منهم حسب ما سمعت عنهم من عمر، زميلي الفلسطيني المذكور أعلاه. أما الشرطة والديوانة التونسية فأقل حدة وألطف معاملة وهما موجودتان في مدينة حزوة حيث تتوفر كل المرافق الضرورية. سلّمت مفاتيح السيارة المستهلكة وأوراقها إلى الديواني التونسي وقلت له بالحرف الواحد: إن رجعت إليك أو رأيت وجهي بعد اليوم فافعل بي ما شئت. وهذا ما وقع فعلا وبعد شهور من عودتي واستقراري بحمام الشط بتونس, هاتفني صديقي (وزميلي في الجزائر سابقا يوسف جلال والمستقر وقتها بتوزر وهو شريكي في السيارة الاشتراكية) طالبا توكيلا في السيارة حتى ينتزعها من أعوان الديوانة  الذين أصبحوا يستعملونها دون وجه حق وهي تُعتبر ملكا خاصا محجوزا. أرسلت له ما طلب فانتزعها من أعوان الديوانة وباعها إلى عم محمد التونسي بائع ألفطائر المقلية بمدينة جامعة بالجزائر ولم يقبض ثمنها حتى اليوم بعد 22 سنة. أرجوكم, لا تشكّوا لحظة في ذمّة عم محمد فهو أشرف من الشرف والغائب حجته معه ويكفينا ثمنا, الفطائر والولائم التي أكلناها في حانوته و منزله. ثمن السيارة 400 ألف جزائرية يقابلها في السوق السوداء في ذلك الوقت 100 دينار تونسي.

 

كنتُ في الثمانينات، عندما أعود من الجزائر في عطلة الصيف إلى مسقط رأسي قرية "جمنة" بالجنوب الغربي التونسي, كان يصلني راتبي 700 دينار تونسي في الشهر وكنت أقول مستمتعا و ساخرا: هل جُنّت الدولة الجزائرية حتى تمنحني راتبا أكثر من راتب عضو في مجلس النواب التونسي وأنا أحتسي الشاي الأحمر فوق كثبان الرمال الصحراوية (عِرْڤْ كُشّادة بجمنة الحَمَادَة).

قضيت في الجزائر ثمان سنوات وفّرتُ فيهم مالا أقمت بواسطته منزلا متواضعا بحمام الشط حيث أقطن منذ عشرين سنة.

عشت بين أشقائي وزملائي الجزائريين كل هذه المدة معززا مدللا مكرما مهابا وأعطيتهم من جهدي كل ما أستطيع ومثلت بلدي أحسن من السفراء وما زالت إلى الآن تربطني ببعضهم علاقات تزاور وود واحترام متبادل والسلام على من قرأني وصبر عليّ إلى الآخر.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire