فلسفة حول "ما يقدر على فِعله
الحاسوب": ما يقدر على فِعله الحاسوب، يفعله منذ زمان البشرْ والحيوانُ
والنباتُ والحَجَرْ والاثنان يشتغلان على
أربع وظائف، وهي: تَلَقِّي
المعلومات، خَزْنُها، مُعالَجَتُها وبَثِّها
(Recevoir,
stoker, traiter et émettre les informations).
الحاسوب يَتَلَقَّي المعلومات،
يخزِنُها، يُعالِجها ويبثها، كذلك تفعل كل الكائنات الحية (البروتينات، ARN، ADN، الخلية،
العضو، الفصيلة)، وكل الكائنات غير
الحية (الذرّة، الكريستال الصخري، الجبل، الكوكب، المَجَرّة)، وكل المجتمعات
البشرية (الأمة، المدينة، القرية، القبيلة، العائلة).
هذا الشيء العجيب الذي اخترعناه (الحاسوب)
يتميّز بصفات كونية ويقدر على تقليد سلوك أشياء العالَم، كل الأشياء الموجودة
قبله.
هذا الشيء العجيب أحدث ثورات متعددة، نذكر البعضَ منها:
-
ثورةٌ ملموسةٌ في
المهن: قديمًا كنّا نتعرّف على المهنة من شكل صاحبها (النجار يحمل منشارًا
والحدّاد مِطرقةً)، أما اليوم فترى جل العاملين منكبّين على حواسبهم فلا تستطيعُ التمييزَ بين كهربائي وفيلسوف.
جِلسةٌ كونيةٌ بامتيازٍ.
-
ثورةٌ ثقافيةٌ على
مستوى اللغة: بين طَبعةٍ وطَبعةٍ، يغتني المنجد الفرنسي الصادر عن "الأكاديمية الفرنسية" بـحوالي ثلاثين ألف
كلمة جديدة، جلها علمية وتقنية.
-
ثورةٌ في التعليم:
سبعون في المائة من المعارف التي يدرّسها الأستاذ الجامعي اليوم هي معارفٌ جديدةٌ
لم يدرُسها في الجامعة.
-
ثورةٌ في المخ:
تخلّص المخ من الأنشطة الرتيبة والمكرّرة كالحفظ والترتيب واسترجاع المعلومات
ومراجعة الأخطاء والتصفيح (Pagination)، وتَفَرَّغَ للخلق والإبداع (externalisation de la mémoire).
-
لماذا لقي العالَم الافتراضي كل هذا النجاح اليوم ؟ لأن الإنسان هو كائن
افتراضي بطبيعته، فمنذ نشأته وهو يستعمل اللغة والرياضيات وهما وسيلتان افتراضيتان.
-
بعد اعتماد كل الناس على تخزين ذاكرتهم في الحاسوب، أصبح الحاسوب رأسنا
الثانية التي لا غنى عنها، رأسا معدنية نحملها بين يدَينا لا على أكتافنا !
-
قبل اكتشاف الكتابة، كانت الوظائف البشرية الأربع
يحملها المخ (يستقبل ويخزّن ويعالج ثم يبث). بعدها تغير الحامل ونشأ مع الكتابة،
الدين والقانون والدولة.
-
بعد اكتشاف الكتابة، جاء الاكتشاف العبقري الثاني وهو اكتشاف العُملة
(العُملة تحمل أرقاما وحروفًا) فقضت على تبادل السلع وكانت ثورة في التجارة.
-
بعد اكتشاف الكتابة، جاء الاكتشاف العبقري الثالث وهو ظهور الديانات
الكتابية التوحيدية الأربعة تباعًا: اليهودية والمسيحية والإسلامية والبهائية.
-
القدرات الذهنية ثلاث: الذاكرة والخيال والعقل
(Trois
facultés intellectuelles:
la mémoire, l`imagination et la raison).
خسرنا واحدة، الذاكرة. لم نخسرها
بل أخرجناها من مكانها الطبيعي أي المخ وصنعنا لها بيتًا أضمن وأوسع وسمَّيناه
الحاسوب.
-
كنا نعتقد أن الملكات الثلاث الأساسية
لعملية الإدراك البشري كلها داخلية: الذاكرة والخيال والعقل. اليوم انتقلت ذاكرتنا
إلى الحاسوب.
-
تقدُّمنا في نقل الملكات الأساسية
لعملية الإدراك البشري من المخ إلى الحاسوب (الذاكرة والخيال والعقل)، يخيفني
فقدانَ إنسانيتنا.
-
كثرة اعتمادنا في التفكير على الحاسوب
جعلتني أخاف من أن يأتي يومٌ لا نقدر فيه على التفكير دونه والأخطر أن يفكر
مكاننا. (Bernard
Stiegler)
-
من فرط ما شرّكنا الحاسوب في التفكير
أخاف أن يأتي يومٌ لا يشرّكنا هو في التفكير (اليوم أصبح الحاسوب عضوا في مجلس
إدارة بعض الشركات الأمريكية).
-
أكبر ثلاث ثورات معرفية مرت بها
البشرية في تاريخها (كتابة، طباعة، حاسوب) أفقدتنا تقريبا الذاكرة (mémoire)، لكنها
أربحتنا الكثير. مثلما خسرنا ساقَين للحمل (portage)
عندما انتصبنا واقفين لكننا ربحنا يدين للإمساك (préhension).
فقدت يدا الإنسان البدائي القدرة على الحمل وكسبتا القدرة على المسك وفقد فمه
القدرة على المسك وكسب القدرة على الكلام.
-
ما الفرق بين الجالس أمام شاشة
التلفزة والجالس أمام شاشة الحاسوب ؟ الأول في وضعية راكب السيارة والثاني في
وضعية سائق السيارة.
تعليق المؤلف محمد كشكار:
ما الفرقُ بين بين التلفزة والفيسبوك ؟
أ. في التلفزة يوجدُ باثٌّ واحدٌ
فاعلٌ وملايين المتلقّين من المفعولِ بهم غصبًا عنهم. في تونس المحروسة، عادة ما
يكون الفاعلُ منشّطًا مأجورًا جاهلاً تافهًا. أما المتلقون فقد يكونون من
المواطنين العاديين أو أنصاف المثقفين أو حتى المثقفين المعجَبين الذين هم في
التفاهة راغبون وعليها مدمنون وللرداءة مستسيغون أو الذين على أمرهم مغلوبون ولأذواقِ زوجاتهم خاضعون ولهن منبطحون وللنكدِ
العائلي متجنّبون.
المنشطُ الفردُ هو شخصٌ مفروضٌ
علينا كَرْهًا من قِبلِ دوائر الفساد المالي المتنفذة الأليفة والسائبة، هو ضيفٌ
متطفلٌ ثقيلٌ، ولكنك لا تستطيعُ مخاطبته فهو لا يرى ولا يسمع ولا يستحي،
و"اللّزادْ على ما بِيًّ" أنك تخسر عليه طاقةً كهربائيةً لِيتطاول على
ذوقك ويتجاسر على فكرك وفي عُقرِ دارك ورغمًا عنكَ.
ب. في الفيسبوك، الوضعُ يختلفُ تمامًا، ملايين من
الباثّين الفاعلين ومثلهم أو أكثر من المتلقّين الفاعلين أيضًا. خِطابٌ يناطِحُ
خطابًا وليسَ كبشًا ينطَحُ آخرَ، وبكل حريةٍ يتفاعل الخطابان وللحقيقة النسبية قد
يصلان. لا رئيسًا ولا مرؤوسًا. لا دكتورْ ولا طرطورْ، سلاحك منطقك وليست مرتبتك
العلمية مهما عظُمَتْ وعلا شأنها، ولا فرق بين فيسبوكي وفيسبوكي إلا بقوة الحجة
والدليل والبُرهانْ، وفي الشبكة العنكبوتية يُكرم العاقلُ أما الجاهل فلن تستره
شهادته إذا كان عريانْ في سوق المعرفة والبيانْ.
مساحةٌ رحبةٌ فسيحةٌ كقلوبِ العُشّاقِ، وحدها لا غيرها
تتوفرُ فيها حرية النشر والتعبير، حريةٌ واقعيةٌ وليست خياليةً، منفعتها حِينية
ومجانية، تُلغِي المسافات وتقرّب القلوب وتنوّر العقول. تؤسسُ، بِحولِ الله والعلم
والتكنولوجيا، لديمقراطيةٍ مستقبليةٍ واعدةٍ مباشرةٍ أفقيةٍ تشاركيةٍ عالميةٍ،
سنربحُ منها الخيرِ الكثيرَ الكثير، لو أجَدْنا وطوّرْنا استعمالَها ولو ذلَّلْنا
عوائقَها وصبرنا على إيذاءاتها.
فضاءٌ (YouTube) تعانقُ فيه
يوميًّا، صباحًا مساءْ ومتى تشاءْ، فلاسفة وعُقلاءْ، من أمثال ميشيل سارّ وطارق
رمضان وميشيل أونفري وألبير جاكار وهنري أتلان وعبد الله العروي وهشام جعيط وعبد
المجيد الشرفي ويوسف الصديق وأبو يعرب المرزوقي ومحمد أركون ومحمد الغزالي، عقلاءْ
يساعدون المتقاعد على صومِ رمضان بعِفةٍ وتقوى، شرفاءُ يُجنِّبونك رؤية الحمقي من
رجال الإعلام والسياسة.
والله أعجَبُ شديد العجبِ من مثقفٍ يُنصِتُ برغبته
لِمذيعٍ مُرائي دسيسٍ، أو يشاهد منشّطا بائسًا تعيسًا، أو يقرأ لِزعيمٍ أو رئيسٍ،
وله في اليوتوب الفكري أفضل جليسٍ وخير وَنِيسٍ ؟
خاتمة: وعدٌ من الأرضِ وليس من السماءْ من مؤمنٍ
بالإنسان والأنبياءْ، سنمكثُ في الأرضِ وتذهبون كالزبدِ جُفاءْ أيها السياسيون
الأغبياءْ.