jeudi 27 décembre 2018

كيفَ استغلَّ الرأسماليونَ الجشعونَ المتربصونَ كارثةَ إعصارِ كاترينا وقَضَوا على قِطاعِ التعليمِ العموميِّ في مدينةٍ أمريكيةٍ؟ لوموند ديبلوماتيك، ترجمة مواطن العالَم



نوفال-أورليان 
(Nouvelle-Orléans
 أكبر مدينة بولاية لويزيانا في جنوب الولايات المتحدة على شاطئ الخليج المكسيكي، أفقرُ مدينةٍ أمريكةٍ، أغلبُ سكانِها من السودِ الفقراءِ. يو م 29 أوت 2005، أصابَها إعصارُ كاترينا فحطّمَها تحطيمًا كلّيًّا، لم ينجُ منها إلا حيُّ السياحِ وسطَ المدينةِ. أعادَ بناءَها القطاعُ الخاص، لكنه بناها من أجل تحقيقِ طموحاتِه على حسابِ سكانِها البسطاء.
عصابة الليبراليين الجشعين لم تنتظر دفن الموتى، بدأت تشتغل وأعلنتها حربًا ضروسًا ضد الفقراء: طَرْدُ جميع المدرسين العموميين (7500)، خوصصة التعليم، إغلاق المستشفى العمومي، تعزيز الجهاز الأمني، مضاعفة معاليم الكراء، هَدْمُ المساكن الشعبية وتشييد مكانها عمارات باهظة الثمن ونُزُلٍ فاخرةٍ، كانت مأدبةً دسمةً ولقمةً لذيذةً سائغةً في أفواهِ المستثمرينَ المستكرشينَ ومعها "دِيسِيرْ" متمثل في التخفيض في الضرائب. "جاءت عاصفة القرن لتخلق فرصة القرن. لن نتركها تمر"، ناشدَ حاكم ولاية لويزيانا حاثًّا الباعثين العقاريين على التسريعِ في الإجهازِ على الماضي والإنجازِ للمستقبلِ، ونبّههم أيضًا صحافيٌّ في نيورك تايمز كاتبًا: "لو سمحنا للفقراء بالعودة إلى مساكنهم القديمة، سوف تَخرَبُ مدينتُكم و"تتريّفُ" وتتهلهل أكثر من ذي قبل"! أصحاب الفلل الفاخرة حصلوا على تعويضات سخية، أما سكان الأحياء الشعبية فلم يفوزوا إلا بالفتات. بعد مرور 13 سنة على تاريخ الكارثة، مئة ألف من سكان المدينة الفقراء لم يرجعوا بعدُ بسبب غلاء السكن، على 450 ألف عدد السكان قبل الإعصار. من إنجازات عبقرية الخواص في المدينة الجديدة: سنة 2017، زارها 18 مليون سائح. إنشاء قاعات زينة للكلاب، دوش للكلب الواحد بـ50 دولار (قرابة 150د).

قَبْرُ التعليم العمومي: خلال أسابيع الفوضى التي سادت بعد مرور "المنقِذة" كاترينا، رئيس بلدية المدينة (اليوم يقبع في السجن بتهمة الارتشاء) وحاكمة لويزيانا جعلا من خوصصة التعليم في المدينة المنكوبة قضيتهم المشتركة: في آخر سبتمبر 2005، لجنة التعليم عينت على رأسها "قاتل-مرتزق" (Cost-killerآتٍ من نيورك، عقيد يشتغل مستشارًا في شركة استثمار خاصة، وهي التي فازت بالمناقصة وقدرها 50 مليون دينار من أجل مساعدة اللجنة على إعادة تنظيم التعليم. بدأ بتسريح جميع المدرسين (7500، أغلبيتهم الساحقة سود). قدّم هؤلاء قضية في الطرد التعسفي، في البداية ربحوها وفي النهاية خسروها سنة 2014 أمام المحكمة العليا بلويزيانا بتعلة كارثة طبيعية ونقص في الأموال العامة. عشرة أيام بعد صدور الحكم، خصصت وزارة التربية الفدرالية مبلغ 300 مليار كمساعدة لإعادة إدماج المدرسين. من سخرية القدر، لقد ذهبت هذه الإعانة في جيوب مَن شَرَّدَ المدرسين وطَرَدَهم شر طردةٍ!
أغلبية المدارس العمومية حُوِّلت إلى نظام المدارس المستقلة (charter-schools) أو المدارس المتعاقدة 
(écoles sous contrat
 يختلط فيها الخاص بالعام:  كل مدرسة يديرُها مدير-رئيس مؤسسة لكن الدخول إليها يبقى مجانيًّا بالنسبة للتلميذ، المفروض أن القطاع الخاص يديرُ المدرسة العمومية بمقابل محترم تدفعه الدولة دون أن يجني المستثمر أرباحًا (قرابة ما يقابل 25 ألف د في السنة على كل تلميذ).
كيف تُدار هذه المدارس الهجينة؟
لا تُسأل عما تفعل ولا كيف تفعل، ما دامت تحترم الأهداف التربوية العامة للبلاد. تنتدب المدرسين وتدفع لهم أجورًا هزيلة مقارنة بما تجنيه هي من الدولة: ألف دولار في الشهر لكل مدرس. تطرد منهم مَن تشاء متى تشاء.

حسب شهادة موظفة اجتماعية تعمل في إحدى المدارس كمستشارة قانونية على ذمة الأولياء الذين لهم أولاد يعانون من عدم التكيف مع المحيط المدرسي.
ماذا قالت حول إدارة هذا النوع الهجين من المدارس؟
قالت: "انضباط حديدي: التلامذة صف صف كالدحاج. في بعض المدارس ذات الغالبية السوداء، حُذِفت فيها حتى فترة الراحة. يُعاقَب التلميذ كلما استند لحائط، أو وضع رأسه على طاولة القسم أو ارتدى ميدعة مخالفة لمواصفات القانون الداخلي للمدرسة (م. ع.: تذكرتُ حادثة وقعت لي أثناء مسيرتي الدراسية سنة 1965 في إعدادية سيدي مرزوڤ بڤابس المدينة: عوقِبتُ بثمان ساعات حجز كل أسبوع وحُرِمتُ من الخروج من المبيت خمسة آحاد متتالية بسبب عجزي المادي عن توفير ميدعة ألبسها داخل الإعدادية)، فَرْضُ الصمت الكامل في المطعم أثناء الأكل وفي المرقد أثناء القيلولة (إجراءٌ حسب رأيها قد يُحدِثُ خللا في نموِّ العواطف الاجتماعية لدى تلاميذ 4-8 سنوات). مدارس لا تعلم الموسيقي، عكس ما كان موجودًا قبل مجيئ كاترينا، خالُ أمي كان موسيقيًّا بارعًا يعزف على الكلارينات وابني لم يلمس آلة موسيقية في حياته". أنهتْ شهادتها قائلة: "حالةُ هذه المدارس تُدمِي العينَ والقلبَ مما جعلني أفكر في مغادرة هذه المدينة، مسقط رأسي".

خاتمة المترجم مواطن العالَم: يبدو لي أن قطاعَنا التونسيَّ الخاصَّ، الذي لا يقلُّ جَشَعًا عن زميلِه الأمريكيِّ، بدأ يتأبّطُ شرًّا ويتربّصُ بتعليمِنا العموميِّ الابتدائيِّ والإعداديِّ والثانويِّ والعالي (قطاعٌ يستثمر اليوم في حوالي 10 % من العدد الجملي للتلاميذ)، مستغلا نقاطَ ضعفِ القطاع العمومي الحالية المتمثلةِ في تَهَرُّئٍ في البنى التحتية، انخفاضِ في الميزانية، تكلُّسٍ في البرامجٍ المدرسيةِ، نقصٍ في تكوين المدرّسين، تَدَنٍّ في مستوى وعيهم برسالتهم التربوية، وتواتُرٍ في نَسَقِ الإضرابات بغض النظر عن شرعيتها. المفارقة الكبرى تكمن في سلوك مدرِّسي التعليم العمومي أنفسِهم، وخاصة مقاولي الساعاتِ الخصوصيةِ الذين يهدمون بيوتَهم بأيديهم لأنهم هم، ولا أحدَ غيرهم، هم مخالِبُ الخوصصةِ، معاولُها الحادة وطابورها الخامس، عن وعيٍ أو دون وعيٍ، هم أولُ مَن زعزعَ ثقة الأولياء في المدرسة العمومية وقد تمَّ ذلك عن طريق خوصصَةِ ساعات الدروس المجانيةِ (مكانها في المؤسسة العمومية) وتحويلها إلى  ساعات الدروس الخصوصية مدفوعة الثمن (مكانها في الڤاراجات والشقق الخاصة)، حَدَثَ كل هذا الخور إرضاءً لجشعهم المفرِطِ وانصياعًا لغرائزِهم الرّبحِية الأنانيةِ.
علينا بتدارُكِ تعليمِنا العموميِّ وحمايتِه ضدّ أطماعِ القطاعِ الخاصِّ قبل أن يُعينَه علينا إعصارُ عِلِّيسَة!
يبدو أن الاستثمارَ في قطاعِ التعليمِ والتكوينِ المِهَنيِّ بالنسبة للرأسماليينَ الجشعينَ، أصبحَ أفضلَ ألف مرة من الاستثمارِ في البترولِ: البترولُ مَعِينٌ محدودٌ وسوف يَجِفُّ عاجلاً أو آجلاً، لكن التلميذَ سيتكاثرُ ويتجدّدُ فالتعليمُ إذن مَعِينٌ لن ينضبَ، لا عاجلاً ولا آجلاً. 

Référence: Le Monde diplomatique, décembre 2018, Extrait de l`article «Stratégie du choc à la Nouvelle-Orléans dans le sillage de l`ouragan Katrina. Comment tuer une ville », par Olivier Cyran, journaliste envoyé spécial, pp. 4 & 5

إمضاء المترجم، مواطن العالَم، تطوّعي-تضامني-اجتماعي، نسبة إلى تجربة في الاقتصاد الاجتماعي-التضامني، تجربة لا شرقية ولا غربية، تجربة أصيلة نوعية ومبتكرة في جمنة مسقط رأسي:
الناقدُ لا يُطالَبُ ببديلٍ. البديلُ ليس جاهزًا. البديلُ يُصنَعُ ولا يُهدَى.  وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي. كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العمومية" فوكو
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 28 ديسمبر 2018.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire