تجنُّبًا للإطالة، سأكتفي
بإثارة أربعةِ أنواعٍ معبّرةٍ عن "الغزوِ الرأسمالي الغربيِّ
القِيميِّ":
1.
إتلافُ السلعِ الغذائيةِ من قِبلِ بعض الفلاحين المنتِجين
احتجاجًا على تدنّي سعرِها في السوق (الدڤلة في ڤبلي، الحليب في باجة، الطماطم
في سيدي بوزيد، والبرتقال
في نابل): قديمًا، كنتُ أشاهدُ هذه الظاهرة في تلفزات الغرب، أتعجّبُ من صنيعهم الهستيري
الإجرامي وأقول: لماذا لا يبيعونها بسعرٍ منخفِضٍ عوض رميِها في الطريقِ العام؟
انتقل إلينا هذا الفيروس الخطير ووصل إلى عُقرِ دارنا فأصبحنا مجرمين مثلهم. كنا
في جمنة، عندما تعترضُنا تمرةٌ في الطريق، ننتشلُها، نمسحُها ونأكلُها أو نبوسها
ونضعها في مأمنٍ من العفسِ والرفسِ. ماذا دهانا؟ أتبدّلنا وتبلّدنا إلى هذا الحدّ؟
أأكلتنا الأنانية والجشع ونزلنا من عَليائِنا إلى حضيضِهم؟
2.
الإسرافُ في استهلاك السكر
الأبيض المصنّع: يُحكى أن في فرنسا وقبل قرن كان الفرنسي الواحد يستهلك السكر
بمعدّل 500غ في العام، اليوم يستهلك 35 كلغ في العام. في تونس لا نملك أرشيفًا،
لكن أنا أعتبر نفسي أرشيفًا حيًّا ناطقًا، في جمنة الخمسينيات وأنا طفل، كنت لا
أعرف للسكر استعمالاً إلا في الشاي، والأطفال عندنا لا يشربون الشاي مع الكبار،
أذوق تقريبًا 5غ في عصيدة المولد مرة واحدة فقط في السنة، وكمية صغيرة مثلها في
الحلوى "الرڤيڤة" عندما يعود جارٌ عاملٌ مهاجرٌ من فرنسا، لم أكن أسمع
تمامًا بالحلويات ولا البسكويت. اليوم أصبحتُ ككل التونسيين أستهلكه كالماء في كل
غذاء. غزانا مرض السكري وأنا أحد ضحاياه (10 % من التونسيين أي ما يزيد عن مليون
تونسي مصاب مزمن).
3.
تغييرُ نظامِنا الغذائيِّ: كان نظامُنا الغذائيَّ من
أفضلِ الأنظمةِ الغذائيةِ في العالَمِ
(Le régime méditerranéen)،
نظامٌ يعتمدُ على البروتينات
النباتية (عدس، فول، لوبيا، جلبانة، إلخ.) أكثر من البروتينات الحيوانية (لحم،
سمك، حليب، بيض، دجاح، إلخ.). كنتُ وأنا طفلٌ، لا أستهلك اللحمَ إلا في العيد
الكبير أو عندما تمرض معزة في الحومة، نذبحها ونفرّقها مجانًا، أما الحليب فلا
أشربه إلا في "الشنِينَ من شكوة أمي" (لبن). في عائلتِنا لم نكنْ نستهلكُ
القهوةَ لا سوداءَ ولا بالحليبِ. اليوم، لا طبخ دون لحم. غزتنا أمراض الضغط والكوليسترول
(لا يوجد في النباتات) والقلب والشرايين. هلكنا الغربُ وهلكنا أنفسَنا. الله لا يُجازي
من كان سببًا!
4.
التخلي عن الفلاحة التقليدية البيولوجية والاستعمال
المكثف للأسمدة المصنعة (فوسفاط، أمّونياك، إلخ.): اكتشاف الأمّونياك (NH3)
في ألمانيا سنة 1909 مَثَّلَ في الغربِ ثورةً خضراءَ ، ثورةً ضاعفتْ الإنتاجَ
الفلاحيَّ العالميَّ، وحلّتْ مشكلةَ تلبيةِ حاجياتِ التكاثرِ الديمغرافيِّ
الغذائيةِ (في قرن واحد، القرن العشرين، ارتفع عدد سكان العالم من مليار ونصف إلى
ستة مليارات). في تونس لم نكن نعاني من نفس الأزمة، ورغم ذلك ورغم أنفنا انخرطنا
في دوّامتِهم، شجعونا على الزيادةِ في الإنتاجِ بتوظيفِ نفسِ الأساليبِ (استعمالُ
الأسمدةِ المصنعةِ) حتى نملأ سلاتَ طاولاتِهم بالبرتقال والدڤلة (Leurs corbeilles de dessert).
في جمنة الستينيات، كنا في جمنة نحن والنخل جارَين عاشقَين،
النخلة، وما أدراك ما النخلة، النخلة تُزيِّنُ
تراثَنا وتسكنُ وجدانَنا, مصدرُ رزقِنا وسعادتِنا, نسقيها بعرقِنا ونمدُّها
بالسمادِ العضويِّ فقط، لا نغشُّها ولا نسمِّمُها بالكيميائيات. نرعاها سنوات بحبٍّ
وحنانٍ حتى تُثمِرَ على مهلِها في الخريفِ الخامسِ "رطبًا جنيًّا"، نأكلُ
منه القليلَ، نبيعُ منه الكثيرَ، وما زادَ عن حاجتِنا نخزنُه في أوعيةٍ خزفيةٍ
لنستلُّ روحَه في لطفٍ وأدبٍ على مدى الفصولِ الثلاثةِ الباقيةِ.
خاتمة: "لَّا يُحِبُّ
اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ " (قرآن)، وأنا مظلومٌ مكلومْ، لذلك أقول على مَن صدّرَ لنا هذه القِيم المشوَّهةِ
والمشوِّهةِ، أقول عنه: كلبْ وستين كلبْ. السبّة هذه في الواقع ليست سبّة موجهة ضد
فئةٍ من البشر بعينها وإلا لعدلتُ عن التلفُّظِ بها، حاشا أن يصبحَ الإنسانُ
كلبًا. هو فقط تعبيرٌ مجازيٌّ عن غبنٍ عميقٍ من شدّةِ الإحساسِ بالظلمِ. زدْ على
ذلك، المتهمُ في هذه القضيّةِ كائنٌ زئبقيٌّ، كائنٌ خارجيٌّ مائة بالمائة وداخليٌّ
مائة بالمائة، وبين الخارجيِّ والداخليِّ يحدثُ تفاعلٌ اجتماعيٌّ متواصلٌ
ومستمرٌّ، وما تشويهُ قِيمنا التقليديةِ إلا انبثاقٌ غير مُدَبَّرٍ لكنه شيءٌ محتمَلٌ
ومنتظَرُ
(Une émergence ou un mektoub).
إمضاء مواطن العالَم، تطوّعي-تضامني-اجتماعي، نسبة إلى
تجربة في الاقتصاد الاجتماعي-التضامني، تجربة لا شرقية ولا غربية، تجربة أصيلة
نوعية ومبتكرة في جمنة مسقط رأسي:
الناقدُ لا يُطالَبُ ببديلٍ. البديلُ ليس جاهزًا.
البديلُ يُصنَعُ ولا يُهدَى. وعلى كل مقال سيء
نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي. كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ
العمومية" فوكو
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الخميس 27 ديسمبر 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire