lundi 10 décembre 2018

سَلعنةُ القِيمِ في الدولِ الغربيةِ: هل سَتقضِي على ما تَبَقّى من القيمِ؟ ترجمة مواطن العالَم



سأنتقي من الكتابِ خمسة أمثلة أتناول بها الإشكاليةَ وأؤثِّثُ بها الموضوعَ:
1.     تخزين النفايات النووية السويسرية في سويسرا:
اختارت الدولة مبدئيًّا مكانًا في قريةٍ كائنةٍ في وسط البلاد يسكنها 2000 بشر. سنة 1993، وقبل إجراء استفتاء حول هذا القرار، وجَّهَ باحثان في الاقتصاد السؤال التالي إلى كل فردٍ من سكان القرية: هل ستصوّت مع أو ضد الاختيار؟ 51% أجابوا بنعم. ثم أعادوا نفس السؤال بعدما وعدوهم جدلا بتخصيص تعويضٍ نقديٍّ سنويٍّ لكل مقيمٍ، فكانت النسبة كالآتي: نزلت إلى النصف أي 25% فقط. رفّعوا في المبلغ (8700 دولار في السنة، أي ما يفوق معدل الدخل السنوي لهؤلاء القرويين)، زادت النتيجة الثالثة قليلا بالمقارنة مع الثانية دون أن تبلغ الأولى. ماذا حدث إذن في هذه القرية؟ لماذا حُظِيَ التخزين دون مقابلٍ بالقبول أكثر من التخزين بمقابل؟ المفروض، حسب التحليل الاقتصادي، أن الإغراء المادي يُرفّع في نسبة القبول ولا يخفّض فيها. أشار العالمان إلى أن "تأثير الثمن" يُحبَط أحيانًا بسبب اعتبارات أخلاقية مثل التمسك بالمصلحة العامة والتقيّد بنواميس التحضّر.
2.     جمع التبرعات النقديّة في "يوم التبرع":
تجربة قام بها باحثان في الاقتصاد على مجموعة من الشباب التلامذة حول الإشكالية التالية: هل التحفيز المادي يمثل عاملا دافعًا للتلامذة لجمع تبرعات أكثر أم لا؟ 180 شاب، قسموهم إلى ثلاث مجموعات: الأولى حفّزوها بالتأكيد على نُبلِ المهمّةِ فقط، في الثانية أضافوا وعدًا بإعطائهم ما يساوي  1% من المبلغ الجملي الذي سيجمعونه دون المساسِ بالمبالغِ المجمّعةِ من التبرعِ، الثالثة  10%. النتيجة المفارِقة: المجموعة الأولى جمعت 55% أكثر من الثانية و9% أكثر من الثالثة. ما الموعظة الأخلاقية التي نستنتجها من هكذا تجربة؟ الباحثان استنتجا التالي: "من الأفضل دفعُ مقابلٍ مادِّيٍّ كبيرٍ أو عدم الدفع تمامًا". نحن لنا رأيٌ آخر: هذه التجربة أثبتت أيضًا أن المقابل المادي قد يُزيحٌ قيمة التطوع المجاني أو قد يقضي عليها تمامًا لو تواصلَ وتفشَّى وانتشرَ.
3.     إجبار الأولياء الأمريكان على دفع مقابل لدار الحضانة لو تأخروا قليلا في تسلم أبنائهم مساءً:
هذه الغرامة لم تفلح في القضاء على تأخر الأولياء بل على العكس ضاعفته: أصبح الأولياء لا يشعرون بعقدة الذنب عند التأخر ولا بتأنيب الضمير لكونهم يدفعون مقابلاً لدار الحضانة. الغريب في الأمر أن هذا السلوك الجديد المضاعف استمر بعد أن تخلت الإدارة عن هذه الغرامة غير الناجعة التي دامت شهرَين وأصبح من الصعب عليها الرجوع إلى الحالة ما قبل التعاملِ بِمقابلٍ.
4.     تحفيز محامين متطوعين من أجل إسداء خدمات استشارية قانونية مجانية للمتقاعدين المعوزين:
الجمعية الأمريكية للمتقاعدين طلبت من بعض المحامين هل يقبلوا بتقديم نصائح للمتقاعدين المعوزين مقابل مبلغ مالي زهيد (30 دولار)؟ رفضوا العرض. عدّلت الجمعية طلبها: هل تقبلوا بتقديم نصائح للمتقاعدين المعوزين مجانًا؟ قبلوا العرض المنقّح، أي أجابوا بالإحسانِ على طلبِ الإحسانِ.
5.     سلعنة قيمة التبرّع المجاني بالدم:
عالم اجتماع بريطاني (1970) فضّل نظام التبرع المجاني بالدم في بلاده على مثيله في أمريكا حيث نجد المجاني ومدفوع الثمن، والملاحَظ عمومًا أن نظام التبرع بالدم في بريطانيا أنظف وأفضل وأسلم من نظام أمريكا. هذا العالِم يرفض أخلاقيًّا سلعنة قيمة إعطاء الدم للمرضى المحتاجين ويصنّف هذا النوع من السلعنة في خانة الفساد دفاعًا عن الفقراء الذين عادةً ما يلتجئون اضطرارًا لبيع دمهم لمَن يدفع أكثر من الأغنياء، ويذهب أبعد من ذلك في تحليله ويقول أن هذه السلعنة تُضعِف الغيرية (L`altruisme) وتقلِّص من التضامن (La solidarité)
 وقد تقضي مستقبلاً على قيمة التبرع المجاني بالدم.

استنتاجات متفرّقة يطرحها المؤلف وغيره من المختصين:
-         هذه الأمثلة الخمسة المذكورة أعلاه تجسمُ كيف احتلت السلعنة مجال القيم وأزاحت القيم غير القابلة للسلعنة كالتطوع والتبرع وخدمة المصلحة العامة ونُبل الكرم وفعل الخير والصدقة والإحسان.
-          أستاذ اقتصاد بريطاني (1976) ومستشار (FMI) سابق فنّد الفرضية القائلة بأن قيمة الشيء تبقى هي نفسها سوى وفرناها عن طريق التبرع المجاني أو بمقابل مادي.
-         أستاذ اقتصاد ثانٍ مرموق أثبت بالتجربة أن الناس المحفَّزين ماديًّا يبذلون في أداء عمل خيري جهدًا أقل من أمثالهم المتطوعين مجانيًّا، واستشهد بالمثال  الرابع المذكور أعلاه والمتمثل في تحفيز محامين متطوعين من أجل إسداء خدمات استشارية قانونية مجانية للمتقاعدين المعوزين.
-         أستاذ ثالث يقول: "سلعنة الدم وسلعنة العلاقة الإنسانية بين المتبرّع السليم والمريض المستفيد قد تقضيان على الغيرية وتُضعِفان الإحساس بالانتماء إلى المجتمع".
-         لماذا لا نعتبر التبرعَ بالدم عملاً ككل الأعمال، عملاً يُجازَى عليه ماديًّا كل مَن قام به، عملاً يوفر ربحًا لصاحبه الفقير ولا يضرّ الأغنياء بل ينفعهم ولا يُفقِرُ أحدًا؟ أيهما أفضل أن تتبرع بدمك أو تتبرع بـ50 دولار لشراء الدم من سليمٍ فقيرٍ من أجل إنقاذِ حياةِ مريضٍ فقيرٍ؟ قيمةُ التبرّعِ بالدمِ قيمةٌ نادرةٌ في المجتمع، لو بالغنا في طلبها واستغلالها فقد نستهلك كل مخزون الخير المحدود في المجتمع: "كلما استعملنا شيئًا إلا ونقصَ"، لو انطلقنا من هذه الفرضية والتجأنا أكثر إلى سوق الدم وخفّفنا من الاستنجاد بالأخلاق فقد نساهم  فعليًّا في الحفاظ على ثروة وطنية ليست متوفرة كثيرا وهي التبرع المجاني.

خاتمة مواطن العالَم: بُشرَى، الحمد لله، في تونس ما زال التبرع بالدم مجانيًّا، لكن ربي يسترنا من القطاع الصحي الخاص الذي لا أخلاقَ له والذي ينتظر أول فرصة للانقضاض على دمِنا وسلعنتِه!

المصدر:
Ce que l`argent ne saurait acheter, Michael J. Sandel, Éd. du Seuil, 2014, 332 pages

إمضائي
أنا مواطنُ العالَمِ، مُتصالحٌ-مُختلفٌ مع حضارتي الأمازيغيّةِ-الإسلاميّةِ-العربيّةِ، مُتصالحٌ معها دومًا أنتروبولوجيًّا واجتماعيًّا وعاطفيًّا، وفي نفسِ الوقتِ مُختلفٌ معها دومًا إبستمولوجيًّا وفلسفيًّا وجدليًّا، لا أتباهى بها على الغيرِ ولا أقبلُ فيها ثلبًا من الغيرِ.
 "المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العمومية" فوكو
"الأساتذةُ لا يَفهَمونَ أن تلامذتَهم لا يَفهَمونَ" باشلار
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الثلاثاء 11 ديسمبر 2018.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire