قال لي:
-
كل أصدقائك اليساريين ماركسيين وأنت لست ماركسيًّا.
-
كل أصدقائك اليساريين يعشقون ماركس، أنجلس، لينين، ستالين
أو تروتسكي، ماو وڤيفارا، يقدّسونهم كلهم جملة وتفصيلا، ولا فرق بين ماركسي
وماركسي إلا بمدى تعصّبه للماركسية. أما أنتَ فتنقد كل هؤلاء الرموز، وفي المقابل أراكَ
تَكِنّ تقديرًا كبيرًا للمناضلة الاشتراكية، الناشطة السياسية، المحرِّضة في صفوف
العمال، المنظِّرة الماركسية الوحيدة المهمَّشة في الأدبيات الحزبية الماركسية، العظيمة
روزا لوكسنبورڤ (ولِدت سنة 1871 - اغتالها العسكريون سنة 1919، بسبب زعامتها للانتفاضة
السبارتاكية الألمانية)، تحترمُ شجاعتها، تتبنى نقدها للثورة الروسية في بداياتها
وفي قمة انتصاراتها، تؤيد وتثمّن وقوفها فكريا وسياسيا ضد لينين، وتحيّي فيها انحيازَها
للديمقراطية الشعبية القاعدية عوض المركزية الديمقراطية اللينينية.
-
جل أصدقائك اليساريين نشطاء سياسيين منضبطين محترفين،
وأنت مفكرٌ هاوٍ ناقدٌ حرٌّ.
-
جل أصدقائك اليساريين ينتمون إلى تنظيمات سرية أو علنية،
وأنت تغرّد خارج السرب.
-
جل أصدقائك اليساريين يسعون إلى تسلّمِ السلطة، وأنت
تسعى إلى "التغيير الذاتي-الاجتماعي للمفاهيم غير العلمية" (Changement conceptuel
progressif )، تطمح إلى تحويل هذه المفاهيم إلى مفاهيم علمية، ولا شأن لك البتة
بالسلطة لا من قريب ولا من بعيد، بل أنت تعتبر نفسَك معارضًا دائمًا للسلطة مهما
كانت هذه السلطة، يمينية أو يسارية، ثورية أو رجعية.
-
كل أصدقائك اليساريين يُقصونك من اجتماعاتهم السرية
والعلنية، ويَرَوْنَكَ يساريًّا مشبوهًا، يساريًّا غير ملتزم بالإيديولوجيا الماركسية
وغير منضبطٍ.
-
جل أصدقائك اليساريين يحقّرون من شأنك، وفي المقابل بعض أصدقائك
غير اليساريين يُعلون من شأنك.
-
جل أصدقائك اليساريين لا يهتمّون بما تكتب ولا ينصِتون لِما
تقول، وفي المقابل بعض أصدقائك غير اليساريين يقرؤون ما تكتب وينصِتون بانتباه لكل
ما تقول.
-
جل أصدقائك اليساريين حذرين سياسيا، وأنت درويشٌ سياسيا.
-
جل أصدقائك اليساريين كتومين متسترين، وأنت إذاعة
متنقلة.
-
كل أصدقائك اليساريين لا يهضمون النهضاويين عمومًا، وأنت
صديقٌ لعديد النهضاويين بمسقط رأسك جمنة، وبمحل سكناك حمام الشط.
-
جل أصدقائك اليساريين يميّزون بين الجلسات الخاصة (الجلسات
اليسارية الصافية) والجلسات العامة (الجلسات المفتوحة المختلطة)، وأنت ببلاهة، لا
تفرّقُ وتردد نفسَ الخطاب أمام الخاص والعام.
-
جل أصدقائك اليساريين النقابيين "يُكَنْبِنُونَ"
بذكاء كبير دون كسب كبير، وأنت كـ"الأطرش في الزفّة".
-
جل أصدقائك اليساريين ينقدون كل الناس وغالبًا ما
يستثنون أنفسهم، وأنت دائمًا تبدأ بنقد نفسك ثم تمر إلى غيرك.
-
جل أصدقائك اليساريين ينقدون خصومَهم السياسيين غير
اليساريين بعنفٍ لفظيٍّ شديدٍ (في تسعة وتسعين فاصل من وقتهم) ويفعلون في الواقع (في
صفر فاصل من وقتهم)، وأنت تنقد برفقٍ، لكن لا تفعل شيئا ولو صفر فاصل.
-
أنت تجلس على الربوة، ترى من الربوة، تناضل من الربوة و
تدّعي أنك تؤدي واجبا ضروريا، تكتفي بالنقد وتعتبره مؤسسة مستقلة بذاتها وكيانها، ولا
تتجرأ أبدًا على تقديم البدائل قائلا أن البدائلَ تُبنى ولا تُهدى. هم يناضلون وسط
النخبة البورجوازية الصغيرة المثقفة أو المتعلمة (مدرّسون وموظفون)، يزعمون أنهم
منحازون إلى مصلحة القاعدة البروليتارية التونسية المعادية عقائديا للماركسية، يدّعون
أنهم طليعة المجتمع، ويقدّمون بدائل جاهزة لكل مشكلات المجتمع مهما استعصت، مِثلهم
مِثل الذين يستهدفونهم بنقدهم، أعني بهم الإسلاميين الأرتدوكسيين المتطرّفين النصّيين
المتعصّبين الدوغمائيّين الديماغوجيّين التكفيريّين الإقصائيّين المدّعين امتلاك الحقيقة
المطلقة.
-
لكي لا أطيل عليك، أنتَ أصيل جمنة ولادةً وتربيةً، يَمّنت
أو يَسّرت ستبقى رغم أنفك يا وَلَدِي نتاجًا لتربيةٍ تقليديةٍ ريفيةٍ محافظةٍ، أما
هم فمكبَّلون فكريًّا، لكنهم متحرّرون سلوكيًّا من كل عُقدك الرجعية.
قلتُ
في نفسي:
مهمومٌ، أخوكمْ، مهمومْ، من اليمين مظلومْ ومن
اليسار مَكلومًا مَكلومْ، رغم أنني ما ضمرتُ يوما
لأصدقائي الماركسيين إلا الود والمحبة والنقد.
مَن
أنا إذن؟ أنا يساري رغم أنفي ورغم أنف الماركسيين ورغم أنف اليمينيين. مُفقّرٌ مَضطهَدٌ،
منحازٌ لنفسي وأقاربي وأصدقائي، عمالا كانوا أو مثقفين. معارضٌ سلميًّا للرأسمالية،
عالميةً كانت أو وطنيةً، معسكرةً أو سائلةً (المراقبة السائلة، زيجمونت باومان). يساريٌّ، لم أختر وجهتي ولم أصنع مصيري، يساريٌّ بالمنطق
والضرورة، يساري حتى النخاع لأنني ببساطة لا يمكن أن أكون يمينيا. يساريٌّ مؤمنٌ بالمواطنة
العالَمية دون تمييز ديني أو عرقي أو جنسي أو اجتماعي أو أيديولوجي، متعصّبٌ
للعدالة الاجتماعية، كافرٌ بديكتاتورية البروليتاريا في صيغتها اللينينية
والستالينية والماوية والكاسترية (تروتسكي لم يحكم، أتعاطف فكريًّا معه ومع أتباعِه)،
ومُعجبٌ بالتعليم الأسكندنافي والقوانين
الأسكندنافية والسلوكيات المتقشفة لوزراء البلدان الأسكندنافية. أنا أفقر من أفقر المثقفين
الماركسيين، أنا فقير، أبي وأمي كانا فقيرَين، وأخويَّ وأخواتي كذلك، وكل أصدقائي وزملائي المعلمين والأساتذة فقراء
معارضين مسحوقين رغم عدم انتمائهم إلى الطبقة البروليتارية، الطبقة الوحيدة
المقدسة عقائديًّا لدى النشطاء السياسيين الماركسيين، النشطاء المنتمين إلى طبقة
البورجوازية الصغيرة، فئة بورجوازية قال فيها ماركس ما لم يقله مالكٌ في الخمرِ.
إمضائي
على
كل خطابٍ يساريٍّ غير ماركسيٍّ ترونه سيئًا، رُدُّوا بخطابٍ ماركسيٍّ جيدٍ.
أنا مواطنُ العالَمِ، مواطنٌ مُتصالحٌ-مُختلفٌ
مع حضارتي الأمازيغيّةِ-الإسلاميّةِ-العربيّةِ، مُتصالحٌ معها دومًا
أنتروبولوجيًّا واجتماعيًّا وعاطفيًّا، وفي نفسِ الوقتِ مُختلفٌ معها دومًا
إبستمولوجيًّا وفلسفيًّا وجدليًّا، لا أتباهى بها على الغيرِ ولا أقبلُ فيها ثلبًا
من الغيرِ.
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العمومية"
فوكو
"الأساتذةُ
لا يَفهَمونَ أن تلامذتَهم لا يَفهَمونَ" باشلار
تاريخ
أول نشر على النت: حمام
الشط في 1 أوت 2012.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire