كل يوم أخرجُ السادسة صباحًا
إلى مقهى الشيحي بحمام الشط الغربية، آخذ قهوة دون سكر وأصعدُ الدرجَ إلى القاعةِ
العليا. أجدُها فارغةً إلا من حريفٍ زميلٍ واحدٍ. قاعةٌ هادئةٌ ساكنةٌ ومريحةٌ رغم
أنها غير نظيفةٍ. أختلي فيها بأمين معلوف أو ميشيل سارْ أو غيرهما. أستمتع بصحبة
أحدهما ساعة. أقلقُ فأنزلُ لدِفْءِ أصدقائي المتقاعدين الكسالى أمثالي. أتبادل
معهم الحديث في كل شيء وفي اللاشيء. العاشرة أغادر إلى الكتابة والنشر في الفيسبوك
أو الإبحار في اليوتوب مع يسمينة خضراء، كمال داوود أو ميشيل أونفري أو غيرهما.
حمام الشط، المدينةٌ الأقربُ إلى عقلي وفكري.
في جمنة لم تتوفرْ لي هذه
المتعة الفكرية الرائعة المجانية المذكورة أعلاه. يوم الخميس 2 نوفمبر، خرجتُ إلى
مقهى على بن جيلاني، وجدتُ فيها قرابة المائة عامل موسمي مهاجر من الوسط إلى
الجنوب، موسم جَنْيِ التمور الذي قد يدوم ثلاثة أشهر أو أكثر. قِيلَ لي أن العامل
الطفل (من 15 إلى 20 سنة) قد يكسب في اليوم الواحد أجرةً تساوي 40 دينارًا مقابل شُغليْن اثنين، واحدٌ يؤديه صباحًا في
الواحة والثاني مساءً في البناء. يا له من محظوظٍ هذا العامل، أنا عملتُ في أوائل
الستينيات في البناء من السادسة صباحًا إلى السادسة مساءً بأجرةٍ زهيدةٍ جدًّا
قدرها 350 مليمًا وكنا أنا وأحمد بالريش سعداء وفرحَين بعملنا ونحن في سن 15 سنة.
جمنة، المدينةٌ الأقربُ إلى قلبي ووجداني وطفولتي.
حمام الشط، ضاحيةٌ-مدينةٌ-مبيتٌ،
يسكنها عمال مصانع وموظفون عموميون.
لا يوجد فيها متحف ولا مسرح ولا قاعة سينما ولا ملعب ولا حوض سباحة عمومي ولا نادي
للأطفال. فيها قاعتان للأفراح والمحاضرات لكن الأعراس كثيرة والمحاضرات نادرة،
فيها مقرّان لحزبين لا ينشطان ثقافيًّا، فيها شطٌّ ملوثٌ لا يصلح للراحة ولا
للسباحة وفيها مكتبة عمومية مرتبة ونظيفة لكنها ناقصة منشورات جديدة، لم ألحظ في
مدينتي نشاطًا جمعياتيًّا كثيفًا ما عدى جمعية نبيل بركاتي وجمعية عمال بلا حدود
وجمعية المرأة والرابطة عندما كان يرأسُها زميلي وصديقي رضا بركاتي وبعض المحاضرات
التي نظمها حزب الجمهوري بقيادة المولدي الفاهم، عضو الديوان السياسي، وخليفة
الفاهم، عضو المكتب التنفيذي، وقد حصل لي شرف تأثيث أربع ملتقيات ثقافية مختلفة
تحت رعاية هذه الأحزاب والجمعيات.
جمنةُ-مدينةٌ-ورشةٌ خريفيةٌ
مفتوحةٌ تعج بمئات الفَلاّحِين المحليين ومئات العمال الموسميين بِدون تغطية
اجتماعية. لا يوجد فيها متحف ولا مسرح ولا قاعة سينما ولا حوض سباحة عمومي. فيها نادي
للأطفال وقاعةٌ يتيمةٌ للمحاضرات في دار الشباب، على حد علمي فيها مقرٌّ واحدٌ
لحزبٍ واحدٍ لا ينشط ثقافيًّا وفيها مكتبة عمومية مرتّبة ونظيفة لكنها ناقصة
منشورات جديدة ككل مكتباتِنا العمومية في كامل تراب الجمهورية التونسية. حضرتُ
أخيرًا في مدينتي مهرجانًا متنوعًا تنوّع تمورها، مسرح، غناء، فروسية، رماية، أكلة
شعبية، ماجورات، طبالة وزكرة. للأسف المهرجانات ورغم ثرائها وزَخمِها وعفويتِها فهي
لا ولن تصنع ثقافةً دائمةً بل هي عبارةٌ عن تكفيرٍ عن ذنبِ غيابِ الثقافةِ بجمنة والمهرجانات
حسب ظني تُمثلُ الشجرةَ التي تُخفِي التصحّرَ الثقافِي في جمنة إلا من أربع فِرَقٍ
قارةٍ على حد علمي في أربعة مجالات وهي المسرح والرماية والفروسية وكرة القدم. لا ولن
أشك لحظة في صِدْقِ نوايا أعضاء جمعية حماية واحات جمنة ولجنة الشباب المتحمس
المرافقة لها والساهرة على تنظيم التظاهرات الثقافية وبالمناسبة أحييهم وأشد على
أياديهم وأبوس الأرضَ تحت نِعالِهم وأعتذر منهم على عدم حضور تظاهراتهم بسبب
زُكامٍ حادٍّ ألمّ بي خلال إقامتي القصيرة بجمنة. سمعتُ أنه يوجد فيها نشاطٌ
جمعياتيٌّ مُكثفٌ ومتنوعٌ، أنشطةٌ اجتماعيّةٌ وخيريةٌ وتعليميةٌ قرآنيةٌ، أنشطة
تُذكرُ فتُشكرُ ويُشكرُ كل الساهرين عليها من جميع الحساسيات السياسية المتواجدة
في المدينة وعلى رأسهم الجمعية الأم، جمعية حماية واحات جمنة، الجمعيةُ الداعمةُ
ماديًّا ومعنويًّا لكل الجمعيات العاملة في جمنة وأحوازها في ولاية ڤبلي.
في جمنة ولأول مرة في حياتي،
أحسستُ بنفسي تائهًا مُشَوَّشًا (Dépaysé) عكس ما أنعم به عادةً من هدوءٍ
وسكينةٍ وراحةِ بالٍ في مقاهي حمام الشط وشوارعِها، ربما يكون هذا التشويشُ ناتجًا
عن كثرة الحركة الموسمية الحالية الناجحة نسبيًّا والتي تسود جمنة في هذا الفصلِ
الكريمِ، وَفْرَةٌ وارتِفاعٌ في الإنتاج
الكَمِّي وليس النوعيَّ، مُلوحَةٌ متزايدة في عين لِمْطورِيّة وعين بُورْزِينْ، مبالغةٌ في استعمالِ الأسمدة
الكيميائيّة المُلَوِّثَةُ للتربة، الاستغلالُ الفاحشُ للثروة المائية الأحفورية
غير المتجددة من أجل الربح السريع الجشع مما يهدد المنطقة بسنوات عجاف من العطش
والجفاف في المستقبل البعيد أو المتوسط، نقصٌ فادِحٌ في الفلاحةِ البيولوجِيّةِ، وفي المقاومة البيولوجية للحشرات والفِطر
والطفيليات، عدم تعميم الري قطرة قطرة، إهمالٌ واعٍ للمحافظة على التنوع البيولوجي
(الخَلَطْ = نخلٌ غير الدڤلة) والتركيز غير الإيكولوجي على غراسة نوعٍ واحدٍ من
التمرِ التجارِي المُعَدّ خِصيصًا للتصدير وهو نوع دڤلة نور، وفي المقابل "تَخْضيرْ"
أو "خْراصَهْ" بملايين الدينارات، بتّة المعمر بمليار ونصف من المليمات،
الوعدُ الواعِدُ بِإنشاء معمل تكييف التمور من قِبلِ جمعية حماية واحات جمنة - وعدُ
الحرِّ دَينٌ في رقبتِه - من أجل تحسين الإنتاج النوعي ومن أجل تشغيلِ نساء جمنة، النساء
المناضلات الصامتات، المهرجانُ الثقافيُّ المُبْهِرُ، توافد مئات العمال الموسمين
على جمنة، الازدحام في حركة مرور السيارات والموبيلاتات أمام مقهى القدس ومقهى بن
عون.
خاتمة: يُحْكَى أن الساسي
بِنْحْمِدْ فَقَدَ عَقلَه النمطي خلال الازدحام الكبير في ميناء حلق الوادي في
غرّة جوان 1955، يوم استقبال الزعيم الحبيب بورڤيبة عند رجوعه منتصرًا من المَنفَى.
أحمد الله أنني خرجتُ من ازدحام جمنة الموسمي بأقل الأضرار، زُكامٌ خفيفٌ أقعدني
في البيت وحرمنِي من متابعةِ فعاليات مهرجانكم الرائع. رحم الله الساسي بِنْحْمِدْ
واللهم اجعل كل مجانين العالَم في مستوى رجاحةِ عقله ونُبْلِ أخلاقِه ونظافةِ
يدِهِ، اللهم آمين يا رب العالمين، رب الجمنين وغير الجمنين، العمال والفلاحين، المسلمين
السُنّة والشِيعة والإباضِيين، وأطلبُ الهداية للناس أجمعين، بوذيين وهندوس ويهود
ومسيحيين وبهائيين وملحدين، وفي مقدمتهم بعض المسلمين الإرهابيين الضالّين
الظلاميين.
إمضائي
"المثقفُ
هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العمومية" فوكو
"إذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
"على كل مقال سيء نرد
بمقال جيد" مواطن العالَم
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الاثنين 6 نوفمبر 2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire