mardi 28 novembre 2017

التعليم في تونس: هل هو هرمٌ مقلوبٌ؟ مواطن العالَم

 استوحيت هذه الخواطر من معاناتي في القسم كأستاذ تعليم ثانوي في ضواحي تونس. أدرّس علوم الحياة والأرض بالفرنسية للسنة الأولى من التعليم الثانوي. في الثلاثي الثاني من السنة الدراسية 2009-2010, طلبت من تلامذتي واجبا منزليا يتمثل في انجاز تمرين عدد 3 صفحة 73 من الكتاب المدرسي الوحيد بعد ما شرحت لهم كتابيا في القسم تمرين عدد 1 صفحة 62 من نفس الكتاب. تشجيعا و ترغيبا لهم ورفعا لمعنوياتهم المتردية لتدني معدلاتهم في علوم الحياة والأرض في الثلاثي الأول, وعدتهم بإسناد 20 على 20 في فرض الأشغال التطبيقية لكل تلميذ يقوم بواجبه المنزلي، نعم وللأسف الشديد أجازيهم على القيام بواجبهم المنزلي البسيط. في الحصة الموالية, وكما هو منتظر في هذا الزمن الردئ، لم يقم بالواجب إلا 36 تلميذا من مجموع 180 تلميذ، عدد تلامذتي في ست أقسام. لم يتفطن إلا تلميذ واحد منهم (صاحب معدل 17 من 20) أن التمرينين, المشار إليهما أعلاه, متشابهان تماما. قلت لهم معاتبا: لن تجدوا أستاذا يشجعكم ويرغّبكم في العمل أكثر مني ولن أجد، أنا, تلامذة أذكى منكم في الضرر بأنفسهم.
لماذا لا يعمل التلميذ التونسي؟ هل هو كسول بطبيعته؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى العنف؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى الغش؟ هل هو عنيف بطبيعته؟ هل هو غشاش بطبيعته؟ هل هو المسؤول الوحيد على عنفه وعلى غشه وعلى تردي مستواه التعليمي؟

هل الأساتذة يفهمون أن تلامذتهم لا يفهمون؟
هل الوزير يعرف مستوى التلاميذ؟
هل الدولة تستشرف مستقبل التعليم في تونس؟

تخصّص الدولة ميزانية ضعيفة جدا للمرحلة الأولى من التعليم الأساسي: أقدم لكم هذا التقرير التقريبي في أكثر المدارس الابتدائية: أقسام مكتظة, تلامذة لا يلعبون الرياضة, لا يستعينون بالحاسوب, لا توجد مخابر ووسائل إيضاح ومجسّمات لتدريس العلوم, لا يوجد معلم مختص في مجال معين, لا توجد في بعض المدارس آلة ناسخة ولا أنترنات ولا قاعة معلمين ولا حتى بيت راحة خاص بهم, لا يوجد مقياس علمي للنجاح فالارتقاء أصبح تقريبا آليا. ألغِي امتحان "السيزيام", الغربال الوحيد في الابتدائي. ينجح التلميذ إلى السابعة أساسي وهو لم يتملّك كفاءات الابتدائي الأساسية الثلاث، وهي التعبير الشفوي والتعبير الكتابي بالعربية والفرنسية والحساب. يفشل أكبر عدد من التلامذة في السنة الأولى إعدادي أو السابعة أساسي لعدم تأهيلهم في الابتدائي لهذه المرحلة.

في المقابل، ترتفع كثيرا ميزانية المدرسة الإعدادية والمعهد بالمقارنة مع المدرسة الابتدائية لكنها تُصرف في استهلاك الإضاءة والماء والطباشير والطباعة وتسخين مكاتب الإداريين. ألغِي امتحان "النوفيام", الغربال الوحيد في الإعدادي. ينجح التلميذ إلى الأولى ثانوي فتنزل عليه الصاعقة الكبرى، ألا وهي تدريس كل المواد العلمية بالفرنسية بعد ما كان يدرسها بالعربية طيلة تسع سنوات تعليم أساسي. في السنة الأولى ثانوي, ألاحظ أن النجاح الآلي وتدريس العلوم بالعربية أوصل إلينا أكثرية من التلامذة لا يستوعبون الدرس باللغة الفرنسية ولا يفهمون منه شيئا وفي هذه الحالة يلجئون إلى تعطيل سير الدرس والتشويش والعنف والغش الواضح والفاضح والوقح ليفرضوا أنفسهم بعد ما أخرجهم النظام التعليمي الجديد من المنظومة التربوية. هنا يندرج تشكي الأساتذة من عنف تلامذتهم وغشهم ويتهمونهم بشتى التهم من غباء وعدم تربية وقلة انضباط واستهتار بالقِيم. أنا لا أنزّه التلميذ ولا الولي بل أحاول فقط تسليط نظرة شاملة على المشكل وقد تبين لي أن التلميذ ضحية ومسؤول في نفس الوقت. التلميذ هو نتاج ما صنعت أيدينا من سياسة تربوية فاشلة سنها وطبقها كهول وليس مراهقين, فعلينا إذن قبل أن نلوم التلميذ والولي, أن ننقد أنفسنا ووزارتنا والمبرمجين والمتفقدين والإداريين. أما مسؤولية التلميذ فتتمثل في عدم قدرته على التأقلم مع هذا الوضع السيئ وإهماله لدروسه, السهل منها والصعب.

بقي امتحان "الباكلوريا" شكليا وألغِي فعليا باحتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25% في معدل النجاح في الباكلوريا. قد يتحصل التلميذ عل شهادة "الباكلوريا" بـ 8 معدل فقط في الامتحان الرسمي، لكن مع احتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25% في المعدل النهائي للنجاح في الباكلوريا، قد يصل إلى معدل 9 من 20 يؤهله للنجاح بالإسعاف (أخيرًا ألغِي هذا الإجراء، تاريخ إعادة نشر هذا المقال 28 نوفمبر 2017،). قد يرتقي التلميذ إلى الجامعة وهو لم يستعد لها تمام الاستعداد في الثانوي.
ترتفع كثيرا، على حد علمي، ميزانية الجامعة بالمقارنة مع الابتدائي والإعدادي والثانوي لكن لا تصرف في البحث العلمي وتجهيز المخابر. فرغم بناء عشرات الكليات والمعاهد العليا في كل الولايات التونسية ما زالت جامعات السبعينات تستوعب بنفس الفضاءات آلاف الطلبة في 2010 ككلية العلوم وكلية الحقوق وكلية الهندسة بالمركب الجامعي وكلية 9 أفريل بتونس العاصمة.

خلاصة القول
حسب وجهة نظري المحدودة جدا كغير مختص في تقييم أداء وزارة التربية, أرى أن فشل التلميذ التونسي في الدراسة مسؤولية يتحملها البنك العالمي والوزير والمدير والأستاذ والمعلم والولي والتلميذ. تهتم الدولة بالتعليم الجامعي أكثر من اهتمامها بالثانوي والابتدائي وحسب اجتهادي المتواضع, لو عكست لأصابت. تبني الدولة هرما تعليميا مقلوبا والذي يقلب الهرم التعليمي عليه أن يحذر يوما ما من سقوطه على رأسه (تونس).

سُمّي التعليم الابتدائي تعليما أساسيا لأنه يمثل قاعدة الهرم ونقط ارتكازه. توفر الدولة لتلامذة الثانوي أساتذة أصحاب شهائد عليا وتجهز القاعات ببعض الحواسيب وبعض السبورات البيضاء وبعض وسائل الإيضاح وتبخل بكل هذا على تلامذة الابتدائي وهم أحوج الناس لمثل هذه القدرات ولمثل هذه التجهيزات. في أمريكا يطالَب المعلم بشهائد أعلى من شهائد الأستاذ. إذا أهملنا التكوين في الابتدائي فلا نستطيع تدارك الخطأ في الثانوي لأن التصورات غير العلمية التي رسخناها في أذهان التلاميذ لا تزول بسهولة لكن إذا أكسبنا التلميذ مهارات متعددة وكفاءات متينة في الابتدائي نستطيع أن نظيف ونبني على أساسها الصلب في الثانوي والجامعي وإلا نكون كمن يبني عمارة على الرمال المتحركة.
أذكّر دائما بمثال التعليم في كوريا الجنوبية أين استقر الهرم التعليمي وثبت على قاعدته العريضة فدولتهم عكس دولتنا تخصص ميزانية أكبر للتعليم الأساسي. نهضت كوريا الجنوبية وأقلعت في ظرف عشريتين وأصبحت من الدول المتقدمة بعد ما كانت تُصنف كثالث أفقر دولة في العالم. حققت نجاحا بفضل استثمارها الوطني في التعليم والعبرة لمن يعتبر.

أريد أن أوضّح للقراء الأعزاء أنني, و إن كنت ضد الارتقاء الآلي وضد توسيع ثقوب الغرابيل في الامتحانات, لست مع الرسوب المجاني ولا أؤيد سياسة الانتقاء المجحفة. تابعت أخيرا برنامجا تلفزيا مهمّا, بالفرنسية طبعا, لأن كل البرامج بالعربية تقريبا تشترك في اللغة واللسان الخشبيين. يتحدث هذا البرنامج عن المدرسة "الفنلندية" حيث لا يرسب التلاميذ ومع ذلك حققت نجاحا باهرا بفضل الدعم والتشجيع الفعال للتلاميذ المحتاجين لذلك. أما المدرسة "الفرنسية" حيث يرسب 50 في المائة من التلامذة خلال مسيرتهم الدراسية, عاما على الأقل [والعهدة على الراوي], فهي أسوأ المدارس في أوروبا وهي للمفارقة قدوة وقبلة بالنسبة لنا. كنا نحن الأساتذة النقابين نعارض سياسة الانتقاء التي طغت في تونس السبعينات وحرمت العديد من أبنائنا من مواصلة تعليمهم واليوم نعارض النجاح الآلي الذي أراه سببا للعنف والتسيب في معاهدنا بجانب أسباب أخرى من بينها تردي القدرة الشرائية لدى المدرس وتدني التمويل الحكومي في التعليم العمومي. أنا لا أملك البديل التربوي لهذه السياسة الديمقراطية في ظاهرها والفاشلة في داخلها ولا أملك أيضا البديل البشري لتعويض جمهور الأساتذة والمعلمين غير المؤهلين للقيام بواجبهم (لا أستثني شخصي طبعا رغم اجتهادي العصامي لتكوين نفسي علميا وثقافيا) وعلى سبيل الذكر لا الحصر أذكّر ببعض عيوب تكويننا: لم نتلق تكوينا أكاديميا في علم نفس الطفل ولا في علم التقييم ولا في علم التواصل ولا في فلسفة المعرفة ولا في البيداغوجيا ولا في التعلمية ولا في المنهجية ولا في إدراك عملية الإدراك, فكيف تطلب منا النجاح في مهمتنا ونحن لا نفقه منها إلا الجانب المعرفي وهذا لا يكفي. لا يملك البنك العالمي وزمرة الخبراء والمبرمجين البديل أيضا ولن يستطيعوا استنباطه وحدهم مهما استعانوا بخبراء أجانب مرتزقة مأجورين

مهما نقدتُ زملائي ونقدت نفسي فلا نستطيع أن نستغني عن خبرة المباشرين, أعني بهم المعلمين والأساتذة وقد يتعلم الإنسان الصادق من أخطائه ويتطور نحو الأفضل.

أوجه ملاحظة أخيرة إلى بعض القراء الذين قد يلومونني على إغفال بعض الجوانب أو عدم ذكر بعض الأسباب: كل علم و كل خطاب عادة ما يكون مُختزَلا (Réduit) بطبيعته لأنه يقوم بتحول منهجي من حقل معرفي إلى آخر أخص وأدق وأضيق، فما بالك بمقال تحسيسي في صفحة. لذلك أرى أن المقاربة الشاملة (Approche systémique) أفضل من المقاربة التحليلية (Approche analytique) في تناول أي مسألة مهما كانت بسيطة. تتضافر العلوم مجتمعة وتتكامل في تفسير أي ظاهرة. لذلك أطالب بتكوين شامل للمدرس و لا نقتصر على المعارف فقط بدعوى حياد العلم (Les connaissances)، والعلم لم يكن ولن يكون يوما محايدا، وأركز أيضا على القيم ( Les valeurs Universelles) وعلى الممارسات الاجتماعية المرجعية (Les pratiques sociales de référence).

لم يكن العلم يومًا محايدا في تاريخه مثل صانعيه العلماء البشر. تهتم برامج تعليمنا في كل مراحله بالمعرفي النظري أكثر من اهتمامها بالتطبيقي لأن التكوين النظري لا يكلف الدولة كثيرا وتهمل تماما القيم الحضارية والسلوكيات الاجتماعية المدنية.

إمضائي
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.

ملاحظة
اقتبست عنوان المقال وفكرته الرئيسية من حديث تلفزي لصحافي تونسي من جريدة الشعب.

تاريخ أول نشر على النات: حمام الشط في 20 فيفري 2010.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire