mercredi 19 mars 2014

أتحداكم بكل لطف و تجرد أن تردّوا عليّ حججي إن كنتم من المجادلين! مواطن العالم د. محمد كشكار

أتحداكم بكل لطف و تجرد أن تردّوا عليّ حججي إن كنتم من المجادلين! مواطن العالم د. محمد كشكار

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 2 أكتوبر 2011.

عندما طالبت بتطبيق النموذج التعليمي الفنلندي الحالي - النموذج المجاني و الأفضل و الأنجع في العالم -  في تونس 2011 بعد ثورة 14 جانفي 2011، رد عليّ أصدقائي و قرائي المثقفون منهم و المتعلمون، وصفوني بأبشع الصفات، أذكر منها - على سبيل الذكر لا الحصر - الخرف العمري و المثالية الأفلاطونية و الخبل و الجنون و الفوضوية السياسية و الحماقة و السخافة و القصور الفكري و الجهل المطبق و الاستشهاد بالنماذج التربوية الخارجية و إهمال الخصوصية التونسية و استيراد البرامج المسقطة و غيرها من التهم الجاهزة مثل " هذا على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب.
أرجوكم و أتوسل إليكم و أبوس الأرض تحت نعالكم أن تقرؤوا المقال إلى الآخر لِما فيه - حسب وجهة نظري المتواضعة و المحدودة بطبيعتها الذاتية - من خير لتونس المستقبل و لما يحويه من إجراءات عملية قد تحقق المنشود بما هو موجود لو تغيرت عقلية "رزق البيليك" و تكلمنا بعقلية "رزق الشعب يعود بالخير على الشعب.
أرجوكم، اقرؤوا ردي و إجابتي و قصتي الذاتية إلى الآخر و تمعنوا في حججي قبل أن تحكموا لي أو عليّ.

ولدت في 16 نوفمبر 1952 بجمنة من أب تونسي و أم تونسية و أتممت دراستي الابتدائية و الإعدادية و الثانوية و المرحلة الجامعية الأولى بتونس و لم أُولد و لم أعش و لم أدرس يوما واحدا بفنلندا نموذج المقارنة سابقا.

1.     الابتدائي من 1958 إلى 1965:
درست سبع  سنوات ابتدائي (رسبت بالسنة الرابعة) بالمدرسة الابتدائية بجمنة التي بناها الاستعمار الفرنسي منذ 1952 تقريبا و ما زالت مربعات أرضية قاعاتها سليمة في حين انهارت جدران قاعات بُنيت بـ"كفاءات" تونسية بعدها بـ 50 سنة. كانت المدرسة أجمل ألف مرة من منازلنا، منحتنا مجانا أقلاما و كتبا و كراريس. أرضعتنا كل صباح في سن السادسة كأسا من الحليب المجفف الممزوج بالماء و أطعمتنا عند الغداء وجبة غير متوازنة تتمثل في صحن من "لألومينيوم" مملوءا مقرونة جارية لذيذة و كنا بصدق ممتنين جدا لعم صالح محمود الطباخ غير الماهر لأننا جوعانين لا نملك مثلها في منازلنا و قديما قالوا أن  "الجوع هو أمهر الطباخين". كانت المدرسة قريبة من ديارنا و لسنا في حاجة إلى وسيلة نقل. كنا نستعمل كيسا من القماش الأبيض لنحفظ داخله أدواتنا القليلة، كيس ورثناه عن عمنا سام  الأمريكاني، كيس مملوء قمحا، كيس بعثه لنا و كتب عليه باللون الأزرق "ليس للبيع و لا للمبادلة" و ختمه بصورة علم أمريكا.

2.     الإعدادي بقابس من 1965 إلى 1968 و الثانوي بصفاقس و تونس من 1968 إلى 1972:
في أول غربة و سفرة لي خارج جمنة في آخر سبتمبر 1965، أعطتني أمي دينارا تونسيا واحدا، مصروف الثلاثية الأولى، و أوصتني أن أقتصد في المصروف و لا أبذّر! ركبت إلى مدينة قابس في الحافلة العمومية بـ 600 مليم. وصلت بسلام و دخلت المبيت المجاني و بقيت أصرف كنز أمي المتبقي بحكمة كما أوصتني، كنا نحن "البياتَ" (التلامذة المقيمين بالمبيت) لا نخرج من المبيت إلى المدينة إلا يوم الأحد: دورو (5 مليمات) كل أحد لشراء قطعة "غْرَيْبَة" (نوع من الحلويات التقليدية) أو كأس "لاقمي" (النسغ المحضّر المستخرج طبيعيا من النخلة) أو 20 مليما ثمن قطة "هريسة" (نوع ثان من الحلويات التقليدية). لم أكن قادرا ماديا على قطع تذكرة سينما بـ40 مليما و لم تدخل التلفزة تونسنا بعد.ُ
قبل تاريخ العودة إلى مسقط رأسي جمنة الحبيبة في نهاية الثلاثية، ترسل لي   أمي 600 مليم ثمن تذكرة الرجوع في الحافلة العمومية أو أركب "لوّاج" (سيارة أجرة خاصة) و هي تدفع الثمن المطلوب إلى السائق الجمني عند الوصول.
كنت تلميذا مقيما مجّانا بمبيت إعدادية "سيدي مرزوق" بقابس المدينة ثم بمبيت المعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس.

فقرة 2.1
كنا نأكل مجانا أربع وجبات صحية و متوازنة و بيولوجية في اليوم:
-         فطور الصباح: قهوة حليب مع خبز و معجون أو زبدة أو حلوى شامية.
-         الغداء و العشاء: سَلَطَة خضراء طازجة، طبق رئيسي باللحم مثل الكسكسي أو اللوبيا (كانت من أحب الوجبات الدسمة إلى قلوبنا جميعا) أو الجلبانة أو المقرونة أو الملوخية أو الأرز الأبيض أو مرقة القناوية أو مرقة البطاطا أو غيرها من الأطعمة التي لم نكن نحلم بها أو لم نكن نعرف البعض منها في بيوتنا الريفية كالملوخية و الأرز الأبيض و مرقة القناوية. كنا نعرف  الكسكسي و المقرونة الجارية و مرقة البطاطا فقط. فاكهة يُختم بها الطعام: برتقال أو موز أو خوخ أو برقوق أو تين أو دلاع أو بطيخ أو هندي أو رمان أو حلوى شامية أو 4 تمرات دقلة (كنا نحن النفزاويون نضحك و نسخر من هذه "الفاكهة" الأخيرة لسببين اثنين لا ثالث لهما و هما: أولا نضحك من اعتبار الدقلة في مصاف الفاكهة يُختم بها الطعام و ثانيا نسخر من الحط من شأن شهيتنا المفتوحة و نهمنا  النفزاوي خاصة للدقلة بإعطائنا أربع تمرات فقط و نحن متعودون على أكل كيلو دقلة أو اثنين في الأكلة العرضية الواحدة بين الوجبات الرسمية.
-         لمجة السادسة مساء: قطعة شكلاطة بنية لذيذة جدا مع قطعة خبز.

حادثة غذائية طريفة رقم 1:
قد تبدو لكم الحادثة التالية و لأول وهلة و كأنها مركبة منهجيا أو مبرمجة للهزل لكنها والله واقعية و ذات دلالة لأهل الذكر و الاختصاصيين في دراسة حاسة تذوق الأطعمة المتنوعة عند البشر و علاقتها بحاسة الشم و بالمكتسبات الأنتروبولوجية الحضارية و الثقافية أكثر من علاقتها بالوراثة و الجينات: في مبيتات قابس و صفاقس و تونس، ثانوي و جامعي، لم أكن آكل البتة لا الملوخية و لا مرقة القناوية و لا الأرز و لا الحوت و لا الموز، لا لشيء - حسب اجتهادي - إلا لأنني لم أعرف هذه الأنواع من الأطعمة و الأغذية و لم تصادفني في حياتي قبل سن الثالثة عشرة. من حسن حظي، بدأت آكل كل هذه الروائع الغذائية بعد الزواج و أنا في سن الثلاثين لأن زوجتي - بنت تونس العاصمة - تعرف طريقة طبخها و بصفة جيدة و مُغرية.

   حادثة غذائية طريفة رقم 2  :
في عطلة من عطل عيد الأضحى المبارك، عاد جل التلامذة المقيمين بالمعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس إلى مدنهم و قراهم إلا قلة من المعوزين و كنت واحدا منهم. حتى لا يشعرنا بالفقر و الغربة، أقام المدير مأدبة غداء على شرفنا و أمر طباخ المبيت بالحضور يوم العيد صباحا ليذبح بالمناسبة نعجة. كان المدير حاضرا معنا، شوينا اللحم و أكلنا و ضحكنا و عيّدنا على بعضنا و كأننا بين أهالينا و أقاربنا.

فقرة 2.2
كنا نتمتع برعاية صحية كاملة مجانية، وقائية و علاجية في المبيت و الإعدادية و يوم الأحد.

فقرة 2.3
كانت إدارة المبيت تتكفل بتنظيف ملابسنا الداخلية و الخارجية و أغطيتنا مجانا و كانت كلها مرقمة لهذا الغرض.

فقرة  2.4
كنا نستمتع بحمام تركي أسبوعي مجاني خارج المبيت و كان النقل من بوغرارة كلم 35 إلى صفاقس مجانيا أيضا.

فقرة 2.5
يوجد بكل مؤسسة التربوية قاعة مراجعة نهارية خاصة بمراجعة الدروس و مطالعة القصص، يشرف عليها قيم جدي يساعدنا على أداء واجبنا المدرسي عند الطلب.

فقرة 2.6
كل قاعات الدرس نهارا تصبح قاعات مراجعة ليلا، يشرف عليها تلامذة قيمون متطوعون يختارونهم من نجباء الأقسام النهائية، يساعدوننا على أداء واجبنا المدرسي عند الحاجة.

فقرة  2.7
يوجد بكل مؤسسة تربوية قاعة رياضة مغطاة و مجهزة بمعدات رياضية عصرية.

فقرة 2.8
كان جل أساتذتنا الكرام أجانب (فرنسيين، بلجيكيين، كنديين، أمريكيين) ما عدى أساتذة العربية و التقنية و التصوير الفني و التربية الوطنية المزدوجة (المدنية و الإسلامية حاليا).

فقرة 2.9
كنا نقوم برحلات دراسية مجانا تحت إشراف أساتذتنا الأجانب.

فقرة 2.10
كان الانضباط  الحديدي يسود النظام الداخلي في كل المؤسسات التربوية.

3.     التعليم العالي من 1972 إلى 1974:
3.1
كنا نقيم مجانا أو بمقابل رمزي في مبيتات جامعية محترمة، غرفتين لاثنين من الطلبة في مبيت حي الزهور بتونس العاصمة.

3.2
كنا ندفع 100 مليم لا غير، ثمن وجبة غذائية صحية متوازنة في الغداء أو العشاء.

3.3
كانت إدارة المبيت الجامعي بحي الزهور تتكفل بتنظيف ملابسنا الداخلية و الخارجية و أغطيتنا مجانا و كانت كلها مرقمة لهذا الغرض.

3.4
كانت الحافلة الخاصة تنقلنا مجانا، ذهابا و إيابا،  من المبيت الجامعي بحي الزهور إلى مدرسة الترشيح العليا للتعليم التقني بباب عليوة.

3.5
كنا نتمتع بمنحة جامعية قدرها 35 دينارا تونسيا (كان مرتب معلم الابتدائي أو مرتب موظف بنكي - في ذلك الزمن الرومنطيقي الجميل في الذاكرة - لا يفوق 30 دينارا تونسيا). كنت أرسل من منحتي حوالة شهرية بـ10 دنانير تونسية مصروف أمي بجمنة (حيث لا وجود وقتها لفاتورة ماء أو ضو و لا وجود لتلفزة في البيت و لا وجود لمشروبات غازية أو ياغورت أو حليب أو مرطبات في الحانوت و لا وجود للحم أو دجاج في الطعام و لا وجود لجزار من أصله لو لم تخني ذاكرتي المتعبة). كان زميلي الطالب الصفاقسي مشتركا في الصندوق الوطني للسكن بمبلغ خمس دنانير تونسية في الشهر و تسلّم منزلا محترما بصفاقس عند التخرج سنة 1974 و كان صديقي الآخر يصرف على تعلم السياقة أما الأكثرية الغالبة من الشباب الجامعي فكانت تدخل الملاعب و قاعات المسرح و السينما أو تشتري كتبا و مجلات مثيرة غرائزيا أو تحتسي قهوة أو جعة أو تتسكع دون قصد أو نية فاسدة في بعض أنهج الأولياء الصالحين و أزقتهم الحادة و تسجد تقديسا لأيقوناتهم العارية الباردة - الجميلة في أعينهم - عيون مراهقين حيارى عطاشى مساكين، عيون لا ترى إلا ما تريد أن ترى في صحراء المدينة.

خلاصة القول:
هل تونس الستينات أفقر من تونس 2011؟
نعم أفقر ألف مرة، أفقر في القيم العلمية و الإنسانية و الدينية و أضعف في الإرادة السياسية و أقل استقلالية في اتخاذ القرار الداخلي و أكثر ارتباطا بالبنك العالمي و الدول الرأسمالية و الشركات متعددة الجنسيات و أضعف إيمانا بالله و أقل حبا في الوطن و أسهل كذبا في القول و أكثر تنافسا على الكسل.
كانت تونس الستينات تراهن على التعليم و تعتبره أساس التقدم و الرقي و لو لم تتدخل القوى الأجنبية الامبريالية في شؤوننا لوصلنا إلى نفس ما وصلت إليه كوريا الجنوبية من ديمقراطية و رفاهية بحسن تدبير مسؤوليها و وطنية مواطنيها و عبقرية مفكريها و أدبائها و مسرحييها و سينمائييها و أساتذتها و معلميها.

ملاحظة أخيرة:
قبل نشرها على النات، من عادتي أن أطرح مواضيع مقالاتي للنقاش في الجلسات الثقافية بمقهى النات بحمام الشط الغربية صباحا و بمقهى البلميرا بحمام الشط الشرقية مساء.
قال لي أستاذ فلسفة سابقا - كاتب عام نقابة أساسية سابقا - مدير معهد حاليا، نقابي نُصب بالوفاق من قبل زملائه: "الستينات من القرن الماضي مرحلة، و 2011 مرحلة أخرى، لقد ساد في الستينات و في كل العالم تقريبا نمط تنموي وطني أما اليوم فيسود العكس، يسود تونس نمط اقتصادي تابع مائة بالمائة و بصفاقة تامة للدوائر الامبريالية. زد على ذلك، نظام التعليم، نظام غير معزول عن بقية الأنظمة الإدارية في الدولة، يوجد نظام التعليم داخل نظام سياسي تنموي أشمل فلا تستطيع إذن - حتى و لو أردت - أن تصلح قطعة واحدة فاسدة في  سيارة كل قطعها بالية و تطلب من السيارة أن تنطلق بسرعة و تأخذك إلى موطنك العزيز جمنة و حتى و إن حدثت المعجزة و سارت السيارة دون بنزين فلن تجد جمنة كما تركتها في الستينات.

رددت عليه بلطف و قلت له: "لقد حدثت مثل هذه المعجزات في أواخر القرن الماضي، في كوريا الجنوبية و تركيا و إيران و ماليزيا، صمّمت هذه البلدان الثلاثة على النهوض و الإقلاع الاقتصادي و اللحاق بركب الدول المتقدمة فبدأت أولا بتطوير نظام التعليم معتمدة على إرادة سياسية وطنية صلبة و وُفقت في مسعاها، على الأقل نسبيا و بالمقارنة مع الدول العربية التعيسة و المتخلفة
قال متدخل آخر متوجه بالخطاب إليّ مباشرة: "تمتعت أنت بالمجانية لأنك فقير". أجبته: و هل طلبت، أنا شخصيا،  الحق  و العدل لغير المعوزين من الفقراء و الموظفين أمثالي و أمثالك؟ أما الأغنياء فلا حاجة لهم لنظام تعليمي متطور في تونس لأنهم يستطيعون تدريس أبناءهم في أفضل النظم التعليمية الجامعية في فنلندا أو فرنسا أو أمريكا.

و قلت له أيضا: "يكمن العدل يا سيدي الكريم في عدم العدل في توزيع الثروات الوطنية على طبقات المواطنين و أنا أؤمن بالمبدأ الإنساني السامي و النبيل القائل بالحكمة الأبدية العادلة التالية "من كل حسب جهده و لكل حسب حاجته" لو كان هذا الكل إنسانا يأتم معنى الكلمة للإنسانية التي أتصورها في مخيلتي و أتمنى حدوثها في المستقبل القريب و لو بطفرة جينية نوعية و نادرة كالطفرة الجينية التي وقت في الحمض النووي لأسلافنا و نقلتنا من شبه شبه إنسان  إلى شبه إنسان.

إمضاء م. ع. د. م. ك
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire