ماذا جنيت بعد
ثلاث عشرة سنة تعليم عال؟ مواطن العالم د. محمد كشكار
تاريخ أول نشر
على النت: حمام الشط في 15 ماي 2009.
بعد دراسة جامعية أولى (دون باكلوريا) دامت
سنتين، تخرّجت و أنا عمري 22 عاما أستاذا مساعدا في الاعدادي، اختصاص
علوم الحياة و الأرض. عدت إلى التعلّم الذاتي في سن 27، أعددت نفسي بمساعدة زملائي
للترشح الحر لاجتياز الباكلوريا العلمية الجزائرية، تحصلت عليها بملاحظة متوسط. للمرة
الأولى عدت إلى الدراسة الجامعية بالمراسلة، في جامعة "رانس" بفرنسا و
أنا في سن 30، درست الفلسفة الإغريقية سنة واحدة و لم أواصل لأسباب مادية. للمرة الثانية
عدت إلى الدراسة الجامعية بالحضور، و أنا في سن
38 و أكملت الإجازة خلال ثلاث سنوات بملاحظة حسن. للمرة الثالثة عدت إلى
الدراسة الجامعية، ، و أنا في سن 46 و بعد عامين بحث علمي تحصلت على "دبلوم
الدراسات المعمقة" في تعلميه
البيولوجيا بملاحظة حسن جدا. أضعت عامين بين
الشعور بالإحباط و الإحساس بالفشل و التردد في اختيار موضوع أطروحتي. للمرة الرابعة عدت إلى الدراسة الجامعية، و أنا
في سن 50 و بعد خمس سنوات بحث تحصلت على الدكتورا بملاحظة مشرّف جدا مع الشكر
الشفوي للجنة دكتورا ثنائية الإشراف من جامعة تونس و جامعة كلود برنار بليون 1
بفرنسا. مسيرة دراسية خاصة لا تُحتذى، متعثرة و بطيئة جدا، لا أنصح الشباب
بمحاكاتها.
رغم طول مدة الدراسة و تعثرها لأسباب خارجة عن
قدراتي الذهنية، لم أشعر يوما بالملل أو القلق، بل العكس، كانت أيام سعادة و مرح و
متعة فكرية. وددت لو طالت الدراسة الجامعية إلى آخر العمر لأن كل متع الحياة
الدنيا - لو كان فيها متع في متناول الفقراء ما عدى متعة التدخين السامة - لا
تساوي "جناح بعوضة" جنب المتعة الفكرية.
لم أجن من كل هذا الجهد إلا عمل بسيط أقتات منه متنقلا في الجمهورية
التونسية من مدينة مغمورة إلى أخرى و لست نادما لأن ما حققته هو إرضاء لنفس طموحة غير
طمّاعة.
جنيت ثقافة علمية واسعة و
متشعبة و معقدة و اكتسبت تواضعا فكريا حقيقيا و اكتشفت أن كل ما اطلع الإنسان أكثر
عرف أن ما يجهله أكبر.
أقدّم لكم في الفقرة الموالية، ما جنيته و يتمثل في بعض المفاهيم أو أدوات
التحليل و التفكير التي بقيت لي من سنوات الجهاد العلمي، و سأقدمها دون تعمق و
بصيغة أدبية أكثر منها علمية، لأنني سوف أتعرض إليها في مقالات أخرى بالتفصيل
العلمي:
-
مفهوم
"التفاعل":
L’Interaction
يحل هذا المفهوم السحري كل المسائل الملتبسة في
النقاش الفكري و يجيب منهجيا على كل الإشكاليات بمنطق مشاركة كل الأطراف في الفعل
و رد الفعل.
مثال 1:
السؤال: هل الذكاء وراثي أم مكتسب؟
الجواب: يتفاعل الوراثي مع المكتسب "فينبثق" منهما الذكاء.
مضى زمن الفصل التعسفي بين الوراثي و المكتسب إلى غير رجعة.
مثال 2:
السؤال: ما هي أسباب تخلف العالَم العربي؟ هل هي خارجية (مفهوم المؤامرة)
أم داخلية؟ هل هي دينية أم عَلمانية؟ هل هي معاصرة أم تاريخية؟ هل هي نتيجة
الاستبداد أم الفساد؟
الجواب: تفاعلت كل هذه الأسباب فيما بينها و خلقت وسطا، عشنا داخله أربعة
عشر قرنا و "انبثقنا" منه أفرادا و شعوبا و دولا عربية - مسلمة متخلفة.
-
مفهوم
"الانبثاق" أو "الانبجاس":
L’Émergence
ينتج الانبثاق عن التفاعل بين عناصر الظاهرة
الطبيعية أو التفاعل الكيميائي، تبدأ النتيجة تظهر شيئا فشيئا، فهي إذن ليست حتمية
و ليست معروفة مسبقا.
مثال 1:
يتعاون الآلاف من حشرات النحل لبناء خلية النحل. كل واحدة تقوم بعمل بسيط
دون نية مسبقة و دون تصميم ذهني "فينبثق" من مجموع الأعمال المنفردة و البسيطة
لجماعة النحل بناء هندسيا دقيقا لا يقدر على تصميمه أكفأ المهندسين.
مثال 2:
إذا انتقدت التعليم في تونس, يطالبك محاورك بنبرة المتحدي بالبديل, و من
أين لي أنا المواطن الواحد بالبديل؟ البديل ليس شيئا توجد وصفته الجاهزة سلفا بشكل
كامل في جيب النقابة أو الوزير، و ما على هذا الأخير إلا وضعها موضع التنفيذ. البديل الإصلاحي للتعليم، هو بناء "ينبثق"
منك و مني و من آلاف الأساتذة و التلامذة و المختصين في علوم التربية و التعليم.
-
مفهوم
"ما بعد أو ما فوق
الوراثي المخي ":
L’Épigenèse
cérébrale
يجمع هذا المفهوم بين المفهومين السابقين: "يتفاعل" الموروث والمكتسب داخل خلايا المخ البشري فـ"ينبثق" منهما الذكاء. لا نستطيع أن نعرف مَلَكَة
الذكاء البشري مسبقا و إلا لكان كل أولاد العباقرة عباقرة بدورهم. فالذكاء إذن هو 100
% موروث
بيولوجي و 100 % مكتسب حضاري. لا يولد الإنسان
ذكيا أو غبيا (إلا في بعض حالات التخلف الذهني الوراثي أو الجيني). "قد"
يصبح الإنسان ذكيا لو توفر له المحيط المناسب و الاستعداد الجيني و لو كدّ و اجتهد.
-
مفهوم
"التعقيد":
Complexité La
قد يتبادر إلى ذهن جل المدرسين, ابتدائي و
ثانوي, أن تبسيط المعارف بجميع أنواعها قد يساعد التلميذ على تقبلها بسهولة. لكن
يبدو أن مربينا نسوا أو تناسوا أن تبسيط المفاهيم العلمية قد يجر التلميذ إلى
الخطأ و هذا الخطأ قد يرسخ في ذهن التلميذ و يصعب علينا إصلاحه لأن التصوّرات غير
العلمية لا تتغير و لا تنهزم بسهولة. العلم معقد بطبيعته لكن المدرس المتمكن هو
الذي يقدمه في وضعية تعلمية تراعي مستوى التلميذ و لا تسطّح المشكل و تبسطه دون أن
تُفقده تعقيداته العلمية الهيكلية.
-
مفهوم
"المقاربة الشاملة":
Approche
systémique L’
تركّز هذه المقاربة على التفاعلات بين كل
العناصر، و تعتمد على الإدراك الشامل للمشكلة أو القضية فنتناولها من جميع جوانبها
و جميع زواياها دون إهمال لأي جانب أو زاوية منها مهما بديا ضعيفين. تتعامل "المقاربة
الشاملة" مع عدة مجموعات من المتغيرات في نفس الوقت. هي مقاربة ناجعة في
التعليم الحديث تعتمد "بيداغوجيا المشروع" أو تعّلمات المواد المشتركة: يبحث التلميذ على
حل إشكالية علمية، تتطلب هذه الإشكالية، في
الوقت نفسه، معارف من مادة علوم الحياة و الأرض و مادة الفيزياء. يحضَر التلميذ في
المخبر لإتمام مشروعه بنفسه تحت إشراف أستاذ العلوم و أستاذ الفيزياء في نفس
القاعة. يُطبَّق هذا المشروع بنجاح في التعليم الثانوي بفرنسا لأن الدولة وفرت له
التجهيزات الضرورية، أما في تونس فنحاول تطبيقه بصعوبة كبيرة في الإعدادي لسببين
اثنين, أولا عدم توفّر الفضاء اللازم و عدم اقتناع الأساتذة بجدواه لنقص في
تكوينهم في علوم التربية.
-
مفهوم
"تداول النماذج التعلمية بيسر":
Jongler
avec les modèles d’apprentissage
يغرق الأستاذ في كثرة النماذج و الطرق التربوية
و يحاول تطبيق أفضلها. نذكر من بين هذه النماذج,
المدرسة البنائية لـ"بياجي" و المدرسة البنائية الاجتماعية لـ"فيڤوتسكي"
و المدرسة السلوكية لـ"سكينر" و التلقين و التقليد و المحاضرة المباشرة و
غيرها. لا يمكن التفضيل علميا بين كل هذه النماذج لأن كل واحد منها يصلح في وضعية
لا يصلح فيها الآخر, مثلا: المحاضرة المباشرة تبلّغ المعلومة عندما يكون مستوى
الباث و المتلقي متقارب مثل المتفقد و الأستاذ. يكتسب المتدرب الجديد لدى الحدّاد
أو النجار أو الميكانيكي مهارته بالتقليد. يحفظ الصغير القرآن في الكتّاب
بالتلقين. في بعض الوضعيات التعلمية، يتعلم التلميذ في الابتدائي بالمكافأة و
العقوبة. يرتقي المتلقي إلى مستوى ذهني أعلى عندما يبني معارفه بمشاركة أستاذه و
أقرانه. يتملك التلميذ معارفه عندما يراجعها وحده في المنزل.
-
مفهوم
"نفي الحتمية البيولوجية و الجينية":
Anti - Déterminisme biologique et
génétique L’
تنفي هذه النظرية أعلاه نظرية "الحتمية
البيولوجية"
Déterminisme biologique et génétique Le
و تنفي نظرية "الحتمية البيولوجية" بدورها تأثير المحيط على عمل
الجينات أو المورّثات و تقلّل من دور المكتسب خلال التجارب الحياتية و التعليمية. تؤمن
نظرية "الحتمية البيولوجية" بتأثير الموروث فقط و تهمل التفاعل الذي
يحصل بين المكتسب و الموروث. ترفع "الحتمية البيولوجية "
من شأن "الموهبة" و تحط من شأن التدرّب و الاجتهاد. نحن نعرف أن الاستعدادات
البيولوجية الموروثة عند البشر ليست متساوية لكن نعرف أيضا أن العمل و الاجتهاد و
المثابرة تشارك في صنع ما يسمّيه عامة الناس "الموهبة". الموهبة هي
القدرات الذهنية العالية المتوفرة عند بعض الناس: نقول مثلا أن هذا التلميذ "موهوب"
في الرياضيات, ماذا يعني "موهوب"؟ هل ولد و هو قادر على حل المسائل
الرياضية المعقدة! طبعا لا! هل كُتب في جيناته مبادئ الرياضيات؟ طبعا لا! إذن،
أصبح قادرا و لم يولد قادرا, اكتسب القدرة الرياضية أثناء تعلّمه و تدرّبه و لم
يرثها عن والديه لكن قد يكون ورث عنهما استعدادا جينيا غير حتمي الغاية. لو ولد
عالم الرياضيات و الفيزياء المشهور "انشتاين" مثلا في الصحراء و عاش مع
الرعاة و لم يدخل المدرسة لأصبح في أحسن الحالات راعيا ماهرا للجمال و الماعز لكنه
و لحسن حظه ولد في ألمانيا و تعلم في جنيف و بنا علمه بمساعدة فريق من العلماء في
أمريكا فأصبح موهوبا و لم يولد موهوبا رغم استعداداته الوراثية الذاتية لتقبل
العلم و المعرفة.
خلاصة
القول:
أحُث بكل حب و لطف الشباب على مواصلة تعليمهم
العالي في المرحلة الثالثة مبكرا حتى يبقى في العمر متسع للبحث و البناء العلمي و
لا أقول الاكتشاف لأن العلم ليس جزيرة مهجورة نكتشفها صدفة. العلم كدّ و جدّ و جهد
و بحث و تمحيص، نبنيه لبِنَة لبِنَة بمساعدة الآخرين و فوق أساس متين من الموروث
الحضاري المكتسب عبر تاريخ البشرية و الموروث البيولوجي الذي لا ناقة لنا فيه و لا
جمل. لم يتغير المخ البشري بيولوجيا منذ عهد الفراعنة أو أبعد من ذلك لكن القدرات
الذهنية عند الإنسان قفزت قفزة عملاقة بفضل التراكم الحضاري البشري الأممي.
إمضاء م. ع. د.
م. ك. (إضافة جديدة للإمضاء: ديمقراطي يساري غير ماركسي، غير راض عن فكر و ممارسة الجبهة
و معارض لفكر و ممارسة النهضة و رافض تماما لعودة رموز التجمع):
لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف
كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه.
عبد الله العروي.
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما
أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و
أنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى
تجريب وجهة نظر أخرى و
على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي أو الرمزي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire