lundi 10 mars 2014

التعليم في تونس: هل هو هرم مقلوب؟ مواطن العالَم د. محمد كشكار


التعليم في تونس: هل هو هرم مقلوب؟ مواطن العالَم د. محمد كشكار

تاريخ أول نشر على النت:       حمام الشط في 20 فيفري 2010.

استوحيت هذه الخواطر من معاناتي في القسم كأستاذ تعليم ثانوي في ضواحي تونس. أدرّس علوم الحياة و الأرض بالفرنسية للسنة الأولى من التعليم الثانوي. في الثلاثي الثاني من السنة الدراسية 2009-2010, طلبت من تلامذتي واجبا منزليا يتمثل في انجاز تمرين عدد 3 صفحة 73 من الكتاب المدرسي الوحيد بعد ما شرحت لهم كتابيا في القسم تمرين عدد 1 صفحة 62 من نفس الكتاب. تشجيعا و ترغيبا لهم و رفعا لمعنوياتهم المتردية لتدني معدلاتهم في علوم الحياة و الأرض في الثلاثي الأول, وعدتهم بإسناد 20 على 20 في فرض الأشغال التطبيقية لكل تلميذ يقوم بواجبه المنزلي، نعم و للأسف الشديد بواجبه المنزلي البسيط. في الحصة الموالية, و كما هو منتظر في هذا الزمن الردئ، لم يقم بالواجب إلا 36 تلميذا من مجموع 180 تلميذ، عدد تلامذتي في ست أقسام. لم يتفطن إلا تلميذ واحد منهم (صاحب معدل 17 من 20) أن التمرينين, المشار إليهما أعلاه, متشابهان تماما. قلت لهم معاتبا: لن تجدوا أستاذا يشجعكم و يرغّبكم في العمل أكثر مني و لن أجد أنا, تلامذة أذكى منكم في الضرر بأنفسهم.


لماذا لا يعمل التلميذ التونسي؟ هل هو كسول بطبيعته؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى العنف؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى الغش؟ هل هو عنيف بطبيعته؟ هل هو غشاش بطبيعته؟ هل هو المسؤول الوحيد على عنفه و على غشه و على تردي مستواه التعليمي؟


هل الأساتذة يفهمون أن تلامذتهم لا يفهمون؟
هل الوزير يعرف مستوى التلاميذ؟
هل الدولة تستشرف مستقبل التعليم في تونس؟


تخصّص الدولة ميزانية ضعيفة جدا للمرحلة الأولى من التعليم الأساسي: أقدم لكم هذا التقرير التقريبي في أكثر المدارس الابتدائية: أقسام مكتظة, تلامذة لا يلعبون الرياضة, لا يستعينون بالحاسوب, لا توجد مخابر و وسائل إيضاح و مجسّمات لتدريس العلوم, لا يوجد معلم مختص في مجال معين, لا توجد في بعض المدارس لا آلة ناسخة و لا أنترنات ولا قاعة معلمين و لا حتى بيت راحة خاص بهم, لا يوجد مقياس علمي للنجاح فالارتقاء أصبح تقريبا آليا. ألغي امتحان "السيزيام", الغربال الوحيد في الابتدائي. ينجح التلميذ إلى السابعة أساسي و هو لم يتملّك كفاءات الابتدائي الأساسية الثلاث و هي التعبير الشفوي و التعبير الكتابي بالعربية و الفرنسية و الحساب. يفشل أكبر عدد من التلامذة في السنة الأولى إعدادي أو السابعة أساسي لعدم تأهيلهم في الابتدائي لهذه المرحلة.


ترتفع ميزانية المدرسة الإعدادية و المعهد كثيرا بالمقارنة مع المدرسة الابتدائية لكن تصرف في استهلاك الإضاءة و الماء و الطباشير و الطباعة و تسخين مكاتب الإداريين. ألغي امتحان "النوفيام", الغربال الوحيد في الإعدادي. ينجح التلميذ إلى الأولى ثانوي فتنزل عليه الصاعقة الكبرى ألا و هي تدريس كل المواد العلمية بالفرنسية بعد ما كان يدرسها بالعربية طيلة تسع سنوات تعليم أساسي.  في السنة الأولى ثانوي, ألاحظ أن النجاح الآلي و تدريس العلوم بالعربية أوصل إلينا أكثرية من التلامذة لا يستوعبون الدرس  باللغة الفرنسية و لا يفهمون منه شيئا و في هذه الحالة يلجؤون إلى تعطيل سير الدرس و التشويش و العنف و الغش الواضح و الفاضح و الوقح ليفرضوا أنفسهم بعد ما أخرجهم النظام التعليمي الجديد من المنظومة التربوية. هنا يندرج تشكي الأساتذة من عنف و غش تلامذتهم و يتهمونهم بشتى التهم من غباء و عدم تربية و قلة انضباط و استهتار بالقيم. أنا لا أنزّه التلميذ و لا الولي بل أحاول فقط تسليط نظرة شاملة على المشكل و قد تبين لي أن التلميذ ضحية و مسؤول في نفس الوقت. التلميذ هو نتاج ما صنعت أيدينا من سياسة تربوية فاشلة سنها و طبقها كهول و ليس مراهقين, فعلينا إذا قبل أن نلوم التلميذ و الولي, أن ننقد أنفسنا و وزارتنا و المبرمجين و المتفقدين و الإداريين. أما مسؤولية التلميذ فتتمثل في عدم قدرته على التأقلم مع هذا الوضع السيئ و إهماله لدروسه, السهل منها و الصعب.


بقي امتحان "الباكلوريا" شكليا و ألغي فعليا  باحتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25% في معدل النجاح في الباكلوريا. قد يتحصل التلميذ عل شهادة "الباكلوريا" بـ 8 معدل فقط في الامتحان الرسمي، لكن مع احتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25%  في المعدل النهائي للنجاح في الباكلوريا، قد يصل إلى معدل 9 من 20 يؤهله للنجاح بالإسعاف. يرتقي التلميذ إلى الجامعة و هو لم يستعد لها تمام الاستعداد في الثانوي.
ترتفع، على حد علمي، ميزانية الجامعة كثيرا بالمقارنة مع الابتدائي و الإعدادي و الثانوي لكن لا تصرف في البحث العلمي و تجهيز المخابر. رغم بناء عشرات الكليات و المعاهد العليا في كل الولايات التونسية ما زالت جامعات السبعينات تستوعب بنفس الفضاءات آلاف الطلبة في 2010 ككلية العلوم و كلية الحقوق و كلية الهندسة بالمركب الجامعي و كلية 9 أفريل بتونس العاصمة.


خلاصة القول

حسب وجهة نظري المحدودة جدا كغير مختص في تقييم أداء وزارة التربية, أرى أن فشل التلميذ التونسي في الدراسة مسؤولية يتحملها البنك العالمي و الوزير و المدير و الأستاذ و المعلم و الولي و التلميذ. تهتم الدولة بالتعليم الجامعي أكثر من اهتمامها بالثانوي و الابتدائي و حسب اجتهادي المتواضع, لو عكست لأصابت. تبني الدولة هرما تعليميا مقلوبا و الذي يقلب الهرم التعليمي يحذر يوما ما من سقوطه على رأسه.


سُمّي التعليم الابتدائي تعليما أساسيا لأنه يمثل قاعدة الهرم و نقط ارتكازه. توفر الدولة لتلامذة الثانوي  أساتذة أصحاب شهائد عليا و تجهز القاعات ببعض الحواسيب و بعض السبورات البيضاء و بعض وسائل الإيضاح و تبخل بكل هذا على تلامذة الابتدائي و هم أحوج الناس لمثل هذه القدرات و لمثل هذه التجهيزات. في أمريكا يطالب المعلم بشهائد أعلى من شهائد الأستاذ. إذا أهملنا التكوين في الابتدائي فلا نستطيع تدارك الخطأ في الثانوي لأن التصورات غير العلمية التي رسخناها في أذهان التلاميذ لا تزول بسهولة لكن إذا أكسبنا التلميذ مهارات متعددة و كفاءات متينة في الابتدائي نستطيع أن نظيف و نبني على أساسها الصلب في الثانوي و الجامعي و إلا نكون كمن يبني عمارة على الرمال المتحركة
أذكّر دائما بمثال التعليم في كوريا الجنوبية أين استقر الهرم التعليمي و ثبت على قاعدته العريضة فدولتهم عكس دولتنا تخصص ميزانية اكبر للتعليم الأساسي. نهضت كوريا الجنوبية و أقلعت في ظرف عشريتين و أصبحت من الدول المتقدمة بعد ما كانت تصنف كثالث أفقر دولة في العالم. حققت نجاحا بفضل استثمارها الوطني في التعليم و العبرة لمن يعتبر


أريد أن أوضّح للقراء الأعزاء أنني, و إن كنت ضد الارتقاء الآلي و ضد توسيع ثقوب الغرابيل في الامتحانات, لست مع الرسوب المجاني و لا أؤيد سياسة الانتقاء المجحفة. تابعت أخيرا برنامجا تلفزيا مهمّا, بالفرنسية طبعا, لأن كل البرامج بالعربية تقريبا تشترك في اللغة و اللسان الخشبيين. يتحدث هذا البرنامج عن المدرسة "الفنلندية" حيث لا يرسب التلاميذ و مع ذلك حققت نجاحا باهرا بفضل الدعم و التشجيع الفعال للتلاميذ المحتاجين لذلك. أما المدرسة "الفرنسية" حيث يرسب 50 في المائة من التلامذة خلال مسيرتهم الدراسية, عاما على الأقل [و العهدة على الراوي], فهي أسوأ المدارس في أوروبا و هي في نفس الوقت قدوة و قبلة بالنسبة لنا. كنا نحن الأساتذة النقابين  نعارض سياسة الانتقاء التي طغت في تونس السبعينات و حرمت العديد من أبنائنا من مواصلة تعليمهم و اليوم نعارض النجاح الآلي الذي أراه سببا للعنف و التسيب في معاهدنا بجانب أسباب أخرى من بينها تردي القدرة الشرائية لدى المدرس و تدني التمويل الحكومي في التعليم العمومي. أنا لا أملك البديل التربوي لهذه السياسة الديمقراطية في ظاهرها و الفاشلة في داخلها و لا أملك أيضا البديل البشري لتعويض جمهور الأساتذة و المعلمين غير المؤهلين للقيام بواجبهم (لا أستثني شخصي طبعا رغم اجتهادي العصامي لتكوين نفسي علميا و ثقافيا) و على سبيل الذكر لا الحصر أذكّر ببعض عيوب تكويننا: لم نتلق تكوينا أكاديميا لا في علم نفس الطفل و لا في علم التقييم و لا في علم التواصل و لا في فلسفة المعرفة و لا في البيداغوجيا و لا في التعلّمية و لا في المنهجية و لا في إدراك عملية الإدراك, فكيف تطلب منا النجاح في مهمتنا و نحن لا نفقه منها إلا الجانب المعرفي و هذا لا يكفي. لا يملك البنك العالمي و زمرة الخبراء و المبرمجين البديل أيضا و لن يستنبطوه و حدهم مهما استعانوا بخبراء أجانب مرتزقة مأجورين.


مهما نقدت زملائي و نقدت نفسي لا نستطيع أن نستغني عن الخبراء الحقيقيين, أعني المعلمين و الأساتذة و قد يتعلم الإنسان الوطني الصادق من أخطائه و يتطور نحو الأفضل.


أوجه ملاحظة أخيرة إلى بعض القراء الذين قد يلومونني على إغفال بعض الجوانب أو عدم ذكر بعض الأسباب: كل علم و كل خطاب مُختزَل
 Réduit
بطبيعته لأنه يقوم بتحول منهجي من حقل معرفي إلى آخر أخص و أدق و أضيق و أكثر أصالة
Réductionnisme
فما بالك بمقال تحسيسي في صفحة. لذلك أرى أن المقاربة الشاملة
 Approche systémique
 أفضل من المقاربة التحليلية
 Approche analytique


في تناول أي مسألة مهما كانت بسيطة. تتضافر و تتكامل العلوم مجتمعة في تفسير أي ظاهرة. لذلك أطالب بتكوين شامل للمدرس و لا نقتصر على المعارف فقط بدعوى حياد العلم
 Les connaissances
و العلم لم و لن يكون يوما محايدا بل نركز أيضا على القيم
 Les valeurs
و الممارسات الاجتماعية المرجعية
 Les pratiques sociales de référence


العلم ليس محايدا في تاريخه مثل صانعيه العلماء البشر. تهتم برامج تعليمنا في كل مراحله بالمعرفي النظري أكثر من اهتمامها بالتطبيقي لأن التكوين النظري لا يكلف الدولة كثيرا و تهمل تماما القيم الحضارية و السلوكيات الاجتماعية المدنية.


إمضاء د. م. ك
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.



ملاحظة
اقتبست عنوان المقال و فكرته الرئيسية من حديث تلفزي لصحافي تونسي من جريدة الشعب.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire