الأساتذة
الجامعيون التونسيون اكتفوا بنقل ما تعلموه إلى طلبتهم ولم يبحثوا ولم يضيفوا
للعلم شيئاً يُذكر. كتبوا آلاف الأطروحات، نسخاً باهتة لإنتاج الجامعات الغربية
محفوظة في رفوف المكتبات الجامعية. اهتموا بملفات ترقياتهم أكثر من اهتمامهم
بالبحث العلمي (في بعض الدول الغربية ألغِيت الترقيات للأساتذة الجامعيين وحُذِفت
المراتب -Les mentions- في منح شهادة الماجستير والدكتورا).
المهندسون التونسيون نفذوا ما تعلموه وكأنهم مجرد تقنيين ولم يبتكروا حلولا
للصعوبات التقنية التي يتعرض لها يوميا الفلاح أو الصناعي التونسي. نحن في واحات
جمنة وغيرها نحتاج لآلات تسهّل عمليات تلقيح النخيل وجني التمور.
المعماريون
التونسيون قلدوا تصميمات زملائهم الغربيين وأهملوا كنوز تراثهم القديم والمعاصر.
نحن في جمنة مثلا كنا نبني بيوتاً من "الطوب" (حجر هش مكون من الرمل
والكلس والطين المتماسك) بأبخس التكاليف، بيوتاً متأقلمة مع مناخنا صيفاً وشتاءً
دون مكيّف، بيوتاً تعيش أكثر من قرن. اليوم أصبحنا نبني بالأسمنت المسلح الغالي
الثمن كـسُكان العاصمة، مسلح ضد كل شيء إلا شمسنا.
الأطباء
التونسيون العامّون والمختصون تفننوا في كتابة وصفات غربية مطولة تنهك صحة المريض
التونسي وجيبه. لم يبتكروا وصفات جديدة ولم يطوروا أدوية "الطب العربي"
المصنوعة من الأعشاب. قَصَدَهم المرضى الأجانب من الأغنياء (ليبيون وجزائريون
جاؤوا للعلاج وغربيون جاؤوا للتجميل) وهجرهم المرضى التونسيون من الفقراء بسبب
أجور كشوفاتهم المشِطّة.
المختصون في
علوم التربية لم يؤسسوا نماذج تعلمية انطلاقاً من عاداتنا وتقاليدنا خاصة في مجال
التعليم ما قبل المدرسي. كنا أطفالاً في جمنة الخمسينات وغيرها من المدن والقرى
التونسية نتعلم من أندادنا دون رقيب كهل، نصنع لُعَبَنا بأيدينا ومن لَعِبِنا كنا
نتعلم دون معلم. كنا نطبق دون أن نشعر نظرية البنائية الاجتماعية للعالم السوفياتي
فيڤوسكي (Le
socio-constructivisme de Lev Vygotsky, 1896-1934) ونجسم شعار الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري "ساعِدني على
أن أتعلم بنفسي" («Aide-moi à faire seul», Maria Montessori, 1870-1952). تركونا أولياؤنا -يرحم والديهم- نتعلم بأنفسنا ولم يقتلوا مَلَكَة الإبداع فينا كما تفعل اليوم
روضات الأطفال "الحديثة".
المختصون في علم النفس لم ينتبهوا لإبداعات مجتمعنا في التعايش مع
"مجانيننا": قبل أن يغلق الغرب معتقلات الأمراض العقلية، كنا في جمنة
وفي كل المدن والقرى التونسية ولا زلنا نفتح قلوبنا وشوارعنا
لـ"مجانيننا"، لم نحرمهم يوما من حرياتهم ولم نقيدهم بالسلاسل ولم
نسلمهم لمعتقل الرازي بالعاصمة، زوّجنا البعض منهم فأنجبوا كفاءات في كل المجلات،
أطلقنا أيديهم فأسعدونا وأخص بالذكر أطرفهم وأشهرهم المدعو الساسي بن احمد، كان
ينظف شوارع جمنة وجامعها الوحيد قبل تأسيس البلدية، يغني لفريد الأطرش وأسمهان،
باختصار كان عَلماً وبعده لم تعد جمنة جمنتي.
الصيادلة
التونسيون أصبحوا تجار أدوية غربية باهضة الثمن مثلهم مثل تجار قطع الغيار،
واكتفوا بقراءة وصفات الأطباء كما يقرأ زملاؤهم تجار قطع الغيار ورقات
الميكانيكيين. استوردوا أدوية جاهزة ولم يصنعوا لنا أدوية تونسية في متناولنا.
البيولوجيون
التونسيون في مخابرهم طبقوا علينا حرفيا مواصفات التحاليل الغربية دون مراعاة
لنظامنا الغذائي المختلف عن الغرب.
إمضائي
يطلب الداعية
السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا -اقتداء بالمنهج
العلمي- أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض
رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى
كل مقال يصدر عَنِّي قد يبدو لكم ناقصا أو سيئا نرد بمقال كامل أو جيد، لا بالعنف
اللفظي.
Ma devise
principale : Faire avec les conceptions non scientifiques (elles ne sont pas
fausses car elles offrent pour ceux qui y croient un système d`explication qui
marche) pour aller contre ces mêmes conceptions et simultanément aider les
autres à auto-construire leurs propres conceptions scientifiques.
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط، الأحد 20 ديسمبر 2015.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire