lundi 27 septembre 2021

أشياءٌ لا تحدثُ إلا في تونس السبعينات ويَمَنِ الثمانينات ! مواطن العالَم والديداكتيك

 


هبطتُ اليوم صباحا فرحا مسرورا من حمام الشط إلى وسط العاصمة مع أنني نادرا ما أفرح ونادرا ما أفارق الأحواز الجنوبية إلا "للشديد الآوي". نزلتُ لأقابل صديق دراسة لم أره منذ تخرّجنا من جامعة مونفلوري سنة 1974 

(ENSET-ENPA, transformée aujourd`hui en ENSIT)، 

أي  منذ  41 سنة. كنت نفسيا مرتاحا جدا وأنا في الطريق إليه، راحة لا تشبهها إلا راحة المواعيد الغرامية أيام الشباب. خِفت أن لا أتعرف عليه، هاتَفني وأنا في ميترو حمام الأنف صديق مشترك (أبو صديقي الجميل الطريف هذا كان مدير مدرسة في الخمسينات ومن سنة 1958 إلى سنة 2014 أي على امتداد أكثر من نصف قرن كان له كل عام ابن أو اثنين يزاول تعليمه في الابتدائي، في الجملة 16 بين بنت وولد من زوجتين متلاحقتين ولا زال يأمر وينهى مديرا في الدار بعد ما كان مديرا في المدرسة). قلت له: كيف سأعرفه ؟ قال: "صَلُعَ الرجل وسَمِنَ". وصلتُ إلى مقهى باريس وكان لنا في المقاهي المجاورة في شارع بوريبة جلسات ونقاشات وصَولات وجَولات. تفرّستُ قليلا في الوجوه الجالسة على "الترّاس" وقصدته متأكدا، احتضنته واحتضنني وكأننا أولاد عشرين، ضحكنا ومزحنا مزاح الشباب وكأننا لم نفترق يوما وتذكرنا مقهى تونس ومقهى ثلاثة نجوم والاستعراض الذي قام به "بكل شفافية" ثلاثة أبالسة منّا فوق سطح قاعة الرياضة بمعهد باردو، وإضراباتنا التي كنا نملؤها غناءً، وزياراتنا المتباعدة لـدانيال، "أستاذة الروحانيات" بحثًا عن "الغذاء الروحي". مرّ شريط شقاواتنا التلمذية بسرعة في ساعتين، شقاوات لا يمكن أن يتخيلها ولا يقدر على إيتائها أشقى أشقياء تلامذة اليوم ولذلك كنا من أكثر الأساتذة تسامحا مع تلاميذنا طيلة 38 عام من الكد والجد. لم نربح من التعليم إلا شرف المهنة وراحة الضمير.

 

روى لي صديقي وزميلي بعض الطرائف الغريبة التي عاينها في يمن الثمانينات عندما كان يعمل فيها كأستاذ متعاقد (في تونس كان يدرّس علوم الحياة والأرض باللغة الفرنسية):

-  في نفس العام الدراسي اليمني كنت أدرّس باللغة العربية الفصحى الفيزياء خلال الثلاثية الأولى والكيمياء خلال الثلاثية الثانية وعلم الأحياء خلال الثلاثية الثالثة.

-  قِسمي الواحد في الحصة الواحدة كان يضم 110 تلميذ، كلهم مسلحون بالخنجر التقليدي أو المسدس لكنهم كانوا طيبين إلى درجة أنهم كانوا يتقبلون التأديب بالعصا لكنهم يثورون وقد يردّون الفعل بالعنف إذا صفعهم الأستاذ على الوجه. من حسن حظ الأستاذ أن جل التلاميذ لا يرجعون إلى قاعة الدرس بعد أول فسحة راحة صباحية لأنهم يلتحقون بأعمالهم الأصلية اليومية  كمعاوني بنّائين (مرمّة) أو سواق تاكسي. أحد تلامذتي في السنة الأولى ثانوي كان عمره 37 سنة أكبر من عمري آنذاك.

-  وأزف إلى قُرّائي الأعزاء أغرب حكاية حول التعليم سمعتها في حياتي: قال صديقي مسترسلا: تلميذٌ آخر من تلامذتي، صباحًا يدرس عندي في السنة الأولى ثانوي (16 عام)، مساءً يشتغل رسميا مدير مدرسة ابتدائية عمومية. التفسير: تقريبًا كل المدرسين في اليمن أساتذة ومعلمين كانوا متعاونين قادمين من الدول العربية الشقيقة فاضطرّت الحكومة اليمنية مُكرَهة على حصر تعيين المديرين في أصحاب الجنسية اليمنية فقط حتى ولو كانوا دون المستوى المطلوب مثل بطل قصتنا، وهذا يُعتبرُ نوعٌ من أنواعِ التكريس المشوّه لمبدأَ يَمننة اليمن.

 

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط، الاثنين 19 أكتوبر 2015.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire