ملاحظة: أنا يساري تونسي وكنتُ من رأيهم.
مقدمة
ضرورية: سأتناول في هذا المقال علمانية أقصى اليسار التونسي (Les gauchistes staliniens : PCT, POCT,
Watad & compagnies)، سأتناولها على
المستوى الفكري لأن أقصى اليسار -من حسن حظ تونس- لم يحكم حتى يطبقها. علمانية مشوّهة
ورثها فكريا عن الثورة الفرنسية المعادية للدين (1789) حيث كان شعارها الفظيع
(كنتُ أراه رائعًا): "شَنقُ آخر ملك بأمعاء آخر قِسّ". وورثها أيضًا عن
ستالين وممارساته البشعة ضد الأديان (مسيحية وإسلام) حيث هدم الكنائس والجوامع
وجعل من الإلحاد دينًا يُدرّس في الجامعات. حسب رأيي المتواضع، ستالين لم يكن
علمانيًّا بالمرة لأن العلمانية تحترم الدين ولا تعاديه، تبعده عن المجال السياسي
فقط.
لُبُّ الموضوعْ:
يعتقد اليساريون التونسيون بأن الدينَ مسألةٌ شخصية، وهو في الواقع مسألةٌ تهمّ المجتمع
أكثر مما تهمّ الفرد، وأخص بالذكر الدين الإسلامي، ديننا في تونس: كل طقوسِ أركانه
الخمسة تؤدَّى جماعيًّا، وقد تفقد معناها الديني لو أجبِر المسلم على تأديتها وحيدًا
معزولاً كما قد يقع أحيانًا لمسلمٍ مغتربٍ معزولٍ أو لمسلمٍ في سجن انفرادي. ويبدو
لي أن هذا الاعتقاد الخاطئ والسائد لديهم هو الحبلُ الذي قيّدوا به أنفسهم
وبأيديهم، مما أدّى إلى تقوقعهم وانحسارهم داخل المجتمع التونسي المسلم بنسبة 99%، والشعبُ ليس مسؤولاً عن
جهلهم بالدين ولا عن عدم إدراكهم بأن للعلمانية مقاربات متعددة ولا على فشلهم
الاجتماعي والثقافي والسياسي.
دعوتُهم لنفي
البُعد الاجتماعي للدين وإقصائه من الفضاءات العامة لا تعدو أن تكون إلا دعوةً غير
مباشرة، وقد تكون غير واعية، لاستئصال الدين من المجتمع، والواقع أن دينَنا لم يكن
لِـيصمدَ قرنَين من الزمن ضد الغزو الثقافي الفرنسي لولا بُعده الاجتماعي، أي منذ
غزوة نابليون لمصر سنة1798 . لذلك نرى المجتمع متشدّدًا دينيًّا أكثر من الفرد،
ونراه قد يغفر الأخطاء الفردية المخالفة للشرع والأخطر على المجتمع (الرشوة،
الربا، الاحتكار، الزنا، الشطط في الأسعار، إلخ) ولا يتسامح مع الأخطاء التي
تُرتكب في الفضاءات العامة رغم أنها أقل
ضررًا على المجتمع (الازدراء اللفظي العلني للمقدسات، الإفطار العلني في رمضان، البيكيني
في الشط، إلخ).
لماذا بقيتُ
أنا علمانيًّا إذن؟ بقيتُ ولكنني تطوّرتُ وتبنيتُ العلمانيّة على الطريقة الأنغلوساكسونية
المتصالحة مع الدين (sécularisation في أمريكا وكندا وبريطانيا وألمانيا والدول الأسكندنافية)، وتخليتُ عن العلمانيّة
على الطريقة الفرنسية (La laïcité)، أي العلمانيّة المعادية للدين والنافية لأدواره الروحانية والعملية في المجتمع، أي أصبحتُ غير معادي
للدين خلافًا لجل العلمانيين التونسيين (يساريين وليبراليين). بقيتُ علمانيًّا
لأنني أؤمن بالفصل بين الدين والسياسة خلافًا لكل الإسلاميين. السياسة تدخل في
مجال العقل، ولا شيء أفضل من العقل لسياسة الناس وتنظيم شؤونهم الدنيوية، أما
الدين فهو يتجاوز مدارك العقل، هو مجال المعجزات، تؤمن بها أو لا تؤمن، لا مكان فيه
لمنطقة رمادية بين الأبيض والأسود أو لمنزلة بين المنزلتين. والسياسة ترعاها
أحزابٌ تتنافس فيما بينها من أجل الوصول إلى السلطة والهيمنة على باقي الأحزاب الأخرى، يحدث هذا حتى في الأنظمة الديمقراطية، أما الدين فهو خٌنوعٌ كله وتسليمٌ
كله، خٌنوعٌ لله وتسليمٌ بمشيئته ورضاءٌ بقدره، وقناعةٌ بحلوه ومره.
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم
حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". حديث يمكن تطبيقه في الدين، لكن يبدو لي أنه من
المستحيل تطبيقه على الأحزاب السياسية: فهل يجوز أن نطلب من حزب الجبهة الشعبية أن
يحب لأخيه حزب النهضة ما يحب لنفسه؟ حزبان متنافسان متصارعان وسيبقيان كذلك ما
بقيت الديمقراطية، سُنّة السياسة في المجتمع وليست سنّة الدين.
ملاحظة ديونتولوجية: أيها العلمانيون التونسيون "à la française"، إذا لم يَرُقْ لكم رأيي
وأظن أنه لن يروقَ، فأنا أتحمّل مسؤوليتَه كاملةً غير منقوصة: "كنتُ يساريًّا
ماركسيًّا وكنتُ كذلك، واليومَ أصبحتُ يساريًّا غير ماركسي ولم أعُدْ كذلك!".
إمضائي
"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ"
جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الأربعاء 23 ماي 2018.
تقديم المقال
في حساب علي بالحاج علي (ڤبلي):
ولو ساد
هذا الخطاب ساحاتنا السياسية والثقافية لخمدت كل صراعاتنا البَينيّة، وما بقيتْ
إلا صراعاتنا المقدور على حسمها، عقلا، وقانونا، وسياسة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire