ملاحظة ديونتولوجية: كما أفعلُ دائمًا، طلبتُ إذنَه في النشر
وذِكرِ اسمِه ولقبِه فوافقَ دون تَحَفُّظٍ أو تَرَدُّدٍ.
كتابي
"جمنة وفخ العولَمة" أنبأ عني وجلبَ لي احترامًا كبيرًا.
دعاني أمس، الخميس 21 فيفري 2019، إلى قهوةٍ في بيته
برادس، شرّفني ابن "الحمادة"، القاضي الجمني المتقاعد، سي العربي بن
عميرة ("الحمادة" هو اسم الحي الذي ترعرعنا فيه الاثنان، أنا ومضيِّفي
الكريم، كلٍّ مع أنداده وفي جيله، يفوتني بعشرين عامٍ. نحن في جمنة لا نقول
"حومتنا" بل نقول "جِيهَتْنا").
دعاني لتجاذبِ
أطرافِ الحديثِ حول ما وَرَدَ في كتابي عن ذكريات الطفولة في جمنة الستينيات، ودون
ترددٍ لبّيتُ الدعوةَ وبسرورٍ، لبّيتُها استجابةً لِقِيمٍ جمنية قديمة، أظنها
انقرضت في القرن 21.
لم أجالسْه ولو
مرةً واحدةً في حياتي، لكنني أكنُّ له احترامًا شديدًا لِما بلغني عنه من رفعةٍ في
الأخلاق وعُلُوٍّ في الشأن. أليس جمنيًّا؟ والشيء من مأتاه لا يُستغرَبُ!
عائلتُه
الضيقة في تونس، لا أعرف منها إلا ابنتَه الكبرى نورا، صديقة افتراضية فيسبوكية
منذ سنوات.
عائلتُه
الموسّعة في جمنة، أعرفُها كلَّها، جاورتُ أفرادَها في طفولتي: أخوه الأصغر المرحوم الصغير أستاذ العربية العاشق
لجمالية لغة الضاد ثم عدل تنفيذ، أخوه الأوسط لمين وأخوه الأكبر المرحوم حْسونة وابنه عميرة حْسونة. لمين الضحوك يُعَدُّ من أطيبِ رجالِ "الحمادة"
وأخفّهم ظلاًّ. حْسونة والبسمة دومًا تعلو محَيّاهُ، بشاشةٌ لا تعترفُ بقساوةِ مُناخِنا.
أما "نِديدي" وصديقي عميرة فهو وبشهادة الجميع (Le plus souriant,
le plus sympathique et le plus serviable
parmi mes pairs).
نبذةٌ حول
سِيرةِ مضيِّفي الفريدةِ من نوعِها: وُلِد بجمنة سنة 1932. تعلّم القراءة والكتابة وحِفظ
القرأن في "خَلْوَةِ" جمنة (الكتّاب). في ذلك الزمن لا توجد مدرسة
ابتدائية في جمنة، تأسست سنة 1952 وكان مقرُّها الأول في حوش الحاج لْطَيِّفْ
الكائنِ في حيّنا، حي "الحمادة" تحديدًا. قال: [كل الجمنين يقرؤون
ويكتبون بفضل "الخَلْوَةِ" و كل الجمنين يعرفون "العُومْ"
بفضل "العين الڤديمة وجْوابي السّوانِي"]. في سن 13 (سنة 1945) أكملَ حِفظ
القرآن الكريم. تناقلتِ الأخبارُ أن مناظرةً في حِفظ القرآن ستُجرَى في العاصمة
(جمنة-تونس: 500كلم)، وأبوه لا يملك مقابلَ النقلِ، استلفَ 400 مليم وبعثَ ابنَه
إلى العاصمة (مسيرةٌ تقريبًا موازيةً: مثلُه خرجتُ من جمنة لإتمام دراسة الثانوي في
سن 13 سنة 1965، ومثلُه لم أعدْ إليها إلا زائرًا، لكنني لستُ مثلَه، فقد غادرتُها
وفي اليُمنَى شهادة السيزيام وفي اليُسرَى شهادة ختم الدروس الابتدائية، وصدري
خاويٌ من القرآن إلا من جزء عمَّ). نجحَ في المناظرةِ وحصلَ على جائزة كبرى: كتابُ
قرآنٍ وثلاثة دنانير (مبلغ مهم في ذلك الزمن). لم يرجعْ إلى جمنة وفضّلَ مواصلةَ
دراستِه بجامع الزيتونة حيث المبيت مجاني (تفسير، فقه، نحو، إلخ.). نالَ شهادة
"التحصيل" (ما يعادل الباكلوريا اليوم) ثم التحق بمدرسة الحقوق، دَرَسَ
فيها ثلاث سنوات قانون مدني بالعربية وحصلَ على الإجازةِ في الحقوقِ (عام 1955).
اشتغل معلمًا سنة واحدة ثم في سنة 1957 انتُدِبَ قاضيًا وهو لم يتخطّ سن
25. أمضَى 24 عامًا في القضاء ومثلها في المحاماة.
دَمِثُ
الأخلاق، بشوشٌ، بهيُّ الطلعة رغم الـ86 عامًا التي مرّت عليه بخريفها وربيعها.
بدأ حديثَه بتذكّر كُنياتَ بعض نساء جمنة المشهورات بفرادتهن في صفة حميدة من الصفات
كالفطنة أو الذكاء أو الحكمة أو التدبير أو الشجاعة أو خفة الظل، الله يرحم
الحَيّين منهن والميّتين (لو لم أكن متأكّدًا أنهن لا يرَيْن غضاضة في مناداتهن بِكُنياتهنّ
لَمَا عدّدتُها في مقالي هذا): العُوجَة، العُودَة، الهُوجَة، البِزْوِيطَة، تْلادَة،
المَنْجوهَة، المجنونة، الشلْكَة، الشْليْكة، الدِّبَّة، الدْبَيْبَة، دُبُوبَة، الفِيلَة،
المْشِيحِيطة، الدَّبْرَة، طِيطِشْ، العَمْشَة، الرَّبْشَة، الكرهبة، الرْڤَيْطة، الحَمْرَا، البِيضَا،
إلخ.
ثم عَرَّجَ
على ذِكْرِ حادثتَين وقعتا في جمنة في بداية الأربعينيات:
-
الأولى: سنة 1942، نفزاوة كانت تحت سيطرة دول
المحور (إيطاليا وألمانيا)، فريق من الجيش الفرنسي قادمًا من "الجزائر
الفرنسية" جاء إلى واحة المعمّر (واحة ستيل حاليًّا) يبغي التزوّدَ بالتمور.
اعترضه جيش الطليان ودارت معركةٌ ليليةٌ بين الفريقَين انتهت بموتِ جنرال فرنسي.
أقام له الفرنسيون نصبًا تذكاريًّا على شكل صليب من خشب النخيل جنب واد المالح،
سمّوه الجمنين "بوڤزازة"، وكلما مرّ ضباط فرنسيون كانوا يتوقفون لتقديم
التحية العسكرية لشهيدِهم.
-
الثانية: أربعة "ڤُطعِية جمنين"
هاجموا واحة المعمّر ليلاً بِقصد سرقة أموال، تصدّى لهم ناظر الواحة أحمد العكّاري
بالكرطوش. فشلوا فهربوا. قُبِضَ عليهم في الغَدِ وعوقِبوا بالسجن المؤبّد (لم أذكرْ أسماءَهم احترامًا
لعائلاتهم).
وحول
عائلة كشكار، عائلتي الصغيرة والفريدة في جمنة، أضافَ:
-
عمّك محمد كشكار كان فاخِرًا
أنيقًا (عمي هذا مات عام وُلِدتُ أنا أي سنة 1952، فسمّوني على اسمه، لكن النار
تخلّف الرماد، لستُ فاخرًا ولا أنيقًا).
-
حوشكم كان مُهابًا لأنه من الأحواش القلائل
جدّا في جمنة آنذاك التي لها بابٌ يُفتَحُ ويُغلَق وسقيفة باب.
خاتمة: ساعتان من متعة الذكريات مرّت في حضرته، ساعتان بالتمام
والكمال لم أدخّن فيهما سيجارة واحدة احترامًا لسنّه وحرصًا على صحته دون أن
يَطلُبَ مني ذلك. رافقني إلى الباب لطيفًا مُودِّعًا بعدما أهديتُه كتابي حول التعليمِ، تواعدنا على تجديدِ اللقاء،
وتصبحون على خير و"خُرّافَتْنا هابا هابا وكل عام تْجِينا صابة"!
إمضاء مواطن العالَم
أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا
الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى
الفردِيِّ وكُنْ كما شِئتَ (La
spiritualité à l`échelle individuelle).
"النقدُ
هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ
القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
"وإذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك
فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ
والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ
جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 22 فيفري
2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire