سيناريو من وحي الخيال الكشكاري: أبُ
يشتري "بورتابل" بمليون، في الدار يضعه فوق مكتبه، يأتي ابنُه ذو الثلاث
سنوات، يأخذه ثم يرميه أرضًا، لا ينكسر. يغضب الأب، يتعصّب، يومئ بيديه ورأسه
محذّرًا ابنَه من تِكرارِ فِعلتِه، وعوض
أن يُخبّئ "بورتابلوه"، يتوجه إلي ابنِه معاتِبًا ناصحًا مربّيًا،
مفسّرًا، شارحًا قيمة "البورتابل" المادية والمنفعية، ثم يُرجعُ "بورتابلوه"
إلى مكانه فوق الطاولة مطمَئنًّا لابنه "الذي استوعبَ المحاضرة
التربوية". أعاد الابن الكرّة و"دشدش البورتابل" وكأن أباه لم يقل
شيئًا. يخرج الأب من جلده ويعاقب ابنَه على ذنبٍ لم يقترفه. كيف لم يقترفه؟ الابنُ
لم يقترف الذنبَ الذي يتصوره الأبُ. الابنُ لا يعرفُ العَنَدَ طبعًا ولا قلة
التربية فكيف يفعل شيئًا لا يعرفه في عمره، صفاتٌ صغيرةٌ لا نجدها إلا عند الكبار. لماذا أعاد الفِعلةَ إذن؟ أعادها
استجابةً لدافعٍ داخلي في نفسه، دافعٌ لا علاقة له بأبيه ولا
بـ"بورتابلوه" وليس ردَّةِ فِعلٍ على ما أتاه أبوه. ربما يكون قد فعلها
للتأكد من نتيجة الحركة في حد ذاتها (اصطدام "البورتابل" بأرضية
"الصالة" والفرقعة التي يُحدِثها + غضبُ الأب الذي لا يعني للطفل شيئًا سوى
حركات بهلوانية غريبة عمّا تعوّد عليه عند أبيه من عِناقٍ وبَوْسٍ ومداعبةٍ وحِنيةٍ)،
والأكيد أن ثمن "البورتابل" لا يعنيه ولا تعنيه أيضًا استعمالاته ولا وظائفه. هل يترك
الأبُ ابنَه يفعل ما يشاء دون عقاب؟ لا.. يكتفي فقط بإبعادِ "البورتابل"
عنه ولا يعاقبه على ذنبٍ لم يقترفه فلا معنى لدى الطفلِ للذنب أصلا. ولو أبعده عن
ابنه لَما تهشّم وخسره.
لا يولَد
الأطفال ملائكة كما يعتقد الكثيون ولا شياطين أيضًا. يولدُ الطفلُ بشرًا طبيعيًّا
(L`homme de la nature: l`inné)، بشرًا غير مكتمل
الإنسانية ثم يكتسبُ إنسانيتَة شيئًا فشيئًا عبر تَفاعُلِ (Interaction + épigenèse) جيناته مع
محيطه (L`homme de l`homme: l`acquis). "جيناتُنا ما زالت تعتقد أننا نعيش في الغابة" (AND=logiciel
biologique, Yuval Noah Harari).
محتوَى
الحوار:
متفقدٌ غير
مونتيسوريٍّ زارَ "روضة مونتيسوريّة"
وقال للأطفال (3-6 سنوات): "افعلوا ما تريدون". أجابه الطفل: "لا..
نحن لا نفعل ما نريد وإنما نريد ما نفعل، إرادتُنا هي التي تحرِّكنا وتسمحُ لنا
بالفعلِ".
يجب أن لا
نتركَ الأطفالَ يفعلون ما يريدون لأن الطفلَ على طبيعته: يضرب، يكسّر، يفتك، ويعظّ
أيضًا (enfant dévié). يجب قيادته وتعليمه حسن الأخلاق (هذه نعم وتلك لا
ولا شيء آخر). لا يمكن أن يكونوا أحرارًا هؤلاء "الشياطين الرائعين المحبوبين"،
هم منقادون لغرائزهم.
أن تَتركَ طفلا لم يُربِّ بعدُ حريتَه وينمِّها،
تتركه حرًّا يفعل ما يشاءُ ، هذا الفِعلُ يُعدُّ بمثابة خيانة عُظمَى لمعنى الحرية
نفسِه. في البداية، يجب تهذيبُ حريتِه، صقلُها وتطويرُها، وعندما يعي ما يريد،
عندها فقط نتركه شيئًا فشيئًا حرًّا يفعل ما يريد. الحريةُ ليست شيئًا نمنحُه
فورًا ودُفعةً واحدةً.
الأطفال يُمثِّلون
أكبر قوة تغيير في المجتمع ويُرَتَّبون في الأهمية قبل النظام الاقتصادي ومنهم
ينطلق كل تغييرٍ.
مونتيسوري
قالت: "رغم أنني خصصتُ 40 عامًا من عمري في البحث عن الحقيقة لدى الأطفال،
فالطفولةُ ما زالت في نظري ينبوعًا لا ينضب أبدًا ومُولّدًا خصبًا لكل أملٍ.
الطفولةُ جسّمت أمام عينَيَّ وحدةَ الإنسانيةِ: يتكلمون تقريبًا في نفس العُمر
مهما كان المحيط الذي يعيشون فيه ومهما كانت هُويتهم أو ظروفهم الاجتماعية.
يتعلمون المشيَ، يفقدون أسنانَ الحليبِ في فترةٍ معروفةٍ من حياتِهم. أما في
المجالِ النفسي، فهم يتّصفون بنفس الصفات ويحملونَ نفسَ الإحساس".
الأطفال هم
بُناةُ البشرية، مُبدِعوها وصُنّاعُها: يتعلمون لغة أهلهم ويتقنونها وكذلك يتعلمون
الدين والعادات والتقاليد والأخلاق، لا يكتفون بتعلمِ خاصيات مجتمعهم الصغير وبلدهم
فقط، بل يتعلمون خاصيات المنطقة التي يترعرعون فيها أيضًا.
الطفل ينمو
بيولوجيًّا وذهنيًّا بالتفاعُلِ مع كل ما يقع تحت يده في محيطه: من أجل بناء
شخصيته، يأخذ عشوائيًّا كل ما يحويه محيطُه. لو كان محيطُه محدودًا (environnement) فسيكون مستقبلُه محدودًا أيضًا (œuvre). محيطُ المدينةِ
(الروضة أو المنزل) قد يكون محدودًا أكثر من المحيط الريفي (الفضاء الفسيح في
الطبيعة: جمنة نموذجًا) . في الريف أو المدينة، يجب الحِرصُ على
تربيةِ الطفلِ متناغمًا مع قوانينِ الطبيعةِ، مع صخورِها، نباتاتِها، حيواناتِها
الأليفةِ وحشراتِها.
الطفل هو
المواطنُ المَنسيُّ.
لو أدرك رجال
الدولة يومًا ما مدى القوة الكبيرة الكامنة والمحتملة في الطفل (خير أو شر)، أعتقد
أنهم سيعطوه الأولوية على كل المسائل الأخرى.
الطفلُ يبحثُ
عن السلامِ والتصالحِ الداخليِّ مع نفسِه قبل أن يبحثَ عنهما مع الآخرين، والتربيةُ
هي الوسيلةُ الأمثلُ لتحقيقِ هذين النوعين من السلامِ والتصالحِ وتَجنبِ الصراعِ
بين الأجيالِ.
لو ركّزَ
الكبارُ في تربيةِ الأطفالِ على الإنسانِ المتلائمِ مع الناسِ والطبيعةِ، لَقطعنا
مع الدائرةِ المفرغةِ، دائرةُ توريثِ العنفِ والصراعاتِ الدمويةِ بين الشعوبِ
والأممِ أو بين القومياتِ والأديانِ المتناحرةِ. لو.. سوف ينبثقُ من الطفلِ أملُ
السلمِ والسلامِ، ومنه يتحدد مستقبلُ المجتمعِ.
الإنسانُ هو
المسؤولُ الوحيدُ على حلِّ مشاكلِه، لو أهملَها عند بناءِ شخصيةِ الطفلِ فلن يفلحَ
في حلِّ أي مشكلٍ من مشاكلِه المتعدِّدةِ.
لا يولدُ
الطفل تجمعيًّا أو إسلاميًّا أو جبهاويًّا أو قوميًّا، ولا يولدُ رجعيًّا أو
تقدميّا أو انتهازيًّا أو مثقفًا مهذبًا. يتشكّل الأطفال حسب ما يفعلُه المحيطُ
والكبارُ بهم. فقبل أن نقولَ عن أطفالِنا أنهم قليلو تربية أو عديمو أخلاق أو ناقصو
ثقافة وعقل ودين، يجب علينا أن نسألَ أنفسَنا السؤالَ المحرجَ والمخجلَ التالي:
ماذا قدمنا لهم في طفولتِهم حتى لا يكونوا على ما هم اليومَ عليه؟
نبذة مقتضبة
حول حياة مونتيسوري، رائدة البيداغوجيا الحديثة العلمية:
وُلدت سنة
1870 في إيطاليا من عائلة بورجوازية، تخرجت طبيبة نفسية، فتحت عيادة ثم تخلت عن
مهنة الطب وتوجهت للبيداغوجيا، جددت فيها، ابتكرت، نظّرت، ألفت كتبًا ودرّستها في
الجامعة. حوالَي سنة 1921، هاجرت إلى إسبانيا بعد ما أغلق المعلّم الفاشي
موسولوني كل مدارسِها في إيطاليا. رحَّبَ بها العالَمُ الغربي في أوروبا
وأمريكا، هلّل لها وصفّق. بريطانيا، أمريكا أين التقت برئيسها، الهند سبع سنوات في
شبه إقامة جبرية بسبب ابنها الذي خرج من سجن هندي بأمرٍ من غاندي لكنها واصلت هنالك
تجاربَها وبثت في محيطها أفكارَها العبقريةَ. رحلت إلى هولاندا سنة 1947، أين
"استقرت" خمس سنوات ثم ماتت سنة 1952. حصلت على عدة جوائز من عدة دول
ورُشِّحت لجائزة نوبل للسلام وللأسف لم تنلْها. حياةٌ حساسةٌ رومنطيقيةٌ حزينةٌ
لكنها غنيةٌ جدًّا، غنيةٌ بالصدقِ والتواضعِ والمعرفةِ التربويةِ ذاتِ الطابعِ
الاجتماعيِّ البيداغوجيِّ العلميِّ التجريبيِّ وليس ذات طابع تأملي مثل طابع جان
جاك روسّو، أب البيداغوجيا الحديثة. كانت تقول: "كثيرٌ من المدارس في العالَم
تحمل اسمي لكنها لا تطبق بيداغوجيتي العلمية". وقالت أيضًا: "أنا أشيرُ
إلى القمرِ وكثيرونَ لا يرونَ إلا سبّابتِي".
المفارقة الكبرى أن مونتيسوري رائدة البيداغوجيا الحديثة العلمية، تركت
ابنها "ماريو" في مدرسة داخلية بأمرٍ من أبيه (ابن خارج إطار الزواج)
ولم تسترجعه إلا في سن 12 سنة. ماريو أخذ بعدها المشعلَ وواصلَ في نفسِ طريقِ أمّه البيداغوجيِّ العلميِّ، ممارسةً وتنظيرًا. من
باب المقارنة، أذكّر بمفارقة
كبرى أخرى حدثت قبلها لزميلها في الاختصاص جان جاك روسّو مؤسس البيداغوجيا الحديثة، هو
أيضًا تركَ أبناءَه يتربّون بعيدًا عنه في ملجئٍ للأيتامِ والمعوزينَ. أضعُ نقطةَ
استفهامٍ حول المسلّمةِ (Cliché) التي تقول:
"فاقدُ الشيءِ لا يُعطيهْ"؟
لماذا لم
يتبنّ العالَم الرأسمالي فلسفة مونتيسوري؟
مونتيسوري
تسعى إلى حثِّ التلميذِ على التعلمِ بنفسِه ولنفسِه وتقييمِ نفسِه بنفسِه دون
توجيهِ خارجيٍّ من الغيرِ (من أجلِ تحقيقِ أغراضٍ سياسيةٍ أو دينيةٍ أو انتهازيةٍ)،
والرأسماليةُ تحتاجُ وبسرعةٍ إلى مليونَ مهندسٍ، مليونَ طبيبٍ، مليونَ خبيرِ
محاسبةٍ، إلخ. فلسفتان مختلفتان بل متناقضتان، خطّان متوازيان لا يلتقيان. وحتى
الذين تبنّوا طريقتَها من الرأسماليين المستثمرينَ في المجالِ التربويِّ، للأسف
طوّعوها لأغراض مادية ضيقة وشوّهوها في حياة صاحبتِها وبعد مماتها.
إمضاء مواطن العالَم
"النقدُ
هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ
القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
"وإذا كانت
كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ
آخَرَ" جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الاثنين 4 فيفري
2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire