المدرسة الافتراضية هي
مستقبل التربية التونسية
ثمة ظاهرة حضارية
معاصرة أحدثت تغييرات جذرية داخل المؤسسات التربوية وخارجها، فقد خرج الشباب وحتى
الأطفال من حدود المدرسة إلى أقاليم جديدة بسبب الثورة الرقمية الافتراضية. إن هذا
الخروج الجماعي التلقائي أدى إلى اتساع سريع لحركة التواصل والتعبير والانفتاح على
الآخر ومنذ البدء كانت هذه الحركة كونية إذ ذابت فيها كل الفروقات العِرقية
والجهوية والقومية والطبقية والجنسية والدينية والعُمرية. وهكذا تحرر الجيل الصاعد
وحتى الشيوخ المواكبين من كل أشكال الهيمنة والقمع خاصة على مستوى التعبير
والتفكير، فلم يعد بإمكان أي سلطة أن تحتكر لنفسها وسائل التواصل وأن تعيد أشكالا
من الهيمنة واللامساواة في مجال الإعلام. إن سلسلة اللذائذ التي تتمتع بها هذه
الشريحة المستفيدة من الثورة الرقمية تفسر تحمسها للتحرر من سجن المدرسة.
إن انتشار التكنولوجيا
الرقمية يؤسس لمرحلة انتقالية بدأت تضفي على شبابنا المدرسي خصائص نفسية قد تجعل
منه جيلا نموذجيا، جيل متمرد على بعض التقاليد البالية المُقيدة للحرية. إننا أمام
حدث تاريخي، أمام ولادة إنسان جديد يمتلك وسائل إنتاج الإعلام وآلياته، وسائل قد
تحقق له استقلالية سوف يشعر من خلالها بحرية لامتناهية يتحرك بها داخل هذا العالم
بصفة مباشرة دون انتظار أي رخصة من أحد ودون أي نوع من القيود أو الشروط ودون مشقة
التعلم المطوّل أو حفظ ما لا يجب حفظه إذ بِنقرة واحدة على فأرة الحاسوب تنفتح
أمامك بنوك المعرفة العالمية من بداية تاريخ الإنسانية إلى اليوم.
لذلك نرى شبابنا تستهويه
المدرسة الافتراضية وينفر من المدرسة التقليدية، إنه اليوم في وضع بين بين. إن هذه
الازدواجية تجعل التعليم يتأرجح بصفة مرَضية بين عالمين: عالم سهل وسريع وممتع،
وآخر ممل وثقيل وفي بعض الأحيان محبط ومقرف، وهذا ما يفسر الواقع المأساوي الذي
تعيشه مؤسساتنا التربوية حيث تفجرت صورتها من الداخل والخارج. إننا نعيش اليوم شبه
ثورة كوبرنيكية لأن الفضاء التعليمي التقليدي لم يعد مركزا مشعّا ثابتا يفرض
جاذبية على العناصر المحيطة به، جاء مَن ينافسه، جاء الفضاء الافتراضي ذو الإشعاع
الأكبر والأفق الأوسع والأرحب والأفضل والأسهل والأسرع.
فضاء جديد، سرعان ما
استغله الشباب لكل أنواع التمرد والثورة والمتعة إلى حد المجون في بعض الأحيان
لمحاولة الخروج على النظام الأخلاقي المتكلس السائد ولا دواء لأمراض الحرية
المطلقة إلا مزيد من الحرية. هذا الفضاء الساحر جعل من مستعمليه أطفالا وشبابا
وشيوخا، نساءَ ورجالا، فقراء وأغنياء، يخطون خطوات عملاقة في التمتع بحياتهم
وكأنهم في حلم ويحققون بالتالي ذواتهم في ما يشبه النشوة الدائمة. إن الثقافة
الرقمية ليست فقط طريقا للمعرفة بقدر ما هي طريقة للانعتاق من رقابة العائلة
والمجتمع، طريقة تحول الآخرين إلى أصدقاء تسعد بلقائهم في تحدٍّ للجغرافيا
والتاريخ والدين والأعراف وكل أنواع الحواجز المكبلة لحرية الفرد من أجل تجاوز
المواطنية القومية العنصرية الضيقة إلى المواطنية العالمية الرحبة.
خاتمة
يتمحور الإصلاح
التربوي حول ثلاث نقاط هامة:
تتعلق الأولى بالقطيعة
المعرفية (La rupture épistémologique selon Bachelard) مع الماضي وعدم
الرضوخ لسراب الحنين النفسي إلى مرحلة الطفولة والشباب حيث كل شيء جميل.
والثانية تؤسِّس
الإصلاح على صورة جديدة للإنسان تتمثل في عدم اختزاله في بُعد واحد وذلك بتعديل
المقاييس حتى تكون الوسطية (Le juste milieu d`Aristote) هي المقياس النموذجي المناسب بحق لوضع الإنسان في هذا الوجود.
أما الثالثة والأخيرة
فتتلخص في السعي الحثيث لتحقيق وحدة المدرسة المعاصرة وذلك بتجاوز الانفصام
والازدواجية اللذان نعيشهما اليوم بين واقع مدرستنا النقلي السلوكي التلقيني (Le transmissif, le
béhavioriste, le scolastique) ومستقبلها العقلاني
البنائي الديداكتيكي (Le
rationnel, le constructiviste, le didactique).
إمضائي
وَ"إذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر" (جبران)
وَ"إذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر" (جبران)
تاريخ إعادة
النشر على النت: حمام الشط، الأربعاء 16 أوت 2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire