mardi 15 août 2017

مقدمة كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي سفر في الديداكتيك وعشرة مع التدريس (1956 - 2016)"، جزء 3. بقلم فيلسوف حمام الشط حبيب بن حميدة

 المَنحَى الانتقائي للمدرسة
لقد مثلت المدرسة الحديثة الطريق الأمثل لكل رُقِي اجتماعي وثقافي وقد أعطتنا صورة واضحة للصراع القائم بين القديم والجديد، بين الشيوخ والشباب، بين التخلف والتطور... فمنذ البدء استقطبت المدرسة كل القوى والطاقات التي تنزع إلى بناء مستقبل أفضل يحررها من نُظُمٍ تقليدية سلفية مُعَطِّلة جعلت من السكون شعارها الأبدي. لكننا نلاحظ أن لكل حركة حتى وإن كانت ثورية فهي قد تتعرض بطبيعتها إلى التعثر أو الرِّدّة أمام تراكم العوائق الداخلية والخارجية التي قد تفرضها السيرورة التاريخية لكل مجتمع. وبقدر ما كانت الحياة تتحول وتتطور، كانت مدرستنا تتراجع وتبتعد جزئيا وتدريجيا عن أهدافها الأصلية، وتنحرف عن طريقها السوي، وتتأخر في تحقيق مشروعها التربوي، وتتخلف عن مواكبة حركة زمانها.
سيادة المدرسة أصبحت مهدَّدة بظهور قِوى منظمَة تتطور بسرعة وتؤثر في الحياة العامة وقادرة أن تفعل في المدرسة ما فعله النظام التقليدي من قبل.
إن المجتمع الذي تحرر من الهيمنة السلفية أصبح اليوم يعيش أشكالا جديدة من التسلط، أشكالٌ منظمة ومعقلنة ولها القدرة على التوجيه والتوظيف والإرشاد وممارسة أساليب خاصة إلى حدود التحكم. وهكذا ستدفع المدرسة ضريبة التطور ذي النزعة الليبرالية الذي أفرز مجتمعا طبقيا عمّق بصفة واسعة وكلية كل مظاهر التفاوت واللامساواة.
إن مبدأ التنافس الحر على المستوى الاقتصادي انتقل إلى المدرسة ذاتها وتحولت هكذا إلى حلبة للصراع والتنافس والتناظر والسباق المجنون لبلوغ أقصى الحدود التي تقننها شكليا مقاييس ومعايير وسلالم تقييمية تبدو في ظاهرهها منطقية سليمة وعادلة ومشروعة. ولكن كل الدراسات تؤكد اليوم أن هذه الصورة الجديدة للمدرسة سلبت المدرسة الجمهورية (L`école républicaine) وظيفتها التنويرية وسلبتها أيضا استقلاليتها وأخرجتها من مهدها الإنساني وجعلت منها مقياسا نموذجيا للانتقاء حسب ترتيب تصاعدي يكون حده الأقصى رقما قياسيا مجردا يشرّع للفصل بين مجموعات مستقلة لكنها متفاوتة على مستوى التكوين والمردودية وعلى مستوى النجاح والفشل، وكانت النتيجة الإقصاء والتهميش وتعمَّق الشعور لدى العامة بأن المدرسة أصبحت لا تنتج إلا النخب وهي الشكل المعاصر للتمييز الفئوي المولد لليأس والكراهية، والطالب لتضحيات لا معنى لها تحول الأطفال والشباب إلى كائنات مغتربة مسلوبة الإرادة همها الوحيد الاستجابة إلى مطلب واحد ألا وهو النجاح والتفوق حسب ما يفرضه السُّلم الانتقائي التصاعدي. ومن أجل ذلك أصبح التعليم قضية حياة أو موت ومجال لكل التضحيات وبلغ التوتر أقصاه لدى الجميع وانتشرت داخل المجتمع طرق لامشروعة أخلاقيا وعلميا اقترنت بالممارسة التعليمية وتحولت المدرسة إلى فضاء نشكك في مصداقيته ونتهمه بفقدان براءته وبانحرافه عن مبادئ العدل وهذه حقائق لا ينكرها أحد لأن العدل هو أساسا اعتدال ينفي كل تطرف.
إن المدرسة أصبحت انتقائية في نتائجها ومتطرفة في أهدافها وتصوراتها لأن القياسات التصاعدية (عدد الناجحين)  يقابلها قياسات تنازلية (وصل عدد الفاشلين والمنقطعين إلى حوالي مائة ألف سنويا)، لكن كلها مجردة أي تتعلق بموضوعات قابلة لهذا التقييم الكمي الرياضي والإحصائي. فالمعدلات المدرسية أبعدت من حساباتها الذات البشرية بل اختزلتها في بُعد واحد يجعلها مجرد كائنٍ هشٍّ ضعيفٍ مُطيعٍ لا علاقة له بالبنائية الذاتية للفرد وحرية ضميره. لقد بلغ الانتقاء إلى درجة تجعل البعض يومن بأن الموت أفضل من الحياة. فكل انتحار لمواطن تونسي هو نتيجة لغياب وعي إنساني حقيقي يرفض فكرة الإنسان ذي البُعد الواحد وهو عبارة عن صرخة استغاثة وأمل في استعادة الفرد لحريته ليحيا ويقاوم كل أشكال الاغتراب ليعيش حياته من جديد.

إمضائي
 وَ"إذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر" (جبران)

تاريخ إعادة النشر على النت: حمام الشط، الثلاثاء 15 أوت 2017.
Haut du formulaire







Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire