lundi 22 avril 2013

محاولة فلسفية 6: أيهما أفضل: النقد البنّاء أم النقد الهدّام ؟ مواطن العالَم د. محمد كشكار



محاولة فلسفية 6: أيهما أفضل: النقد البنّاء أم النقد الهدّام ؟ مواطن العالَم د. محمد كشكار

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 20 جويلية 2011

أوحي لي بهذا المقال تعليق قارئ من قرّائي يقول فيه أن كل مقالاتي السياسية "مقالات هدّامة"! قد يكون هذا الأخير قصَد التجريح في شخصي من وراء نقده لمقالاتي و هو لا يدري أنه في الوقت نفسه قد منحني و قلدني وساما المشاركة في ممارسة الهدم لنظامنا العربي السياسي الحالي! و هل في بنائنا التونسي السياسي منذ 60 عاما ركنا لا يستحق الهدم؟ و هل يُشكر أو يُذم من يهدم فكريا بكل ما أوتي من قوة نظام بورقيبة و بن علي و ثالثهما حكم السبسي؟

أكثر الناس يصنفون النقد إلى بنّاء و هدّام. أما أنا، فيبدو لي أن النقد يكون دائما بنّاءً حتى و لو اقتصر على ذكر السلبيات و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "رحم الله امرِئا أهدى إليّ عيوبي". لو لم يكن البناء غير قابل للهدم لاستعصى عن معاوِلِنا التقليدية و لو كان هشا فحسنا فعلنا به و أرحنا الناس من شروره

تقتصر مهمة الناقد حسب رأيي على رصد السلبيات فقط و هو ليس مطالبا بتقديم البديل لما ينقد لأنه و بكل بساطة لا يملك البديل و لا يمكن أن يملكه أحد بمفرده مهما غزر علمه و زادت ثقافته و علت شهائده. ينبثق البديل من تفاعل ذكاء أفراد العينة المستهدفة بالنقد، مثلا أنا أنقد نظام التفقد البيداغوجي التونسي في بعض جوانبه السيئة التي تمسني في عملي كأستاذ و لست مؤهلا أن أعطي بديلا شاملا و جاهزا لهذا النظام فأهل الذكر من المتفقدين المستنيرين أدرى مني بشعابهم و قد يكون في حوزتهم مقاربة أشمل لتطوير اختصاصهم

من أطاح بـالرئيس المخلوع بن علي و شرع في هدم نظامه؟ النقد الهدام أم النقد البناء؟
ماذا فعل رجال العلوم السياسية، محترفوها و متطفلوها بالنقد البنّاء؟ كلهم دون استثناء شكروا و ثمّنوا و هللوا و صفقوا و ناشدوا و كتبوا قصائد في حب بن على و نظامه الفاسد. يبدو لي أن اختصاص العلوم السياسية، الرأسمالية و الاشتراكية، خُلق أساسا لتبييض وجه الأنظمة الرأسمالية المتوحشة و نظيرتها، الأنظمة الاشتراكية الديكتاتورية

ماذا فعل أمثالك و أمثالي و أمثال ملايين التونسيين، بالنقد الهدّام؟ خرجوا عزّلا ساخطين إلى شوارع مدن و قرى تونس، هم من كنس بن على و عصابة الطرابلسية. لكن للأسف الشديد، زرعوا و لم يحصدوا! بدؤوا و لم ينهوا! هدموا و لم يبنوا! لقد سرق ثورتهم "البنّاؤون" الذين اختصوا في الركوب على الثورات، ثورات أكرانيا و جرجيا و تونس و مصر و ليبيا و اليمن و سوريا

الهدم أسهل ألف مرة من البناء و لا يتطلب مختصين خاصة عندما يكون النظام فاسدا من الداخل، مثله مثل الثمرة المتعفنة التي تسقط بمجرد هبة نسمة. البناء أصعب و يتطلب صبرا و يستدعي مختصين، تستطيع أن تقتلع نخلة من جذورها بضربة آلة جرّافة لكن غِراسة نخلة تتطلب جهدا كبيرا و حفرة عميقة و رعاية يومية لمدة خمس سنوات على الأقل قبل أن ينعم الفلاح بدﭭلتها الذهبية اللذيذة في الفم و الغالية في السوق

يبدو لي أننا لا نستطيع الفصل الميكانيكي بين الهدم و البناء، لأنهما مفهومان متكاملان و متلازمان في الطبيعة و نجدهما مثلا في تحول الماء من سائل إلى غاز و من غاز إلى سائل: "الماء خليط من هيدروجان و أوكسيجان ...من ذا أتوم و من ذاك أتومان". يتحد غاز الأوكسيجان مع غاز الهيدروجان فيكوّنان جزيء الماء. تهدم الحرارة هذا الجزيء فيتحرر الاثنان و هكذا دواليك إلى نهاية الكون، هدم - بناء - هدم - بناء...لا وجود لاستقرار في الطبيعة رغم توهم العكس. الجسم البشري، مثلا، يَهدم و يَبني جميع مكوناته يوميا و يفقد و يجدّد مليارات الخلايا، تراه ساكنا و هو متحرك ماديا في مستوى النانو (جزء من مليار)، يهدم و يُعيد تشكيل جزيئاته المعدنية كل فمتو ثانية (جزء من مليون مليار

أقدّم لكم في النهاية نموذج الهدم و البناء في التعلّم و التدرّب لصديقي (أثناء انعقاد مؤتمرات التعلّمية بتونس) العالم البيداغوجي و التعلّمي الفرنسي أندري جيوردان
يتمثّل هذا النموذج في الاستفادة من التصورات غير العلمية للتلميذ و نفيها في نفس الوقت. مثلا: يتصور التلميذ أنّ النبتة الخضراء تتغذّى من التربة فقط. نفنّد تصوره هذا الذي يتأرجح بين العلمي و غير العلمي بالتذكير بالنباتات التي تعيش خارج التربة تماما  في الماء أو في الهواء مجهريه كانت أو مرئيّة و النباتات الطفيليّة التي تعيش على كاهل نباتات أخرى دون تربة. نتساءل و نقول: لماذا ننفي دائما جملة و تفصيلا تصور التلميذ ؟ فتصوره قد يحتوي على جزء من الجواب الصحيح فالنبتة تأخذ بعض غذائها المتمثّل في الأملاح المعدنيّة و الماء من التربة و تستخرج أغلب غذائها من ثاني أكسيد الكربون المتوفّر في الهواء المحيط بها عن طريق وظيفة التركيب الضوئي. يتعلّم التلميذ في هذه الحالة بالاعتماد على تصوراته القديمة (تتغذّى النبتة من التربة) و في نفس الوقت ضدّ هذه التصورات (تتغذّى النبتة من الهواء). يتكوّن هذا النموذج الثنائي المتضاد من العمل مع/و ضد التصورات غير العلمية للتلميذ و يتضمن عدة متناقضات يجب المحافظة عليها و إذكائها عند اختفائها و هي التالية
-         يتطلب التعلم مجهودا يتناقض مع اللذة, لكن قد يحتوي هذا المجهود على لذة تسمى لذة بناء المعرفة و هي محرك مهم للبحث عن الجديد
-         يعارض المدرس التلميذ و يكشف له عدم علمية تصوراته لكن في نفس الوقت يساعده على تجاوزها و على بناء تصورات علمية بديلة، مَثَلُه مثل الذي يهدي عكازين طبيين لمعوق عضوي قبل أن ينتزع منه عكازيه التقليديين
-         يفقد المتعلم توازنه الذهني عندما يتلقى معارف تنفي معارفه الراسخة و المريحة لكن في نفس الوقت يستطيع هضم المعارف الجديدة بمساعدة المدرس و الأقران فيستعيد توازنه الذهني و يبقى في حالة "توازن ولا توازن دائم" أو في حالة هدم - بناء - هدم - بناء...لا يستقر له وضع، في حالة تحول و تجديد و تطور دائم

إمضاء  م. ك.
الذهن غير المتقلّب غير حرّ
لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي
الكاتب منعزل إذا لم يكن له قارئ ناقد
عزيزي القارئ, عزيزتي القارئة، أنا لست داعية، لا فكري و لا سياسي, أنا مواطن عادي مثلك، أعرض عليك  وجهة نظري المتواضعة و المختلفة عن السائد, إن تبنيتها, أكون سعيدا جدا, و إن نقدتها, أكون أسعد لأنك ستثريها بإضافة ما عجزت أنا عن إدراكه, و إن عارضتها  فيشرّفني أن يصبح لفكرتي معارضين
البديل يُصنع بيني و بينك، لا يُهدى و لا يُستورد و لا ينزل من السماء (قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) و واهم أو ديكتاتور من يتصور أنه يملك البديل جاهزا





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire