المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016،
224 صفحة (ص.ص. 28-31).
ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية
واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900
نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل
أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.
النص:
في الخمسينيات وفي قريتنا، لا يوجد جزّار ولا بائع خضر ولا دكان مرطبات
ولا طبيب ولا صيدلية ولا مركز حرس ولا بلدية ولا مغازات لبيع الآلات الكهربائية
المنزلية. في قريتنا بشرٌ وفراشات وقطط وماعز وأزهار ونخل وزيتون ورمان وهواء نقي
وشمس ساطعة وعمدة اسمه الشيخ ابراهيم، مهمة هذا الأخير تتمثل في التوفيق بين الناس وسَتر عوراتهم والذَود عن
أعراضهم، وليس الوشاية بهم لدى السلطة البعيدة في مركز معتمدية ﭬبلي (15كلم). في قريتنا بيوت آمنة مفتوحة على الدوام وقلوب
صافية لا تعرف العنصرية ولا التكبر، ترحّب بالجار والضيف والبعيد والقريب.
نساؤنا
نساء ورجالنا رجال، يعمل الاثنان جنبا إلى جنب في الحقل والبيت دون تفرقة في الجنس
والحقوق والواجبات. يكفل الجار أيتام جاره، وقد يعوّض أباهم في الحنان والمسؤولية،
والجارة تضاهي الأم في الرقة والحب مع أولاد وبنات جارتها. أطفالنا يحترمون الكبير
وشيوخنا يربّون الصغير. بلادنا يا ناس من أجمل وأروع البلدان. كلمة جزار كلمة
مكروهة في الأخلاقيات البيولوجية وكلمة حرس مكروهة في الأخلاقيات الريفية لاقتران
الأولى بذبح الحيوانات والثانية بالسلطة المفروضة من الخارج. كل عائلة جمنية تُنتج
تقريبا كل حاجتها الغذائية أو تأخذها من الجار، إعارة أو هِبة. لا نربّي خرفانا
ولا أبقارا لأنها تأكل كثيرا وتشرب كثيرا )إنتاج كيلو لحم بقر يحتاج تقريبا إلى عشرة آلاف لتر
من الماء وفي الصحراء يعز الماء
ويندر الكلأ). نربّي ماعزا ودجاجا يرعى في حرية من الصباح إلى المساء ويُغذي نفسه
بنفسه تقريبا مثل النباتات الخضراء. لا توجد حنفيات في منازلنا، فلا نُبذّر الماء
ولا نستهلك منه إلا القليل الضروري. يعتمد نظامنا الغذائي على النباتات فنحن
تقريبا نباتيون، لا نذبح العنزة إلا في عيد الأضحى للضرورة الدينية أو عندما تكون
مريضة.
نشرب
حليب العنزة، و نأكل بَيض الدجاجة، ونستعمل فضلاتهم سمادا عضوياّ فلماذا نذبحهم يا
ترى؟ لا نعتدي على حيواناتنا الأليفة بالعنف وإلا لماذا نسميها أليفة ؟ أليفة
لأنها ألِفت من غدرنا وجشعنا ونَهَمِنا. نأكل الفرع ونحافظ على الأصل. لا نستهلك
السكر الأبيض والحليب الأبيض إلا في الشاي. لا يبيع دكان العطار عندنا أي نوع من
أنواع الياغورط أو الشكلاطة أو البسكويت
أو الجبن، أراحنا الله من الأغذية المصنّعة والملوّنة والمسرطنة. وِجبتنا بسيطة
جدا وبيولوجية مائة بالمائة لأننا لا نستعمل في إنتاج مكوناتها سمادا كيميائيا ولا
مبيدات أعشاب ولا مبيدات حشرات. نكتفي بما تنتجه الطبيعة ونقنع بالقليل لسد الرمق.
لا نصنع حلويات في عيد الفطر لاقتناعنا التقليدي غير الواعي أنها ليست غذاءًا بل سُموما
عسيرة الهضم تنهك "البنكرياس" والقلب والشرايين. نزرع الحبوب في السهول
فيسقيها مفرّج الكروب، نحصدها بالسواعد والمناجل، نفصل حبات القمح عن سنابلها
بطريقة تقليدية يدوية ونطحنها بِرَحَى
حجرية يدوية، ونغربلها ونصنفها برغلا وكسكسا وخبزا. مطبخنا فقيرٌ لكنه صحّي جدا، لم نكن نستهلك لا مَرَق لوبيا
ولا مرق جلبّان ولا مرق ملوخية ولا بطاطا مقلية ولا "طاجين" ولا أرز
بالفواكه ولا سمك، لا مقلي ولا مشوي. وجبتنا مغذية لكنها ليست لذيذة مثل أطعمة
المدينة.
اللذة
في الطعام يا سادتي يا كرام تصحبها عادة الأمراض: خذ مثلا الأكل المقلي أو الدسم،
يُعَدّ من أشهى الأطعمة لكنه يدمِّر القلب والشرايين، و قد تنخر أطباق الحلويات
المتنوعة الأسنان وترهق "البنكرياس" وتمهّد لمرض السكر، أمّا المصبّرات
المملّحة فقد ترفع مؤشر ضغط الدم. نطبخ
ونأكل في أوانٍ مصنّعة يدويا من الطين وخالية من النحاس والألومونيوم المسرطنَين .
نغسل هذه الأواني بالطين الأخضر أو بالصابون الأخضر الطبيعي. لا نستهلك من الطاقة
إلا القليل مما يطرحه نبات النخيل من خشب وجريد جاف. النخلة وما أدراك ما النخلة
في تراثنا وفي وجداننا، مصدر رزقنا وسعادتنا، نسقيها ونمدها بالسماد العضوي فقط.
لا نغشها ولا نسمّمها بالكيميائيات. نربيها سنوات بحب وحنان حتى تثمر على مهلها
"رطبا جنيا"، نأكل منه القليل ونبيع الكثير وما بقي نخزنه في أوعية
خزفية لنستل روحه في لطف وأدب على مدى الفصول الثلاثة الباقية. لا تمثل المعزة في
غذائنا الشيء الكثير ومع ذلك نكرمها ونرحب بها تسكن معنا في نفس المنزل ونعاملها
دون مبالغة كفرد من أفراد العائلة. كانت أمي تستيقظ في أنصاف الليالي عند صياح
معزتها لتراقبها وتقدم لها الماء والغذاء. كان الغائب منا يسأل في رسائله عن
العائلة وعن المعزات. عندما تلِد المعزة، نحتفل بولادتها ونقدم لها أكبر الرعاية
ولا نسرق حليبها الأول المتدفق الغني بالمضادّات الحيوية بل نتركه لابنها. ابنها
الجدي أو ابنتها العناﭬ،
يعني الذكر أو الأنثى، الذي أو التي يملأ أو تملأ ساحة البيت فرحا وبهجة بقفزاته
أو قفزاتها الرشيقة وهذه الصورة الرقيقة ما زالت عالقة بمخيلتي بعد خمسين سنة
وكلما تذكرتها غمرتني سعادة منعِشة.
في
الثمانينات، جاءنا المحتل متنكرا في زي التمدن والتحضر فأهلك الحرث والزرع، أصبحت بيوتنا من حجر أصم
مثل قلوبنا. جاءنا الحرس الوطني فأصبح الأخ يشتكي أخاه، والجارُ جارَه، لأتفه
الأسباب، فانقرض التسامح وسادت الوشاية. أغلقْنا بيوتنا بالمفاتيح فكَثُرَ السرّاق.
تخلى الكبير عن مسؤولياته التربوية فلم يعد يحترمه الصغير. تفشت فينا العنصرية
والقبلية وتهافتْنا على السلطة الزائفة.
في
التسعينات، جاءنا الخير الكبير والنخل الكثير والفضائيات العشوائية وأصبح لنا
مليونيرات وسيارات "ديماكس". أتمنى من كل قلبي أن لا يقتصر الغِنى على
الجيوب فقط ويشمل هذا الخير القلوب والنفوس أيضا فنتمسك أكثر بعاداتنا التقليدية
الجيدة ولا نأخذ من غول الحضارة إلا ما يفيدنا في نهضتنا ومأكلنا وتربيتنا
وثقافتنا.
الهوامش:
v جمنة: قرية جميلة في الجنوب الغربي التونسي على أبواب
الصحراء الرملية.
v ديماكس: نوع من السيارات اليابانية المستعملة في النقل
الفلاحي والتجاري والصناعي.
v طاجين: أكلة تونسية دسمة جدا وهي خليط متماسك من البيض والجبن واللحم.
v البنكرياس: غدة في الجسم تنتج الأنسولين وهو هرمون ينقل
السكر إلى الخلايا لحرقه فتخفض نسبته في الدم إلى 1 غرام جليكوز في اللتر الواحد
عند كل صباح.