تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 6 أفريل
2012.
نص هاشم صالح:
صفحة 244: وهنا أطمئن الخائفين وأطمئن نفسي قائلا: بأن ما سنربحه
بعد كل هذه العملية الجراحية (تطبيق المنهجية التاريخية والحفر الأركيولوجي على
تراثنا العربي الإسلامي كما فعل الغرب مع تراثه لكن بهدف تنقيته من الشوائب
والوثنيات وليس من أجل تحريفه أو محاربته) سيكون أكبر بكثير مما سنخسره. صحيح أننا
سوف نخسر أشياء عزيزة علينا، كنا قد تربينا عليها منذ نعومة أظفارنا، وشكلت وعينا
الأول وزهرة شبابنا (وأعترف أن هذا ليس بالقليل، من هنا يجيء خوفنا ورعبنا، ولهذا
السبب استخدمت مصطلح التحليل النفسي). صحيح أننا سوف نخسر "عقائد إيمانية"
راسخة منذ القرن الثالث عشر ميلادي، ولكنها في الواقع أيديولوجيات في معظمها. وهي
عقائد ترسخت حتى في أجسادنا وردود فعلنا، وذلك بحسب الفرقة "الناجية"
(شيعة أو سنّة أو إباضية أو صوفية أو غيرها) أو العائلة "الروحية" التي
ننتمي إليها.
صفحة 245: بهذا المعنى فإن الإسلام كان يمثل -على مستوى لحظة محمد
والقرآن- رسالة تشحن التاريخ بالممكنات، وتفتح في جدار التاريخ المسدود ثغرة
للانطلاق. وما كان هؤلاء المؤمنون الذين حرّكوا التاريخ آنئذ بسنّيين ولا شيعيين
ولا خوارج، بل كانوا مسلمين. هذه أشياء متأخرة أتت فيما بعد (أي بدءا من القرن
الثاني أو الثالث الهجري). ويمكن أن ندرس عملية تشكلها تاريخيا، وبشكل موثوق.
ولذلك فإن وضعها فوق مستوى التاريخ، واعتبارها بمثابة المتعالية والإلهية في حين
أنها تركيبات بشرية وتاريخية يعني الوقوع في أحضان الاستقالة العلمية الكاملة، أو
العمى التاريخي المطبق.
صفحة 246: هكذا نجد ضمن منظورنا أن القطيعة المعنية لا تعني إطلاقا
الانقطاع عن الإيمان أو اعتباره مسألة ثانوية لا أهمية لها، كما يعتقد الوضعيون أو
"التقدميون جدا جدا"... على العكس إننا نعتبرها مسألة المسائل، وعلى أساسها
يرتكز المشروع الفكري الذي أجد نفسي منخرطا فيه منذ سنوات عديدة شئت أم أبيت.
فالإيمان بالمعنى الذي نفهمه لا يتعارض مع التنوير بل يرافقه ويحتضنه. لأنه يعني
عندئذ الإيمان من خلال الفهم، والفهم من خلال الإيمان بشكل مستمر ولانهائي. ونحن
نعتقد أن الإيمان الإسلامي سوف يخرج أكثر قوة وصحة بعد كل عملية التعزيل التاريخي
التي ندعو إليها. فالله حق وعدل، وليس إرهابا وتخويفا كما حاولت أن توهمنا بذلك
تيولوجيا عصر الانحطاط والظلام الذي طال أمده.
المصدر: كتاب
"مخاضات الحداثة التنويرية. القطيعة الإبستمولوجية في الفكر والحياة."،
هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008، 391
صفحة. استعرته من المكتبة العمومية بحمام الشط. كتاب من أفضل الكتب التي قرأتها في السنوات الأخيرة
وأعتبر كاتبه من أعلم وأنضج الفلاسفة التنويريين العرب، وأعُدّه من أهم رواد
النهضة العربية الإسلامية المعاصرة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire