كتاب "مدخل إلى التنوير
الأوروبي"، تأليف هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيين
العرب، الطبعة الأولى 2005، بيروت - لبنان، 264 صفحة.
نص هاشم صالح
صفحة 127: جيوردانو برونو،
شهيد الأصولية المسيحية (1548 – 1600): وَشَى به أحد النبلاء الإيطاليين واسمه جيوفاني موشينغو
وسلّمه إلى محاكم التفتيش. وابتدأت عندئذ مأساته التي استمرت ثماني سنوات ولم تنته
إلا بحرقه حيا عام 1600 بالضبط. ويقال بأنهم قطعوا لسانه قبل أن يحرقوه، وذلك لأنه
تفوّه بكلام فيه تجديف وزندقة بحسب قرار محاكم التفتيش. بِمَ تتمثل زندقته؟ بقوله
إن الأرض ليست هي مركز الكون، وإنما الشمس، وإن الأولى هي التي تدور حول الثانية
وليس العكس.
صفحة 155: كانوا يقدمون المشبوه للاستجواب حتى يعترف بذنبه، فإذا
لم يعترف انتقلوا إلى مرحلة أعلى فهددوه بالتعذيب. وعندئذ كان الكثيرون ينهارون
ويعترفون بذنوبهم ويطلبون التوبة. وأحيانا كانت تُعطى لهم وينالوا البراءة. ولكن
إذا شكّوا في أن توبتهم ليست صادقة عرّضوهم للتعذيب الجسدي حتى ينهاروا كليا. وإذا
أصر المذنب على أفكاره ورفض التراجع عنها فإنهم يشعلون الخشب والنار ويرمونه في
المحرقة. وقد قُتل خلق كثير بهذه الطريقة الوحشية التي أصبحت علامة دالة على
العصور الأوروبية الوسطى.
ويقال أن عدد الضحايا الذين
ماتوا بهذه الطريقة يتجاوز عشرات الألوف، بل ومئات الألوف في كل أنحاء العالم
المسيحي. ومن أشهر الذين ماتوا حرقا المصلح التشيكي المشهور يوحنا هوس، وكان راهبا
مشهورا بإخلاصه وتقواه واستقامته الأخلاقية.
كان التعصب الديني ضاربا
أطنابه آنذاك في فرنسا وكل أنحاء أوروبا. وكان لويس الرابع عشر قد قرر
"تنظيف" المملكة الفرنسية من البرتستانتيين طبقا للشعار المشهور: مذهب
واحد، قانون واحد، ملك واحد! وقد أرسل لهذا الغرض الأصوليين المتعصبين الذين هجموا
على الأحياء البرتستانتية وهم يصرخون: "اقتلوا كل من ليس كاثوليكيا. وهكذا
راحوا يشنقون الناس نساء ورجالا، من شعرهم أو من أرجلهم. كانوا يعلقونهم في السقوف
فوق المداخن لكي يحرقوهم على نار بطيئة.. وكانوا ينتفون لحي الرجال أو شعر النساء
حتى آخر شعرة. وبعدئذ كانوا يرمونهم في النار المتوهجة التي أشعلوها خصيصا لهذا
الغرض، ولا يخرجونهم منها إلا إذا تخلوا عن معتقداتهم.. وفي أحيان أخرى كانوا
يربطونهم بحبال ويغطسونهم في آبار عميقة ويعيدون تغطيسهم مرات ومرات حتى يغيّرون
مذهبهم.
صفحة 157: نضرب على ذلك مثلا حادثة شهيرة حصلت في عز عصر التنوير
لشخص يدعى "دولابار"، فقد قطعوا يده لأنه كسر الصليب واقتلعوا لسانه ثم
أحرقوه أخيرا.. وكان شابا مراهقا لا يتجاوز عمره التاسعة عشرة.
صفحة 157: وأما عن محاكم التفتيش الإسبانية فحدث ولا حرج! فعندما
استسلمت مملكة غرناطة (وهي آخر دولة إسلامية في إسبانيا) عام 1492، وعدوا المسلمين
بالسماح لهم بممارسة شعائرهم الدينية مقابل خضوعهم للسلطة الجديدة. ولكنهم سرعان
ما نقضوا هذا الوعد وراحوا يلاحقونهم. ووضعتهم الملكة الشهيرة إيزابيل أمام خيارين
لا ثالث لهما: إما اعتناق المسيحية، وإما الطرد من البلاد. وقد اضطر قسم كبير منهم
لاعتناق الدين الغالب من أجل البقاء على قيد الحياة. ولكن مع ذلك ظلوا يلاحقونهم
ويشتبهون بهم وبأنهم يمارسون شعائرهم الإسلامية سرا واتهموهم بالزندقة وأشعلوا
المحرقة لمعاقبتهم جسديا. ولكن حتى هذا الحل لم ينجح كليا في حل المشكلة الإسلامية
في إسبانيا، فكان أن لجئوا إلى الطرد الجماعي. ففي عام 1609 - 1610 تم طرد ما لا
يقل عن 275 ألف شخص إلى البلدان الإسلامية المجاورة كالمغرب وتونس والجزائر بل
وبعض البلدان المسيحية الأخرى. وهكذا تم حل المشكلة عن طريق الاستئصال الراديكالي.
صفحة 157: وأما الفيلسوف "سبينوزا" فقد عانى من التعصب
اليهودي والمسيحي في آن. فقد حاول أحد اليهود المتعصبين اغتياله، ولكن ضربة الخنجر
لم تمزق إلا معطفه السميك لحسن الحظ (إضافة مواطن العالم: لقد ذكّرتني هذه الحادثة
بحادثة معاصرة مشابهة وقعت لنجيب محفوظ في مصر ومن ألطاف الله، أصابته السكين في
رقبته إصابة بليغة لكن غير قاتلة).
نعم هذا ما حصل في أوروبا القرن
السابع عشر، بل وحتى الثامن عشر، وهو ليس إلا فيض مما فعلته الأصولية آنذاك. فهناك
مجزرة "سانت بارتيليمي" الشهيرة التي ذهب ضحيتها عدة آلاف من البشر خلال
ليلة واحدة فقط، وأصبحت رمزا على التعصب المذهبي أو الديني. وهناك حرب الثلاثين
عاما بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين والتي اجتاحت ألمانيا ومختلف أنحاء أوروبا
وأحرقت الأخضر واليابس. وهناك، وهناك.
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 14 مارس 2012.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire