mercredi 17 avril 2019

هل ندرّس علوماً ومعارفَ أم قِيماً وأخلاقاً؟ جزء 2. مواطن العالم



3.     الوطنية الحقيقية:
أدرّس لقسم السنة الثالثة رياضيات محور التغذية منذ 15 سنة (أفضل الأقسام عندي وأَحَبّها إلى قلبي لقلة عدد تلاميذه ولارتفاع معدلاتهم عموما)، لي درس ثابت سنويّاً ، عنوانه "البسيسة": تتكون البسيسة من دقيق القمح أو الشعير المحمّص أو المحمي على النار بشدة والمطحون تقليديا وغير المكرّر صناعيا والمُصَفّى في غربال تقليدي. نضيف له ما شئنا من زيت الزيتون أو دقيق البقول أو الفواكه الجافة والمواد الغذائية الأخرى والنباتات الجبلية البيولوجية المعطّرة. دَرْسٌ غير موجود في البرنامج الرسمي. لسائل أن يسأل: ما هي العلاقة بين البسيسة والوطنية؟ البسيسة هي الراعي للوطنية والرافض للتبعية الغذائية الغربية. هزم غاندي بريطانيا باعتماده على الصناعة التقليدية الهندية للقطن والحرير المُحاكين يدويا على آلة تقليدية الصنع وبسيطة جدا. البسيسة سلاح من لا سلاح له، وجبة وطنية وتقليدية بامتياز، نظيفة من صنع أمهاتنا وبيولوجية خالية من المواد الكيميائية، سهلة الصنع والإعداد، وجبة كاملة ومتوازنة، غنية بالألياف فقيرة بالدهنيات تصلح للطفل والشيخ  والسليم ومرضى السكري والقلب والشرايين، غذاء متعدد الاختيارات (باللوز، بالحمص، بالشامية، بالحلبة، بالدرع، بالعدس، بزيت الزيتون، بالسكر أو بالعسل، معطرة بالإكليل أو الزعتر أو القشور الجافة للبرتقال الحلو، ألخ)، تسهّل مرور الطعام في الأنبوب الهضمي وتمنع القبض وتحمينا من سرطان القولون، غذاء اقتصادي جدا (كنت وأنا بمدينة ليون الفرنسية، أنهي دراساتي العليا، أكتفي في بعض الأحيان بكأس بسيسة غداء أو عشاء لقلة ذات اليد وغياب تشجيع البحث العلمي من قِبل الدولة التونسية)، أكلة غير طبقية لأنها مُستهلكة من كل فئات المجتمع التونسي، يستهلكها الغني والفقير، سهلة النقل في كيس من البلاستيك أو الكاغظ أو القماش، عابرة للقارّات، خفيفة الوزن، صديقة المسافرين و"الحرّاقة" (الشباب المغامرون الهاربون عبر البحر من تونس إلى إيطاليا بحثا عن لقمة العيش)، وجبة تُحفَظ خارج الثلاجة صيفا وشتاء، سهلة التناول في أي وقت وفي أي مكان وفي أواني بسيطة. لماذا لم نطوّر هذا السلاح الغذائي الرهيب لنتخلص من التبعية الغذائية الغربية المقيتة والمذلّة ؟ لماذا لم نصنّع البسيسة ونصدّرها على أوسع نطاق تحت علامة  ّصنع تونسي"، آه ثم آه، سبقنا الغرب وفعلها كما سرق بذورنا المحلية وسرق خرّيجي معاهدنا النموذجية الذين صرفنا عليهم دم قلوبنا وسرق علماءنا الذين تكونوا في جامعاتنا وسرق أمهر عمّالنا وسرق أفضل معارضينا السياسيين وسرق آمالنا وأحلامنا في النهضة والتقدم، كل هذه المصائب بسبب غياب القيمة الأساسية في أوطاننا، ألا وهي الحرية. لماذا لا نعلّب البسيسة ونغيث بها إخواننا في الدين الباكستانيين في محنة الفيضانات ونجهّز طائرات البسيسة ونزوّد كل منكوب بِكِيس بسيسة يسدّ به رمقه. لماذا لا نعطيها لمجة لأطفالنا في الروضات والمدارس الابتدائية؟ لماذا لا نجدها وجبة تُباع في المطاعم التونسية بنصف دينار للموظف التونسي الفقير حتى يفرّج عليه فرّاج الكروب؟ وهل بعد كل هذا الشرح المستفيض، تقولون لي: أفكارك أضغاث أحلام وصعبة التطبيق! أم يُستحسن بكم أيها المعارضون لكل فكر جديد، أن تُلصِقوا عبارة "أضغاث أحلام" على تسلّط حكّامكم القوميين الوطنيين رافعي الشعارات السياسية الديماغوجية مثل الوحدة العربية الناصرية أو الصدامية أو القذافية والاشتراكية اللينينية أو الستالينية أو الطائفية الإسلامية المتناحرة بين الشيعة والسُنّة أو المعارضة السياسية الصورية؟ أفَضِّلُ الاستثمار في صناعة وترويج البسيسة عن الاستثمار في صناعة القنبلة النووية.

4.     حرية المبادرة والصدق والأمانة العلمية والشفافية وتجنّب السرقة الفكرية:
نستطيع أن نُرسّخ كل هذه القيم في التلاميذ بتطبيق النموذج التربوي الحديث المتمثل في "بيداغوجيا المشروع" حيث يبادر التلميذ باختيار موضوع للبحث العلمي منذ الثانوي ويطوّره دون أستاذ رقيب على سكناته وحركاته، ينتفي الغش خلال إعداد المشروع المشترك وننمّي مكانه العمل داخل فريق متجانس علميا ونبعث الثقة في النفس وفي الغير ونعلّم التلميذ النقل الأمين من المصادر العلمية دون نسبة مجهودات الآخرين لأنفسنا.

5.     الاعتماد على النفس:
يحاول الأستاذ التخلي تدريجيا عن التدريس التلقيني العقيم ويترك المجال لتطبيق النموذج التربوي الحديث المتمثل في "المقاربة البنائية لبياجي وفيقوتسكي" حيث يصنع التلميذ معرفته بنفسه تحت إشراف أستاذه ودون توجيه "بافلوفي". يتعلم التلميذ قيمة الاعتماد على النفس فيتخرّج مواطنا واثقا من نفسه ومن قدراته التي بناها بنفسه ولم يمنحها له الأستاذ المؤطّر على شكل شهادة دكتورا يتباهى بها كتباهي زائر الكعبة بلقب حاج وقد سمعت في الجنوب الغربي التونسي، عن مهندس فلاحي، متخرّج حديثا، لا يعرف كيف يغرس نخلة، معلومة يعرفها أبسط فلاح أمّي عندنا.

6.     الاختلاف لا يفسد للود قضية:
يختلف العلماء فيما بينهم ولا يجاملون بعضهم  بل يعمّقون خلافهم وينشرونه بشفافية على صفحات المجلات العلمية وفي المؤتمرات العلمية ويجلسون مع بعضهم يشربون القهوة ويتبادلون النكات وينزلون إلى الشارع ويساندون القضايا العادلة كما يفعل العالم الفرنسي الكبير في علم الوراثة، ألبير جاكار، عندما يخلع أبواب بيوت مهجورة في باريس ليسكّن فيها عائلة صومالية أو عراقية دون مأوى ودون مصدر رزق كريم معرّضا نفسه للمساءلة القانونية.

7.     التقييم الذاتي والاعتراف بالفشل والإصرار على النجاح:
نحن المدرّسون التونسيون، يكفينا تعسّفا وظلما لملايين التلاميذ: نقيّمهم ونسند لهم أعدادا وشهائد ونحن لم ندرس علم التقييم. لماذا لا نطالب مدرسينا بشهادة في علم التقييم حتى يعلّموا تلامذتهم التقييم الذاتي. يعترف التلميذ بأخطائه عندما يكتشفها بنفسه وبمساعدة الأستاذ لذلك يبدو لي أنه يكون من الأفضل أن لا تُفرض عليه فرضا دون أن نمنحه الحق في النقاش. يعترف التلميذ بفشله بمحض إرادته وبمحض إرادته أيضا يصرّ على إعادة الكرّة والسعي إلى النجاح. بعض المدرّسين يفرضون على التلميذ في القسم الاستكانة والجبن والسكوت عن الظلم وعدم المعارضة ويغيّبون الديمقراطية تماما. في المقهى، يتغير الخطاب ويصبح المدرّسون المتقاعسون ثوريين فيلعنون سلطة القمع والاستبداد وغياب حرية التعبير. من هي السلطة يا ترى؟ المدرّس في القسم سلطة! فمن أمرك بالظلم ومن أباح لك شتم التلميذ وضربه أو إهانتهّ؟ إذا أنت لم تقدر على تغيير نفسك فكيف تطالب الآخرين بتغييرأنفسهم؟
نوبّخ التلميذ الذي يفشل ويخطئ وننسى أن أكبر العلماء أخطؤوا في مسيرتهم العلمية أخطاء فظيعة لا يرتكبها الآن تلميذ في السادسة أساسي. لقد تغير وضعُ الخطأ في القسم وأصبح إيجابيا بعدما كان سلبيا وهو كما يقول علماء التربية "محرّك القسم".
 
8.     الحرية:
قال جمال البنّا (أخو حسن البنّا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين المصرية سنة 1928)، أحد الفقهاء المصريين العِصاميين، غير المعترف بفقههم من قِبل علماء الأزهر لأنه يعارض الفقه المتكلس السائد، قال فيما معناه وليس حرفيا في قناة دريم 2 المصرية: لو كان للمذاهب بصمة كبصمة الإبهام عند الإنسان لكان التوحيد بصمة اليهودية (ربما لأنها أول ديانة توحيدية وصلت إلينا) والمحبة بصمة المسيحية والعدل بصمة الإسلام والمساواة بصمة الشيوعية والحرية بصمة الرأسمالية الليبرالية. أعلّق على ما قاله الفقيه مُضيفا: لم يحقق أي واحد من هذه المذاهب السماوية والأرضية بصمته على أرض الواقع وبقيت محنّطة في نصوصهم القديمة والحديثة لا لقصور في النظريات وإنما لعجز في البشر، كل البشر، المتعلّمين منهم والأمّيين، الأغنياء والفقراء، التقدّميين والرجعيين، الشيوعيين والإسلاميين، الكهول والشباب، المنتمين والمستقلّين والناس أجمعين . لم تحقق اليهودية التوحيد، ما زال اليهود الصهاينة يعبدون ناتنياهو وأوباما. لم تحقق المسيحية المحبة، ما زال المسيحيون الجدد يكرهوننا نحن العرب والمسلمين خاصة لسبب ودون سبب. لم يحقق الإسلام العدل منذ موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 13 هجري وحجب عنّا الحاكم المسلم المستبد الحرية ومعها العدل على مدى 1412 سنة. لم تحقق الشيوعية المساواة  بل خلقت طبقة هجينة من أعضاء الحزب الشيوعي تحكم باسم العمّال والفلاحين وتقمع بالحديد والنار العمّال والفلاحين والمثقفين المستقلين المعارضين. حققت الرأسمالية الحرية لكن أفرغتها من العدل، حققت الحرية للطبقة البورجوازية على حساب عرق العمّال والفلاحين الغربيين والشرقيين والعرب والهنود وغيرهم من المستضعفين في الأرض. فهل يتساوى في أمريكا الشمالية، المعارض اليهودي غير الصهيوني ناعوم شومسكي  في حرية التعبير مع اليهودي مالك قناة "السي آنان"؟

لكن من حسن حظنا، نحن المعذّبون في الأرض، حقق العلم وجمّع ووحّد البصمات الأربع الأخيرة لأن البصمة الأولى أي بصمة التوحيد الإلهي تخرج عن اختصاص العلم. مستعملي النت المتساوون (لا فرق بين أعرابي وأعجمي إلا بسرعة التحميل) يستطيعون الإبحار بكل حرية عدى بعض المطبّات التي ستزول إن شاء الله وشاء محرّك البحث "ڤوڤل". النت يوزّع المعلومات على جميع أنحاء العالم بالعدل والقسطاس. سكان العالم الافتراضي يحبون بعضهم بعضا ويتبادلون التهاني بمناسبة أعياد الميلاد والأعياد المحلية والعالمية ويَشْكُون هموم بعضهم لبعض ويختلفون في الرأي ويحافظون على صداقاتهم ويتصارعون فكريا وحتى وإن غضبوا فالنت يجنّبهم تبادل العنف المادي ويقاومون الظلم وغياب الحريات سلميا دون سلاح. سيصبحون قوة ديمقراطية إن شاء الله وشاء محرّك البحث "ڤوڤل" والحمد لله لقد أثبتت الثورة العربية سنة 2011 صحّة هذا الاستشراف.

يتميّز العلم عن كل هذه المذاهب ببشريته واستقلاليته وماديته وشكّه وضعفه الكامن في إمكانية تفنيده كما أشرت سابقا في مقالي "ما الفرق بين التفكير العلمي والتفكير الديني؟". يتميّز العلم عن باقي المذاهب البشرية بكونه النادي الوحيد الذي يجتمع فيه ويصلّي في محرابه، دون حرج ودون تمييز، المسلم والمسيحي واليهودي والرأسمالي والشيوعي والسني والشيعي والكاتوليكي والبروتستانتي والبوذي والملحد وغيرهم. يحاول كل طرف من مرتادي نادي العلم تدجينه وضمّه إلى صفه وهو، العلم، متكبّر وجبّار وعصيّ وصعب المراس أكثر من منتجيه. يحاول كل طرف تجميل نفسه بأزهار العلم دون التقرح بأشواكه. أنساهم سعيهم الدؤوب لاستغلال العلم  لأغراض سياسية رخيصة، أنّ قوته تكمن في هشاشته وظرفيته وقابليته للتكذيب والمراجعة في أي وقت وهو غير صالح لكل زمان ومكان. تتعسف الأديان والإيديولوجيات على نصوصها وتحاول توظيف اكتشافات العلم وحقائقه المؤقتة وهذا التعسّف يمثل اعترافا ضمنيا بتفوق العلم عليهم جميعا وفي جميع المجالات ما عدى مجال الإيمان بالله، مجال لا يخضع للتجربة المادية. يزيّنون بأحجار العلم الكريمة صدورهم جاهلين أو متجاهلين أن أحجار العلم الكريمة قد تتحول تحت مطرقة اكتشاف نظرية علمية جديدة  إلى أحجار غير كريمة تُنزلهم من سماوات الإيمان العليا إلى أراضي العلم الدنيا. لو تفكّروا وأفاقوا من غفوتهم لعرفوا أن الإيمان بالله لا يحتاج إلى إثباتات علمية تأكّده أو تنفيه لأنه اعتقاد روحاني ذاتي شخصي غير موضوعي في علاقة غيبية عمودية لا وساطة فيها للأنبياء ولا العلماء مهما علا شأنهم عند قومهم. أنا أتساءل: كيف يتكئ  الإيمان على العلم والعلم لا دين له ولا ملّة؟ الإيمان أزلي والعلم موضوع، الإيمان ثابت والعلم يغيّر جلده مع كل عصر دون حياء وعلى الملأ ، الإيمان يتمسك بقوة بتراثه والعلم يغربل وينتقد تراثه يوميا ويوظف الجيد منه ويترك الباقي في سلة تاريخ العلوم، العلماء بشر ليسوا مقدسين ولا معصومين من الخطأ والأنبياء بشر أيضا ليسوا مقدسين أيضا ولا معصومين من الخطأ إلا في تبليغ رسالتهم الإلهية رغم ما يضفونه عليهم أتباعهم من صفات لم يدّعونها لأنفسهم في حياتهم ولا نزلت في كتبهم. 

9.      العدالة:
أنا أثق في العلماء المثقفين المستقلين العَلمانيين، مؤمنين وغير مؤمنين، وأدعوهم عند الإمكان بالابتعاد عن الشركات الصناعية الحربية اللائنسانية حتى يستفيد من علمهم كل البشر وينتشر العدل بسلاح العلم رغم أنف الرأسماليين الجشعين والحكام الدكتاتوريين والعلماء الانتهازيين. المضادات الحيوية تشفي من الحمّى كل مريض دون تمييز عرقي أو ديني.

الخلاصة:
نحن ندرّس في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا علوما جافة دون قيم. يتخرّج من جامعات سنويا آلاف المهندسين والمعلمين والأساتذة والأطباء والمحامين وغيرهم، حاملين علما لكن فاقدين للقيم السامية المشتركة بين البشر أجمعين. فكيف سننهض بآلات بشرية فاقدة للإنسانية؟ علينا في تعليمنا بالجمع بين العلوم والقيم ولا نترك هذه المهمة للعلماء المختصين المحتكرين للمعرفة أو للدجالين السياسيين الانتهازيين المرتزقة أو للدعاة الجهلة بالدين والدنيا  أو لمحترفي الأنترنات. لا يختلف حول قيم العلم اثنان ولا تحمل قيم العلم أحكاما مسبقة ولا تلزم أحدا بتطبيقها ولا تعاقب أحدا على تركها لكن يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوّه.

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 31 أوت 2010.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire