mardi 16 avril 2019

هل ندرّس علوماً ومعارفَ أم قِيماً وأخلاقاً؟ مواطن العالم



هل ندرّس في مؤسساتنا التربوية معارف أم قيما؟ هنا يكمن السؤال؟
أبدأ بنقل هذا الحوار العلمي الشيق حول هذا السؤال:
-         قال المنظّر في البيولوجيا والبيوفيزياء والعضو في الهيئة الاستشارية للأخلاق في علوم الحياة والصحة، "هنري أتلان"، 1994: " تَصْدُرُ أقوال العلماء أنفسهم من قِيمهم الذاتية، على الأقل كما تصدر من معرفتهم الموضوعية".
-         الصحافية العلمية والكاتبة الفرنسية "كاترين بوسكيه"  طرحت على "أتلان"، السؤال التالي حول البيولوجيا (1994): "هل البيولوجيا تُحدّثنا على الحياة؟ حياتُنا؟... خاصة عندما يتعلق الأمر بمعرفة كيف يجب أن نعيش؟ نحب؟ نتألّم؟.. نموت؟ لا يسعنا إلا الجواب بِـلا على هذا السؤال. نلاحظ أن التجربة المعيشة ليست في الحقيقة موضوع البيولوجيا. في الواقع، العلوم، حتى المنتسبة منها للحياة، ليس لها الشيء الكثير لتقوله حول هذه الأسئلة الوجودية".
-         أتلان: "جدلٌ وقع بين سقراط وبروتاڤوراس حول موضوع كيف ندرّس الفضيلة؟: بالنسبة لسقراط، يكفي أن ندرّس العلوم، ومعرفة الحقيقة تؤدي حتما إلى معرفة الخير. أما بالنسبة لبروتاڤوراس، يجب تدريس الشعر الملحمي: الخير ليس نظرية هندسية أو قاعدة فيزيائية، الخير هو تقمّص نفسيّة البطل. لقد سَخِرنا من بروتاڤوراس لكن ماذا يحصل اليوم؟ التلفزة تدرّس الأخلاق ببث صور تثير السخط أو الإعجاب. إذن، لقد كان بروتاڤوراس على صواب في جميع ما قاله".
-         بوسكيه: هل تأسف لذلك؟
-         أتلان: نعم ولا. لا أتأسف لذلك لو أدى الأسف مرة أخرى إلى إعادة تأهيل الموقف الذي يدافع عنه سقراط في هذا الحوار لأن هذا الموقف وهمي. لكن أقول نعم، أتأسف لأن التعليم الشامل للأخلاق التي يقوم به الإعلام هو مجرد غضب أخلاقي وليس أخلاقاً.

النظام الأساسي الرسمي التونسي يُقرّ في نصوص مادة علوم الحياة والأرض ما يلي: "مجالات المعرفة التي تغطيها المادة تهم مباشرة حياة الإنسان وصحته وعلاقاته بالمحيط البيئي واستغلال الثروات البيولوجية والجيولوجية مما يعطي هذا الفرع من المعرفة بُعدا تربويا كبيرا يحمل قيما ومواقفَ وسلوكيات تصب في صالح الصحة والبيئة".

هل يقوم المدرّس التونسي بتطبيق ما جاء في النظام الأساسي الرسمي؟ أشك في ذلك كثيراً! خاصة فيما يهم القيم العلمية الإنسانية الراقية. سأضرب لكم مثلا يؤكد شكي: أستاذُ علوم صديقي سأل مرةً  زميلته في نفس المادة: "هل تدرّسين تلامذتك وسائل الوقاية من مرض السيدا؟" أجابَته بكل الوثوق، وثوق منه العلم براء: "طبعا لا، لأن من ارتكب معصية يتحمل وحده وِزر ما فعل من عقاب إلهي". أبدأ بالتعليق العلمي على قول الزميلة المحترمة: "يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه" لأن التلميذ غير الواعي بوسائل الوقاية قد يساهم في انتشار السيدا دون قصد وقد يصبح هذا المرض (IST) وباءً، وباءً قد لن يسلم منه أي فرد من المجتمع لا قدر الله. ثانيا، سأردّ عليها إنسانيا ودينيا ولا أرى أي تناقض في تعريف الأخلاق السامية بين ما يقوله العلم وما يقوله الدين: الأوّل يصل إليها عن طريق الإقناع والتجربة والخطأ، والثاني يأمرنا بواسطة الوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، أمّا القوانين الوضعية فتحاول تقنين ما توصّل إليه العلم وما جاءت به الأديان السماوية والأرضية. للأسف نسيتْ هذه الزميلة أو تناستْ أن التشفي في المريض هو فِعلٌ غير أخلاقي، فِعلٌ تُنكره وتحرّمه كل الشرائع السماوية والأرضية حتى ولو أخطأ المصابُ عن قصد وأساء إلى نفسه. يحتاج المريض، مهما كان دينه أو سلوكه، إلى علاج ومواساة عوض اللوم والمحاسبة. توعية المريض علميا ووقاية السليم صحيا قد تَحُدّا من انتشار المرض المُعدي وتضمن السلامة لباقي أفراد المجتمع. أستنتج أن الزميلة لم تتمسك بميثاق وزارة التربية التونسية ولا بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان ولا بدينها الحنيف الذي يجرّم عالِماً لا يفيد الناس بعلمه وينهَى عن الإيذاء بالنفس والغير.

في الفقرة الموالية وبحكم اختصاصي، سأحاول التطرّق إلى القيم البيولوجية الإنسانية الراقية التي يعتقد البعض أنها حكرا على الأديان والإيديولوجيات. نحن ندرك الآن أن العلم منحاز وليس موضوعيا كما سبق وأن ذكرت في مقال سابق "هل العلم موضوعي أم متحيّز؟". ينحاز العلم ويخدم مَن ينتجه ونحن نستورده فكيف نطلب منه أن يكون في صفنا؟ عندما نُصبح في صفه إن شاء الله وشاء عقلنا، سيكون من جانبنا وضد عدونا الداخلي قبل الخارجي المتمثل في جهلنا وتخلفنا وكسلنا ونفاقنا وعنصريتنا العرقية والدينية وتكبّرنا على الأقل منا طبقيّاً وإقصائنا للآخر بِدعاوى باطلة وإيماننا بالغيب في مسائل مادية غير غيبية.

سأعدد على سبيل الذكر لا الحصر بعض القيم العلمية المفيدة للبشرية جمعاء:
 1.   العمل الجماعي
لم يَعُدْ بوسعِ أي عالِمٍ منزوٍ في مخبره أن ينتج شيئا مهمّا لاستحالة الإلمام بعديد الاختصاصات الضرورية. قال العالم "المصري-الأمريكي"، صاحب جائزة نوبل في الكيمياء (1999)، أحمد زويل في حديث تلفزي:  "قبل هجرتي إلى الولايات المتحدة لإتمام دراساتي العليا، كنا معشر البحّاثة في جامعة الإسكندرية، يقفل كل واحد منا على بحوثه الخاصة في خزانته حرصا عليها من عيون زملائه. سافرتُ إلى أمريكا حاملا معي قُفلي (mon cadenas)، وعندما وصلتُ إلى مخبر الجامعة الأمريكية أخرجتُه، سخر مني زملائي الأمريكيين قائلين أن بحوثنا جميعاً تكمّل بعضها البعض فلا داع للقفل يا أستاذ. ضحكتُ من جهلي ومن تخلف البحث العلمي عندنا. توصلتُ لاكتشافي الذي نلتُ بموجبه جائزة نوبل  بفضل فريق من العلماء المتعاونين في كنف العمل الجماعي الشفاف.
 2.     التنمية المستدامة: القناعة كنز لا يفنى
أدرّس للسنة الثالثة رياضيات التنمية المستدامة، هذا المفهوم العلمي الجديد نسبيا الذي يحث على عدم الاستغلال المفرط للمصادر الطبيعية للإنتاج كالتربة والبحر حتى لا نلوثها فنتركها إرثا فقيرا للأجيال القادمة. التنمية المستدامة تجعل من مصادر إنتاجنا الغذائي كنزا لا يفنى. حتى لا تَنعتُ بعض العقول العربية القاصرة أفكاري بأضغاث أحلام وتنظير فلسفي يستحيل تطبيقه، أسوق لكم تجربة دولة النورفاج الناجحة في التنمية المستدامة وهي الدولة المصنفة عالميا منذ سنة 2000، على رأس الدول التي يطيب فيها العيش: أعدّت الدولة إستراتيجية أخلاقية (نعم أخلاقية وليست غلطة مطبعية)، لإدارة ثروتها النفطية، إستراتيجية لم يسبقها إليها أحد وأكيد لن تقلدها الحكومات العربية الجشعة. هذه الإستراتيجية تتمثل في ادّخار نسبة من أرباح البترول الحالية للأجيال القادمة على شكل صندوق تنموي (2004)، وفي ميثاقه القاضي بعدم عقد صفقات تجارية مع شركات الصناعات الحربية اللائنسانية مثل صناعة الأسلحة الكيميائية والنووية والبيولوجية وقد طَبَّقَ الصندوقُ مقاطعته الفعلية على أربع شركات كبرى.

ألوم حكومة النورفاج على إهمالها لحقي القانوني كمواطن يحمل بطاقة تعريف عالمية وحق المليارات أمثالي في حصة من ثرواتها النفطية. الثروات النفطية النورفيجية، ثروات أحفورية، صنعها تاريخ الأرض الجيولوجي عبر أربع مليارات من السنين ولم يشارك في صنعها نورفيجي واحد، بل لم يكونوا موجودين أصلا عند تشكّلها في باطن الأرض. لماذا إذن يحتكر استغلالها النورفيجيون وحدهم؟ ثقتي في النورفيجيين كبيرة وأكيد سيدخرون نسبة أخرى للإنسانية جمعاء! كذلك الثروات النفطية والغازية في السعودية وقطر والجزائر وليبيا والعراق وبريطانيا والكويت وأمريكا! لماذا لا تُؤمَّمُ كل الثروات الباطنية العالمية وتُقسّم عن طريق الأمم المتحدة ويصبح لكل تونسي دخل سنوي محترم حلال محلّل من رَيْع ممتلكاته الطبيعية العالمية في النورفاج وروسيا وكندا؟ يستحضرني في هذه اللحظة مثال تونسي ساخر ومعبّر جدّا: "يَحلم الكلب، يَقلِي الفطّار  (صانع الفطائر) ويعطيه، قام في الصباح فوجد نفسه مربوطا في سلسلة حديدية".

أما نحن العرب، فحالنا يسرّ العدو ويحبط الصديق: السعودية تزيد في إنتاجها نكاية مجموعة الأوبيك للدول المنتجة للبترول كلما طالبت بالزيادة في الأسعار. السعودية تُفرّط في ثروتها النفطية للأمريكان والبريطانيين بأبخس الأثمان، لِمَ لا وهُمُ حماةُ نظامها الحاكم الديكتاتوري. مصر تبيع غازها بأبخس الأثمان لعدوها الإسرائيلي وتترك مواطنينا يموتون من الازدحام في طوابير لشراء قنينة غاز المطبخ. حكومة "المجاهدين الجزائريين الثوريين الوطنيين الأولى بعد الاستقلال" أبرمتْ صفقة سرية مع الحكومة الفرنسية الاستعمارية تسمح لهذه الأخيرة بإجراء تجارب نووية في الصحراء الجزائرية. في المقابل  سبق وأن تعرضنا لِما تفعله حكومة النورفاج لصالح أجيالها القادمة، أما  حكومة الجزائر فقد ادّخرت هي أيضاً  لصالح أجيالها القادمة، ادّخرت إشعاعات نووية مسرطنة!
يُتبَع...

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 31 أوت 2010.




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire