تاريخ أول
نشر على النت: حمام الشط في 20 جويلية 2011.
أوحَي إليّ بهذا المقال تعليقٌ
من تعاليق قارئ من قرّائي، قال فيه أن كل مقالاتي السياسية "مقالات هدّامة"!
قد يكون هذا الأخير قصَد التجريح في شخصي من وراء نقده لمقالاتي وهو لا يدري أنه في
الوقت نفسه قد منحني وقلدني وسام المشاركة في ممارسة الهدم لنظامنا العربي السياسي
الحالي! وهل في بنائنا التونسي السياسي منذ 60 عاما ركن لا يستحق الهدم؟ وهل يُشكر
أو يُذم من يهدم فكريا بكل ما أوتي من قوة نظام بورقيبة وبن علي وثالثهما حكم السبسي؟
أكثر الناس يصنفون النقد إلى
بنّاء وهدّام. أما أنا، فيبدو لي أن النقد يكون دائما بنّاءً حتى ولو اقتصر على
ذكر السلبيات وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:
"رحم الله امرئ
أهدى إليّ عيوبي". لو لم يكن البناء غير قابل للهدم لاستعصى على معاوِلِنا التقليدية
ولو كان هشا فحسنا فعلنا به وأرحنا الناس من شروره.
تقتصر مهمة الناقد حسب
رأيي على رصد السلبيات فقط وهو ليس مطالبا بتقديم البديل لما ينقد لأنه وبكل بساطة
لا يملك البديل ولا يمكن أن يملكه أحد بمفرده مهما غزر علمه وزادت ثقافته وعلت
شهائده. ينبثق البديل من تفاعل ذكاء أفراد العينة المستهدفة بالنقد، مثلا أنا أنقد
نظام التفقد البيداغوجي التونسي في بعض جوانبه السيئة التي تمسني في عملي كأستاذ
ولست مؤهلا أن أعطي بديلا شاملا وجاهزا لهذا النظام فأهل الذكر من المتفقدين المستنيرين
أدرى مني بشعابهم وقد يكون في حوزتهم مقاربة أشمل لتطوير اختصاصهم.
من أطاح بـالرئيس المخلوع بن
علي وشرع في هدم نظامه؟ النقد الهدام أو النقد البناء؟
ماذا فعل رجال العلوم
السياسية، محترفوها ومتطفلوها بالنقد البنّاء؟ كلهم ودون استثناء شكروا وثمّنوا وهللوا
وصفقوا وناشدوا وكتبوا قصائد في حب بن على ونظامه الفاسد. يبدو لي أن اختصاص العلوم
السياسية، الرأسمالية والاشتراكية، خُلق أساسا لتبييض وجه الأنظمة الرأسمالية المتوحشة
ونظيراتها، الأنظمة الاشتراكية الديكتاتورية.
ماذا فعل أمثالك وأمثالي وأمثال
ملايين التونسيين، بالنقد الهدّام؟ خرجوا عزّلا ساخطين إلى شوارع مدن وقرى تونس، فهُمُ
من كنس بن على وعصابة الطرابلسية. لكن للأسف الشديد، زرعوا ولم يحصدوا! بدؤوا ولم
ينهوا! هدموا ولم يبنوا! لقد سرق ثورتهم "البنّاؤون" الذين اختصوا في
الركوب على الثورات مثل الذين ركبوا على ثورات أكرانيا وجورجيا وتونس ومصر وليبيا
واليمن وسوريا.
الهدم أسهل ألف مرة من البناء،
فهو لا يتطلب مختصين، خاصة عندما يكون النظام فاسدا من الداخل، فيصبح مَثله كمَثل
الثمرة المتعفنة التي تسقط بمجرد هبة نسمة. البناء أصعب ويتطلب صبرا ويستدعي مختصين،
تستطيع أن تقتلع نخلة من جذورها بضربة آلة جرّافة لكن غِراسة نخلة تتطلب جهدا
كبيرا وحفرة عميقة ورعاية يومية لمدة خمس سنوات على الأقل قبل أن تنعم بدﭭلتها
الذهبية اللذيذة في الفم والغالية في السوق.
يبدو لي أننا لا نستطيع الفصل
الميكانيكي بين الهدم والبناء، لأنهما مفهومان متكاملان ومتلازمان في الطبيعة
ونجدهما مثلا في تحول الماء من سائل إلى غاز ومن غاز إلى سائل: "الماء خليط
من هيدروجان وأوكسيجان ...من ذا أتوم ومن ذاك أتومان". يتحد غاز الأوكسيجان
مع غاز الهيدروجان فيكوّنان جزيء الماء. تهدم الحرارة هذا الجزيء فيتحرر الاثنان
وهكذا دواليك إلى نهاية الكون، هدم - بناء - هدم - بناء...لا وجود لاستقرار في
الطبيعة رغم توهم العكس. الجسم البشري، مثلا، يَهدم و يَبني جميع مكوناته يوميا ويفقد
ويجدّد مليارات الخلايا، تراه ساكنا وهو متحرك ماديا في مستوى النانو (جزء من
مليار)، يهدم ويُعيد تشكيل جزيئاته المعدنية كل فمتو ثانية (جزء من مليون مليار).
أقدّم لكم في
النهاية نموذج الـ"هدم\بناء"
(Modèle allostérique:
Construction\Déconstruction\Construction et ainsi de suite)،
مقاربة الـ"هدم\بناء"
في التعلّم والتدرّب لصديقي (أثناء انعقاد مؤتمرات التعلّمية بتونس) العالم البيداغوجي
والتعلّمي الفرنسي أندري جيوردان:
يتمثّل هذا النموذج في الاستفادة من
التصورات غير العلمية للتلميذ ونفيها في نفس الوقت. مثلا: يتصور التلميذ أنّ
النبتة الخضراء تتغذّى من التربة فقط. نفنّد تصوره هذا الذي يتأرجح بين العلمي
وغير العلمي بالتذكير بالنباتات التي تعيش خارج التربة تماما في الماء أو في الهواء مجهريه كانت أو مرئيّة
والنباتات الطفيليّة التي تعيش على كاهل نباتات أخرى دون تربة. نتساءل ونقول:
لماذا ننفي دائما جملة وتفصيلا تصور التلميذ ؟ فتصوره يحتوي على جزء من الجواب
الصحيح فالنبتة تأخذ بعض غذائها المتمثّل في الأملاح المعدنيّة والماء من التربة وتستخرج
أغلب غذائها من
ثاني أكسيد الكربون المتوفّر في الهواء المحيط بها عن طريق وظيفة التركيب الضوئي
(La photosynthèse).
يتعلّم التلميذ في هذه الحالة بالاعتماد على تصوراته القديمة
(تتغذّى النبتة من التربة) وفي نفس الوقت ضدّ هذه التصورات (تتغذّى النبتة من
الهواء). يتكوّن هذا النموذج الثنائي المتضاد من العمل مع/ضد التصورات غير العلمية
للتلميذ ويتضمن عدة متناقضات يجب المحافظة عليها وإذكائها عند اختفائها وهي
التالية:
-
يتطلب
التعلم مجهودا يتناقض مع اللذة, لكن قد يحتوي هذا المجهود على لذة تسمى لذة بناء
المعرفة وهي محرك مهم للبحث عن الجديد.
-
يعارض
المدرس التلميذ ويكشف له عن عدم علمية تصوراته لكن في نفس الوقت يساعده على تجاوزها وعلى بناء
تصورات علمية بديلة: يهدي عكازين طبيين لمعوق عضوي قبل أن ينتزع منه عكازيه
التقليديين.
-
يفقد
المتعلم توازنه الذهني عندما يتلقى معارف تنفي معارفه الراسخة والمريحة لكن في نفس
الوقت يستطيع هضم المعارف الجديدة بمساعدة المدرس والأقران فيستعيد توازنه الذهني
ويبقى في حالة "توازن \ لا توازن دائم" أو في حالة هدم - بناء - هدم -
بناء...لا يستقر له وضع، في حالة تحول وتجديد وتطور دائم. التوازن الفكري الدائم:
موت ذهني قبل الموت البدني!
إمضاء مواطن العالَم
"الذهن غير المتقلّب ذهنٌ غير حرّ".
لا أحد مُجبر
على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن
يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي
يطلب الداعية
السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج
العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض
رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى
كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
"الكاتب منعزل
إذا لم يكن له قارئ ناقد".
عزيزي القارئ, عزيزتي القارئة، أنا لست داعية، لا فكري
ولا سياسي, أنا مواطن عادي مثلك، أعرض عليك
وجهة نظري المتواضعة والمختلفة عن السائد, إن تبنيتها, أكون سعيدا جدا, وإن
نقدتها, أكون أسعد لأنك ستثريها بإضافة ما عجزت أنا عن إدراكه, وإن عارضتها فيشرّفني أن يصبح لفكرتي معارضون.
البديل يُصنع بيني وبينك، البديل
لا يُهدى ولا يُستورد ولا ينزل من السماء (قال تعالى: إن الله لا يغير ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وواهم أو ديكتاتور من يتصور أنه يملك البديل جاهزا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire