مقدمةٌ منهجيةٌ
قد تبدو لغير الغوّاصينَ مجاملةً:
مثل أمين معلوف
وقبل أن أقرأه، لم يكن عندي موقف واضح وحاسم من الزعيم وما زلتُ، أقصد نظام
عبد الناصر وليس شخص عبد الناصر، رغم أنني لا أبرّئه من تحمل مسؤولية الأفعال
الشنيعة التي وقعت تحت حكمه، أقصد المسؤولية السياسية والأخلاقية وليست الجنائية
فأنا لستُ قاضياً.
أما مريديه
القوميين الناصريين فلي منهم موقفٌ واضحٌ جدّاً: لا أشك في نواياهم الحسنة ولي
فيهم أصدقاء قلائل أحترمهم جدّاً جدّاً. والله العظيم أعشق جمال الذي في أمخاخهم،
وليس جمال الذي حكم فطغى وتجبّر. والله أحب جمال مثلهم أو ربما أكثر منهم، أحب جمال
الوحدة، جمال العروبة، جمال الشهامة، جمال السيادة القومية، جمال حق تقرير المصير،
جمال الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، جمال قاهر الباشوات المصرين والمتمصّرين،
جمال عدو الغرب الاستعماري ومؤسس منظمة دول عدم الانحياز، جمال صديق شي ڤيفارا!
لماذا أشكك في
الزعيم ولا أشكك في نوايا القوميين
التونسيين الناصريين الصادقين؟ لأن هؤلاء الأخيرين تمسكوا بغايات عبد الناصر
النبيلة وأنا مثلهم، لم يستلموا السلطة في تونس بعدُ، فلا نعرف إذن هل سيستعملون
نفس وسائله أم لا؟ حكمي النهائي عليهم يبقى إذن مؤجلاً إلى أن يأتي ما يخالف ذلك،
ولأنني أحبهم بصدقٍ فإنني أتمنى أن يتجنبوا وسائله لو وصلوا إلى السلطة، وسائله التي أقل ما يُقال فيها أنها كانت وسائل غير نبيلة بالمرة، والله يهدينا ويهدي الجميع لما
فيه خير للأمة العربية من المحيط إلى الخليج!
احتراماً للميت ولأتباعه
الأحياء، سأبدأ بما له قبل ما عليه.
نص أمين معلوف:
1.
ما له:
-
ما زلتُ وإلى اليوم متردّداً في تحديد موقفٍ
نهائيٍّ من عبد الناصر ومن نظامه: كان آخر الزعماء العمالقة العرب، وكان يمثل ربما
آخر فرصة توفرت للأمة العربية من أجل النهضة والإقلاع واللحاق بالأمم المتقدمة. (مواطن
العالَم: فرصةٌ ضاعت فغرقنا في أوحال الوهابية وتطرف الإسلام السياسي
لـ"العنكوش"!).
-
موتُه المبكر ترك حرقة في قلبي وفي قلوب جميع
العرب، أحن كما يحن كثير من العرب إلى عهده (مواطن العالم: بالنسبة لي- كيساري
تونسي غير ماركسي- لا أحن إلى عهده).
-
جنّد كل طاقته لمقاومة الهيمنة الاستعمارية
الغربية.
-
بين يومٍ وليلة، أصبح عبد الناصر معبود الجماهير
في بلده وفي الشرق الأوسط كله وفي بلدان المغرب العربي الأربعة. منذ قرون، لم ينجح
زعيم عربي في بعث الأمل مثلما نجح هذا الضابط الثلاثيني الوسيم صاحب الصوت المخدِّر
والخُطب البليغة الرنّانة المبشِّرة بِغدٍ أفضلَ.
-
شخصية عظيمة تشبه شخصية شرشل، الوزير الأول
البريطاني: إلاهان بوجهين، رجلان من طينة عالية لعبا أدواراً تاريخية جديرة
بالإعجاب، لكن وفي نفس الوقت وأحياناً في نفس اللحظة لعبا أيضاً أدواراً كريهة بل
مدمِّرة.
2.
ما عليه:
-
مباشرة بعد ثورة 52، اتخذ حُزمةً من الإجراءات
القمعية: مصادرة، سجن، نزع ملكية، تأميم، إلخ. بهدف سلبِ الأقليات الأجنبية أملاكهم،
لا لذنبٍ اقترفوه بل لكونهم أقليات احتفظت بهُويتها وثقافتها وتعايشت مع السكان
الأصليين في وئام وسلام، ولكون بعضهم يحمل جنسية دول العدوان الثلاثي في 56 بعد
قرار تأميم قناة السويس (فرنسا، بريطانيا، إسرائيل). وبهذه الإجراءات التعسفية
أصدر عبد الناصر حكماً بالإعدام على مصر الليبرالية والعالمية (L`Égypte cosmopolite
et libérale): تسبب في هجرة مكثفة لكل
الأقليات "المتمصِّرة" على ضفاف النيل، البعض منها منذ عدة أجيال والبعض
الآخر منذ عدة قرون. الأقليات، هُمُ اللبنانيون، السوريون، اليهود، الأرمن، اليونانيون،
الإيطاليون، الفرنسيون، الأنڤليز، الأتراك، إلخ. هذه الأقليات كانت تفضل حكم الباشوات على حكم
العسكر، وكانت تنظر بعين الرضا إلى تواجد الجنود البريطانيين في مصر، وترى فيهم
ضمانة للاستقرار عكس ما يراه السكان الأصليون من الأقباط والعرب. أقليات عوقبت على
مواقفها اللاوطنية، تستحق العقاب بتلك الكيفية أو لا تستحق؟ تلك هي المسألة.
- مقارنة بين ما فعله عبد الناصر وما فعله مانديلا عند
تعرّضه لنفس الإشكالية (كيفية التعامل مع الأقليات الأجنبية اللاوطنية بعد
الاستقلال أو بعد الثورة): مانديلا لم ينتقم من البِيض العنصريين المستعمرين
الاستيطانيين في جنوب إفريقيا رغم أن هؤلاء الأخيرين رموه في السجن لمدة 26 عام. عند
انتصاره وتسلمه للسلطة، كل ما كان يشغل باله يتلخص في التالي: هل من مصلحة بلدي أن
يبقى البيض أو يهاجروا؟ يبدو أنه يكون من الأفضل لبلدي الاحتفاظ بالأقلية البيضاء
رغم تاريخها العنصري واللاوطني، أفضل لاستقرار
البلاد، لاقتصادها، لحُسن سَيرِ مؤسساتها، لصورتها في الخارج. يجب تشجيع أعداء
الأمس على عدم الهجرة. اللحظة التاريخية المعبّرة التي تجاوز فيها مانديلا آلام
الماضي وسكرة الانتصار، كانت يوم زار أرملة عدوه الوزير الأول الأسبق الذي رماه في
السجن وشرب معها كأس شاي وطمأنها على المستقبل.
-
أخطأَ وبشكل كبير وفي مسائل مهمة، أخطاء لم تترك
في محيطها إلا المرارة والندم وخيبة الأمل: ألغَى التعددية الحزبية والجمعياتية وأرسَى
مكانها الحزب الواحد، ألجم الصحافة التي كانت نوعاً ما حرة تحت النظام السابق،
اعتمد على جهاز المخابرات لإسكات معارضيه المحليين، وضعَ حدّاً وبشكل تعسّفي لحرية
المبادرة ثم أدار الاقتصاد المصري بطريقةٍ بيروقراطية غير ناجعة، طريقة أدت أخيراً
للإفلاس، خطاباته القومية الديماغوجية
قادته مباشرة إلى الهاوية وأخذت معه كل العالم العربي...
خاتمة مواطن العالَم: الزعيمُ، غاياتُه
نبيلةٌ (الوحدة العربية، العدالة الاجتماعية، تقرير المصير، تحرير فلسطين، إلخ.)
لا أشك في هذا كما لا أشك أيضاً في عدم نُبلِ وسائله (إلغاءُ التعددية الحزبية، تكميمُ
أفواه المعارضين وضربُ حرية الصحافة والنشر التعبير، قمعُ المعارضين يساريين
وإخوان مسلمين، مراقبةُ الشعب والتضييقُ عليه
دار دار زنڤة زنڤة، عن طريق جهاز مخابرات "ناجع جدّاً"، إلخ.).
الخلاصة: الغاية لا تبرّرُ
الوسيلةَ! موقفي من عبد الناصر
موقفٌ حائرٌ يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ موقفَ المؤلف العربي-اللبناني-الفرنسي أمين معلوف، عضو
الأكاديمية الفرنسية منذ 2011
(Un jugement très mitigé,
je dirai plutôt défavorable).
إمضائي: و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك
فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
Référence: Le naufrage des civilisations, Amin Maalouf, Grasset, 332 p, 22 €, pp. 38-46
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الثلاثاء 23 أفريل
2019.