vendredi 2 septembre 2022

رأيٌ ضد السائد حول مقولة "الماضي كان أفضلَ"

 

 

"الماضي كان أفضلَ" (C’était mieux avant): كليشيه ذاتي وغير موضوعي ولا يعبّر إلا عن حنينٍ لفترة الطفولة أو الشباب.

توضيحٌ هامٌّ: مفردة الماضي (avant) يعني بها الفيلسوف ميشيل سارّ تحديدًا "فترة ما قبل سنة 1950".

-         إنسانُ اليومِ ضاعَفَ "أمل حياته" (l’espérance de vie)، من معدّل 40 عامًا وصل تقريبًا إلى معدّل 80. إنسانُ اليومِ قد يصل إلى سن السبعين وهو لم يعانِ من أي ألمٍ حادٍّ وذلك بفضل بركاتِ الأدوية المسكِّنة (les antalgiques et les anti-inflammatoires).

-         كل المسنّين اليوم تقريبا لهم أسنان (طبيعية أو مركّبة)، أي يستطيعون أن يمضغوا ويبتسموا.

-         الأمراض الجرثومية (les bactéries et les virus) كانت تحصد الأرواحَ بالملايين في أزمنة الأوبئة والجوائح (les épidémies et les pandémies). جلها اليوم يُعالَج ويُشفَى بفضل اكتشاف البينيسيلين والتلقيح فأصبح لنا جسمٌ جميل نحبه، نفتخر به ونعرضه شبه عارٍ أو عاريًا تمامًا على الشُّطْآنِ في الصيف أو على خشباتِ المسارح في الفصول الأربعة (إضافة المؤلف محمد كشكار: في تقاليدنا، نحن ما زلنا نرى في التعرّي المفضوح عيبًا كبيرًا، سواءٌ ظهر على الشُّطْآنِ أو على خشباتِ المسارح).

-         قبل سنة 1950، كان الطبيبُ الأوروبي يقولُ: "أنا أعالج والرب يُشفِي". اليوم أصبح يقولُ: "أنا أعالج وأنا أُشفِي" (إضافة المؤلف محمد كشكار: في تقاليدنا، نحن ما زلنا متمسّكين بإيماننا بحبلِ العافي الشافِي والحمد لله وما زال الطبيب المسلم يقول: "أنا أعالج والله يُشفِي").

-         في أوروبا مرّ علينا أكثر من سبعين عامًا ونحن نعيش في سلام متواصل دون حربٍ إلى درجة أننا نسينا أننا ننعم بالسلام ولسنا في حرب (فيلسوفي المفضّل مات قبل عدوان روسيا على أوكرانيا)، بالرغم مما تنقله لنا قنواتنا المرئية من كمٍّ هائل من مآسي الحروب والإرهاب. هل تعرفون أنها المرة الأولى في تاريخنا التي يحدث فيها أن نعيش أطول عصرٍ كله سلام، وهل تعرفون أن البشرية كافة ومنذ نشأتها لم تَعِشْ في سلام إلا ما يساوي نسبة 6% من مُجْمَلِ تاريخها ؟ (إضافة المؤلف محمد كشكار: هل تعرفون أن هذه المعلومات السارّة تنطبق علينا أيضًا، نحنُ التونسيون بالذات !).

 

تعليق المؤلف محمد كشكار:

"الماضي كان أفضل"، مَقولةٌ يرددها مَن فاتَهم القطارْ من الكبارْ. كل مَن تجاوزَ سن الشبابِ، يحنّ بطبيعة الحالِ إلى سنينِ شبابِه. سنون الحب والصحة والعافية، سنون عدم تحمّل المسؤولية العائلية، سنون الاتكال على الغير، سنون كرمِ وتعاطفِ الأم والأب والجيران والجارات والأصدقاء والصديقات. سنونٌ لا يطؤها الطبيبُ ولا الدائن ولا القلق ولا الملل. سنونٌ تمثل قمة السعادة حتى ولو لم تتوفر لها أسبابُها المادية. سنونٌ تتغيّر حسب عمُرِ ذاكِرِها، فلو كان المتحدِّثُ في عُمُرِي (سبعون عامًا) لحددها في ستينيّات وسبعينيّات القرن العشرين، ولو كان في الأربعين من عمره لحددها في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن العشرين. الفترة الذهبية عادةً ما تكون مرتبطةً بعمر الشباب فالحكمُ عليها إذن ذاتي وليس موضوعيًّا، يراها المرء بعينٍ متحيّزةٍ لا بعينٍ مجرّدةٍ ولكل واحدٍ منّا عيناهْ ولكل ذكراهْ ولكل ليلاهْ.

مِن جهةٍ أخرى كيف كان الماضي أفضلَ، ونصف المجتمع (المرأة) كان مغيّبًا عن الفضاء العام ، مجتمعٌ كان يأكله الجوعُ والجهلُ والمرضُ ويسرحُ القَمْلُ في رؤوس أغلبية أفراده ؟

كيف كان الماضي أفضلَ، ونصفُ العالم يحكمه حكّامٌ ظالمون ولشعوبهم قاهرون والنصف الآخر يحكمه رأسماليون ناهبون جشعون أو شيوعيون مزيّفون وباسم العمال في العمال يستغلّون ؟

كيف كان الماضي أفضلَ، وفلسطين كانت ومازالت محتلة ؟ وسبتة ومليلة كانت ومازالت مستعمرتين ؟ وحقوق الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا وروديسيا كانت تُداسُ وتُهانُ من قِبل الأقلية العنصرية البيضاء ؟

كيف كان الماضي أفضلَ، ومطبخنا الجمني كان خاليًا تمامًا من البريك والطاجين واللوبية والملوخية وخاليًا أيضًا من لحم البڤري والعلّوش ومن أي نوع من الأسماك.

في قريتنا جمنة، قرية الخمسينيات، لم يكن فيها بانو ولا حمام، لا فرشاة ولا "دنتِفريس"، لا "جرّاية" ولا سرير، لا "سوناد" ولا "ستاڤ"، لا ياغورط ولا حلويات عربي أو سوري، لا ملعب ولا مسبح، لا تلفزة لامسرح لا سينما، لا مكتبة لا إعدادية لا معهد، فقط فيها كُتّابٌ ومدرسة ابتدائية وتلامذة للعلمِ متعطّشون ومعلّمون للجَدِّ والكَدِّ عاشقون.

في قريتنا قرية الخمسينيات، يوجدُ بين الأقارب والجيران حبٌّ وتزاورٌ ووئام، كان فيها سَكينةٌ وقطط وشياه ودجاج وغذاء صحي بيولوجي لذيذ طازج دون مصبرات، لاڤمي عذب وخوخٌ ورمان و"خوطة ودرڤيلة" ودفء وأمان.

وهمٌ والله وهمٌ، لكنه وهمٌ جميلٌ ومريحْ ! علاجٌ مسكّنٌ وليس دواءً نافعًا فيه شفاءْ. كرةٌ حديديةٌ تشدّنا إلى الوراءْ كلما حاولنا القفز إلى الأمامِ أو في الفضاءْ.

وهمٌ عمره خمسة وعشرون قرنًا أو أكثر، أي خمسة قرون قبل ولادة المسيح عليه ألف سلام، كان الفيلسوف سقراط يردد في عهده الغابِرِ نفس المقولة التي لا تموت "الماضي كان أفضل"، وكان يقول في كِبَرِهِ عن صغار عصرِه أنهم لا يحترمون الكبار وعن التلامذة أنهم لا يحترمون أساتذتهم عكس صغار الجيل الذي سبقهم.

مالَه الحاضرُ ؟ بْلازْمَا أُمُّ مِترَيْن وحاسوبٌ محمولٌ آخر موديلْ ومائدةٌ مغذّيّةٌ متعددةٌ شهيّةٌ وفلاسفة يؤنسونك على اليوتوب وعمرٌ تضاعفَ عددُ سنينه، أكثر ساعاته يقضيها أغلبية سكّان العالم مشدودين إلى شاشة تافهة ذات نوايا مفضوحَهْ. علمٌ تطورَ وطبٌّ تقدّمَ وآلامٌ حادّةٌ تقريبًا اختفتْ. حروبٌ عالميةٌ انتهتْ لكن صناعة اللسلاح ازدهرتْ. بُلدانٌ كثيرةٌ حُرِّرتْ لكن العديدَ من أولادِها بعد التحرير سُجِنوا أو شُرِّدوا أو صُلِبوا أو قُتِّلوا على أيدي محرّريهم من أبناء جلدتهم. تلامذة فاتوا أساتذتهم عِلمًا واطِّلاعًا. قِطاعٌ عٌموميٌّ هُمِّشَ وقطاعٌ خاصٌّ على أكتاف المهمّشِين ازدهر. قليلٌ أثرى وكثيرٌ تفقّرَ.  جهادٌ ماتَ وجهادٌ قامَ، الأول في سبيل الله والثاني ضد مشيئةِ الله وضحاياه من خَلقِه المستضعفين، ظلمٌ مسلّطٌ على المسلمين على أيدي أبناء دينهم الذين أتوا من كل الأوطان لتدمير سوريا وكأن شرًّين متمثلين في الأسدِ والشبلِ لم يكفياها.

مزايا العلم: تركيب أسنان، تلقيح، ارتفاع أمل الحياة، آلة غسيل واحدة للأأدباش وأخرى للصحون، حبوب منع الحمل، مسكنات، حاسوب، أنترنات، وسائل نقل، تبنيج، آلات رفع وحفر وجر، إلخ.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire