dimanche 22 mai 2022

الضريرة المستنيرة

  

وُلِدت سنة 1941 بقرية جمنة بالجنوب الغربي التونسي. كانت ثانية أخواتها، طفلة رقيقة وذكية تنعم بجميع حواسها، تجري وتقفز وتلهو في المنزل والحي مثل أندادها. أضفتِ الفرحة والبهجة على والديها وجيرانها. عندما بلغت 6 سنوات من عمرها، أصابها مرض الرمد، مرض بسيط، لو عُولجت طبيا وبسرعة لشُفيت منه تماما. لم يكن بالقرية آنذاك طبيب ولا ممرض. كان أبوها غائبا بتونس العاصمة لظروف العمل. أصبحت في يوم معلوم وعينيها كأنهما مصباحان مُطفآن.. بنتا ضريرة لا تميّز بالنظر بين أمها وأختها ولا ترى من الدنيا إلا هالة من نور وبعد سنوات يئسنا من شفائها وعرفنا أن ما في "الطِّبْ العَرْبِي" لم يكن دواءً وبقيت على هذه الحالة طوال حياتها.

رجع أبوها من السفر وعرف ما حلّ بابنته الصغيرة الجميلة البريئة فحملها فورا إلى تونس العاصمة وعرضها على الأطباء لكن لا علاج لما أفسده الجهل والتخلف والعادات البالية. عادت إلى حضن أمها الحنون ورضيت بما كتبه الله لها ولم تنقم على أمها ولا على المشعوذين الجهلة الذين نصحوا أمها. فقدت البصر ولم تفقد البصيرة. كبرت على الرضا بالمكتوب والتسليم بالقضاء والقدر بحُلوِه ومُرِّه. لم تشك لحظة في حب أمها وعاشت تحت جناح أرق وأجمل أم في الدنيا. غمرتها أمها بحب لا يوصف لكنها لم تميزها على إخوتها وأخواتها  لكثرة ما لهذه الأم من حنان وعطف لو وزعته على أمة محمد لَكَفَاهَا جميعا. وعندما يرق قلب الأم  على أولادها وترتفع بهم إلى سمائها، لا تخفى رقتها عن ذوي الأبصار المكفوفة فيتبعون خطاها من شذاها. لم تستسلم لقدرها رغم إيمانها القوي بما كتبه الله لها. كانت تقوم بكل شؤون المنزل من طبخ وكنس وخياطة رغم فقدان البصر. لا تكل ولا تمل ولا تمن علينا نحن إخوتها الصغار. كانت محترمة من القريب والجار لفطنتها وذكائها.

 لم يُرض هذا العيش الكريم طموحها فالتحقت وهي في سن الثلاثين بمعهد سيدي ثابت للمكفوفين أين تعلمت القراءة على طريقة "براي" و تعلمت حرفة النسيج. بعد التخرج، استقرت مع زميلاتها بمبيت معمل النسيج للمكفوفين بسوسة واشتغلت فيه سنوات تأكل من عرق جبينها.  كانت تعمل ثماني ساعات في اليوم وتتقاضى أجرا زهيدا يساوي خمسين دينارا في الشهر في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين. يخصم مدير المعمل من أجرها عشرة دنانير للأكل وعشرة للسكن. كانت راضية وقنوعة وسعيدة وفخورة بعملها الذي ضمن لها الاستقلالية والكرامة. كان أصحاب الخير يتبرعون لها ولزميلاتها بين الفينة والأخرى ببعض المال. يمتاز شهر رمضان في المبيت بطابع خاص، تُنصب فيه موائد الرحمان من عند الرحمان، فواكه ورمان و عسل و"بنان" وأصناف لذيذة من الطعام من صنع أهل سوسة الخيّرين. كان المشرفون المتطوعون يشاركونهن يوميا فطورهن ويعدّون لهن طعام السحور.

في يوم من الأيام المفجعة اندلع حريق هائل في مخزن معملهن فاشتعل القطن الاصطناعي، المادة الأولية التي يَصنَعْنَ منها المماسح (serpillières Les). حريق من نوع خاص، لا تطفئه خراطيم المياه، يحترق القطن الاصطناعي ببطء شديد دون انقطاع. لم تستطع الحماية المدنية إطفاءه. كان مرقد البنات يقع بجوار المخزن المحترق. دام الحريق أياما والحماية المدنية حاضرة نهارا غائبة ليلا ومن "فرط حرصها" على سلامة المكفوفين فقد أوصتهم بتبليغها هاتفيا لو زاد اشتعال الحريق. كيف يتأتى لكفيف أن يراقب حريقا عجزت عن إطفائه مؤسسة مبصرة مختصة في الحرائق ؟ ورغم ذلك راقبت الكفيفات الحريق بكل كفاءة. كان المخزن "قِبلتهم" في الليل وبخشوع المؤمن وقدسية الإيمان، كن مائة أذن ينصتن بصمت رهيب لصوت احتراق القطن الاصطناعي دون غمضة عين طوال الليل. تعرفون أن الأعمى يتمتع بحاسة سَمْعٍ مرهفة تفوق بكثير مثيلتها عند المبصر لأن مرونة مخه 

(La plasticité cérébrale

قد نجحت في تحويل وجهة الخلايا العصبية السليمة وغير المستعملة المكوِّنة للمركز العصبي للإبصار ووظِّفتها واستغلتها لخدمة حاسة السمع واللمس.  يقولون: ماذا تشتهي يا الأعمى ؟ فيردّ قائلا: قُفّة من العيون ! وأنا لو كنتُ مكانه لَقلتُ: قُفّة من الأوذان وأذرُعًا أطولَ لأسمع أكثر وألمس أكثر لأن عَينيَّ حتى ولو رجعتا فلن تجدا خلايا عصبية بصرية قادرة على إدراك ما تريانه.  عندما يرتفع صوت الحريق المتربص بحياتهن، يهرعن إلى سماعة الهاتف الموجودة في ساحة المعمل ويبلغن الحماية المدنية فتأتي سيارة الإطفاء لنجدتهن مؤقتا ثم يرجع العمال المبصرون إلى ديارهم تاركين البنات الكفيفات تحت رحمة قنبلة قد تنفجر فيهن في أي لحظة من الليل المظلم. ظلام تعوّدن عليه طوال حياتهن وبفضل إيمانهن بالحياة حوّلنه إلى نور داخلي يضئ بصيرتهن لكنهن لم يتعودن على مجابهة نور الحريق الكيميائي المستمر الذي قد يقضي على حياتهن جميعا.

لم تكن ظروف العيش في المعمل سيئة كما يتخيل المبصرون، كن معا يكوّنّ مجتمعا مغلقا على الخارج منفتحا على الداخل. يحتوي المعمل على مشغل فيه آلات للنسيج ومشرب يستقبلن فيه ضيوفهن ومطعما يتناولن فيه وجباتهن. تزوج بعضهن وبَنَينَ أُسرا وأنجبن أطفالا كالزهور مبصرين لأن فقدان البصر ليس مرضا وراثيا بل هو مرض مكتسب نتيجة سوء الظروف الصحية والمعيشية وقد ينتج أيضا عن إهمال مجال الطب الوقائي عندنا في العالم العربي.

كنت أزورهن عند مروري بسوسة وكن يرحبن بي بحفاوة كبيرة وكرم حاتمي. كانت بينهن ضريرة جميلة جدا، عيناها سليمتان وخضراوان (قد يكون الخلل الذي أصابها موجودا في المركز العصبي للإبصار أو في العصب البصري الذي يربط العين بالمخ)، قوامها رشيق وفكرها متقد وكبرياؤها في السماء. كنت أحاول مجاملتها والتخفيف عنها بذكر عبقرية طه حسين الأعمى وكانت ترد علىّ بكل سخرية لاذعة قائلة: طه حسين هو الشجرة التي حجبت الغابة، غابة معاناة العميان المصريين والتونسيين، طه حسين يمثل حالة محظوظة ومعزولة ولا يحق لنا تعميمها لخصوصية ظروفها وملابساتها، وجد في طريقه جامعة الأزهر حيث يمكن التعلم بالسمع دون الحاجة للكتابة ثم احتضنته جامعة السربون ومن حسن حظه عشقته امرأة فرنسية مثقفة فأعانته على إتمام دراسته وكانت له بمثابة العينين وتفرغت لقراءة الكتب له وحده.

لقد كنّ قنوعات بما يسّرت لهن  الدولة التونسية من مؤسسات بما فيها من ايجابيات وسلبيات. كان همهن الوحيد هو التقاعد بعد ما يبلغن الستين من العمر حين لا يقدرن على العمل ولا يجدن من يعيلهن في كبرهن.

لقد ناضلن من أجل هذا المطلب. قمن بمظاهرات ومسيرات بتونس العاصمة أمام الوزارة الأولى وأمام قصر قرطاج للمطالبة بتحسين ظروف العمل وضمان جراية عند التقاعد. فرّقهن البوليس أمام الوزارة الأولى. استقبلهن ممثل الرئيس في القصر ووعدهن بتبليغ مطالبهن المشروعة لسيادة الرئيس. كن ينسّقن فيما بينهن في سوسة قبل السفر إلى التظاهر بتونس العاصمة ثم يلتقين في دار اتحاد المكفوفين بالعاصمة. حضرتُ مرة لممثلتين منهن يدافعن عن مطالبهن في مقر الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بالعمران الأعلى بالعاصمة وقد صفق لهن الحضور لفصاحتهن وشجاعتهن.

بعد نضال مرير دام سنوات تحصلن على حق التقاعد لكن السلطات أغلقت المعمل لأسباب واهية فرجعت كل بنت إلى أهلها.

كان أجر التقاعد يساوي مرتين أجرهن أثناء العمل وقد وفر لهن نسبيا عيشا كريما يغنيهن عن ذل السؤال وفقدان الاستقلال.

فـ"إذا شاهدتم الأعمى فإياكم أن تقولوا له: إنه هو والليل شيئ واحد" (جبران)

ملاحظة: الضريرة المستنيرة، التي رويت لكم قصة حياتها باختصار وكل حرف كتبته فيها يرشح حبا واحتراما وإعجابا بمسيرتها النضالية، هي أختي الشقيقة فاطمة كشكار التي تعيش اليوم (2016) مع عائلة أخي الأصغر أحمد كشكار تحت رعاية ملاك اسمها عائشة بنت صالح (زوجة أخي) في قرية جمنة الحبيبة بالجنوب الغربي التونسي.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire