samedi 21 mai 2022

نساء مناضلات في "جمنة" الخمسينيات: أمي يامنة

 

قال المتنبي في جَدَّتِه:

"أحنّ إلى الكأس التي شَرِبتْ بها--- وأهوَى لمثواها الترابَ وما ضمَّا"

لم تضربني ولو مرة واحدة في حياتها ولم تنهرني ولم تَصِحْ يوما في وجهي عكس ما كان يفعل دومًا أبي. لم تلمني على ما فعلت في مراهقتي من تجاوزات في حقها ولم تشكرني على ما أديت من واجب نحوها. لم تقل لي بتاتا أحبك ولكنني كنت على يقين أنها تحبني حبا لا يوصف  وربما يكون الحب الوحيد في حياتي.

كنا خمسة أفراد في العائلة عندما مات أبي سنة 1967، أمي وأخت كبرى ضريرة وثلاثة أولاد، اثنان منهم في التعليم الثانوي وواحد في الابتدائي. عائلة دون عائل. لم تيأس ولم تمرّر لنا يوما بؤسها ومعاناتها. واصلنا تعليمنا وكأن شيئًا لم يحدث. كانت تقوم بشؤون البيت والسانية وتشتغل في نسيج "الحولِي" ليلا نهارا، صباحا مساءً وقبل الصباح وبعد المساء وليس لها يوم أحد. كانت تكسب من عملها ثلاثة دنانير في الشهر في الستينات. تعطيني منها دينارا واحدا، يكفيني مصروف ثلاثة أشهر في ڤابس. ست مائة ثمن تذكرة ذهاب وأربع مائة مليم أتمتع بهم أيام الآحاد عند الخروج من المبيت المجاني. أشتري "كعبة غْرَيْبَة" بـ"دُورُو" أو "حدوڤ لاڤمي" بـ"دُورُو" أيضا.

لا أذكر يوما خاصمَتْ فيه من أجلنا جارا أو جارة. لم تعلّمني أي شيء وعلمتني كل شيء. أحببتها في حياتها إلى درجة العشق وتقاسمت معها منحتي الدراسية عندما كنت طالبا وتكفلت بها نهائيا عند التخرج وشاركني أخي الأكبر وأخي الأصغر في إعالتها ورعايتها في آخر سنوات عمرها. بعد التخرج وعند التعيين اصطحبتها معي إلى جزيرة جربة للعيش بجانبي. لم تطق الإنبتات من قريتها الجميلة "جمنة" فاحترمتُ رغبتها. ومن أجل عيونها بنيتُ لها حجرة محترمة في منزلنا القديم.

لا تكتب حرفا ولا تقرأ كلمة ومن تُربي أجيالا لا يليق بنا أن نطلق عليها صفة أمية. لم تتأثر لا من بعيد ولا من قريب بالثقافة الأجنبية فهي تعبير عميق عن ثقافة تونسية بربرية عربية إسلامية وطنية خالصة.

ماتت الغالية وتركت لنا إرثا كبيرَا: "عديلة" من سعف النخيل وستة أوتاد منسج حديدية (مْلازِم مِنْسِزْ). أوصتْ بثروتها لجارتَيها. نفذنا وصيتها حرفيا: العديلة لِـ"لَلْتِ امنِي" والأوتاد لِـ"لَلْتِ الزينة".

لم تكن أمي حالة فريدة من نوعها في ذلك الزمن ومثيلاتها والحمد لله بالمئات في قرية "جمنة" وفي كل مدن وقرى تونس الحبيبة.

الهامش:

المرحومة أمي، اسمها يامْنَه بنت احْمِدْ بن احْمُودَه.

"جمنة": مسقط رأسي، قرية جميلة تقع في الجنوب الغربي التونسي.

"الحولِي": نوع من الكساء الرجالي الصوفي الخارجي الأبيض (يشبه البرنس عندنا)، يُصنع في الجنوب التونسي ويُصدّر إلى ليبيا.

"عديلة": قفة كبيرة من سعف النخيل تصلح لجلب الحشائش أو التمور من السانية. نحملها على الحمار أو على الظهر.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire