المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة" (2016).
الله يرحم أبا تمام:
نقلْ فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ
كمْ مـنزل في الأرضِ يـــألفه الفتى ... وحـــنـــيـــنـــُه أـبــــداً لأولِ منزلِ
يسعدني أن يكون الجزء الذي ساهمت به في تأليف هذا الكتاب حول جمنة بمثابة سيرة ذاتية وغير ذاتية وموضوعية وغير موضوعية في الوقت نفسه لأن الفرد يبقى ابن بيئته عاطفيا وتربويًّا مهما حاول التموقع خارجها أنتروبولوجيًّا (دراسة ثقافة الإنسان) وإبستمولوجيًّا (دراسة المعرفة) كما فعلتُ في المحور الأول من هذا المؤَلَّف المعنوَن "فن العيش في جمنة الخمسينات". هي نظرة بَعدية لفترة حياتي بجمنة وليست سردا لقصة حياتي الخاصة، وهي تؤرخ لجيلي أو لجزء منه، مواليد الخمسينيات تحديدا. ومن هذا المنظور فأبطال القصص القصيرة في هذا الكتاب (أنا، أمي، أختي، جاري، حافظ الأمانة، أعضاء "جمعية حماية واحات جمنة")، يصبحون لا أهمية لهم في حد ذاتهم، وإنما تكمن أهميتهم في مدى ما تلقيه من ضوء على تحول جمنة المادي والحضاري. جمنة هنا هي بمثابة الشجرة التي تكشف عن عالم، عالم احتله وحش العولمة الرأسمالية واغتال فيه الإنسان ودمّر قِيَمَه وبِيئَتَه. لذلك استبعدتُ كل الوقائع والتفاصيل التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتطوري الفكري الشخصي.
ومع هذا فالكتاب يتعرض لحياتي أنا، فأنا الذي عشت قصصه وعايشت أبطاله فردا فردا، وطرحت ما طرحت من نقد وتساؤلات وإشكاليات حول جمنة واستوعبت ما استوعبت من دروس من "جامعة جمنة المفتوحة". فإذا كان هذا الكتاب سيرة غير ذاتية، فهو أيضا سيرة ذاتية، سيرة مواطن جمني تجاور العالَمي بالجمني والعام بالخاص في فضاء حياته وتفاعل مع بعضهما.
جمنة قرية جميلة مزروعة في الجنوب الغربي التونسي. أعشقها. ولِدتُ فيها سنة 1952. أول هواء ملأ رئتيَّ الصغيرتين هواؤها، وأول أرض وطئتها قدميَّ أدِيمُها، وأول قطرة روت عَطَشِي زُلالُها من "العين الجديدة"، وأول شجرٍ أظلني من حر الشمس ظلُّ نخيلها. لهوتُ في أزقتها وجبتُ واحاتها في القائلة "الصنڤارية"، شبعتُ من ثمارها وتمرغتُ في ترابها وكبرتُ تحت شمسها، حفظتُ جزء "عمّ" في كُتّابها وزرتُ زواياها وتبرّكتُ بأوليائها، وأول حرف كتبتُه كان في مدرستها. تنشقتُ عطرها وتحمّمتُ بتراثها وتنشفتُ بنورها وما زالت تلاوة البردة في الجامع القديم ترن في أذني وتسكن قلبي حتى الآن. قرية تتمتع تقريبا بمرافق المدن العصرية، لم تلوّثها المدنية بسلبياتها وما زالت تحافظ على أخلاق الريف الأصيلة من جيرة طيبة وكرم وصدق ووفاء وعدم رياء، يتميز أهلها بالتزاور والتكافل والتحابب وعدم التكبّر والبساطة في الملبس والمأكل والمسكن، وبحول الله سيواصلون نبذ القبلية والعروشية والعصبية الحزبية والإيديولوجية ويحافظون على قيم التسامح في العلاقات البشرية ويرحبون بالضيف ولا يقصون الآخر مهما كان هذا الآخر متطرّفا يمينا أو شمالا.
إنه حبٌّ وجوديٌّ خاص، حبٌّ ربطني بمسقط رأسي جمنة من خلال علاقة حميمة عمودية رفيعة وذاتية، متميزة بيني وبينها ولوحدنا فقط. قرية ناسها أبرار وحتى مجانينها عقلاء (الساسي بِنِحْمِدْ، نموذجا)، أما نساؤها فهن على قدر عزيمة رجالها أو أكثر. هي الأم والموطن والوطن وهي التاريخ والهوية. مَن خانها فكأنما خان وطنه ومَن شتمها فكأنما شتم نفسه ومَن مجّدها فله ثواب في الدنيا والآخرة. تقرأ تراثها فلا تجد فيه إلا المآثر. كل ما فيها، على أي وجه من الوجوه هو رائع. فيها الفقر والغِنى، والحب والإيمان، والبِرّ والإحسان، والتوادُد والتضامن، والتسامح والكبرياء، والقناعة والعفة وفيها أيضا يتعايش بسلام المحافظ والمتحرر، والجمني يبقى في داخله جمني مهما يسَّر (اليسار) أو يمَّن (اليمين). يَفنى في حبها ولا يبالي، الرجل والمرأة على السواء، الطفل والشيخ، الفتى والكهل. يجمعهم كلهم حب خالص لجمنة. وقد يظن مَن لا يعرفها من القرّاء أنني في رسمها أجامل، فيكون ظنه كبعض الظن إثما. كاتبكم من أحباء الحياة فهو بالضرورة من عشاق جمنة. عندما أزورها أستغني عن البصر والبصيرة فتقودني في أزقتها وحدها ذكرياتُ الشباب والطفولة. منذ سنة 1990، حملتُ حبّ جمنة وانتقلتُ بحملي للاستقرار نهائيا بحمام الشط.. "والحب إذا بَعُدْ لا يمكن أن يَمْحُه أحَدْ. لكن عذاب الفراق جعلني أقرّر وأصبر. والصبر دواء، تعلمتُ أن أتجرّع هذا الدواء في كل الأوقات، وكنتُ أشفَى ! سوف أقولها وأرددها بعد الحياة: حَبِلْتُ بحبك مُذ نَزَلْتُ ولم أضَعْهُ حتى رَحَلْتُ" (من وحي عبد الرحمان منيف، شرق المتوسط، 1993).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire