mardi 17 mai 2022

مفهوم الجودة حسب "المواصفات العالمية": هل هو وهم كبير أم كلمة حق أُريدَ بها باطل أم هو استعمار غربي ناعم وسائل لدول العالم الثالث ؟ جمنة نموذجا ؟

 

سأضرب لكم عدة أمثلة مما عايشتُ:

1.    في مسقط رأسي، قرية جمنة بالجنوب الغربي التونسي التي تقع بين مدينتي ﭬبلي ودوز وتتميز حسب رأيي بنمط عيش فيه شيء من الرقة والجمال والتحضر والثقافة والسياسة والتعايش السلمي بين القبائل والعروش المختلفة. كان السكان في الخمسينيات يبنون بيوتهم بـ"الطُّوبْ" أو "الفَنْكَر" (مواد محلية للبناء تُستخرج من الأرض، حجر رملي متماسك قليلا وسهل الانكسار وسهل الاستخراج من مقاطع القشرة الأرضية السطحية) ويطلونها بالجبس أو "الروبي" (L`argile verte). كان سُمك الجدار عندنا يبلغ تقريبا 50 صم. كانت بيوتنا مكيّفة طبيعيا، باردة في الصيف ودافئة في الشتاء لأن سُمك الجدار يمنع دخول حرارة الشمس في الصيف ويمنع دخول الهواء البارد في الشتاء. كان البيت التقليدي يصمد أكثر من قرن ولا يكلف صاحبه إلا القليل من المال مقارنة بالبيوت الأسمنتية الجديدة. تطورنا في هذا الحقل ويا ليتنا ما تطورنا، أصبحنا نبني منازل بالحديد والأسمنت مثلنا مثل سكان مدن تونس وصفاقس وبنزرت، فأصبح البيت لا يُطاق في الصيف إلا باستعمال المكيف ولا يُحتمل في الشتاء إلا باستعمال السخّان الغازي أو الكهربائي. انظر وتمعّن واحسب ماذا ربحنا وماذا خسرنا من مال وراحة وطاقة ! والأخطر من هذا هو أن السقف المسلح (الدالّة) لا يصمد طويلا ضد ضربات الشمس الجنوبية الحارة فيتشقق ويصبح السكان في خطر ويصبح البيت الجديد آيلا للسقوط بعد بضع سنوات من تشييده. هذا ما جناه علينا البِناء "حسب المواصفات العالمية" ولم نجن على أحد. ما بال المواصفات العالمية وما بالنا، فلترحل كما رحل بن علي وتتركنا في حالنا متعايشين سعداء آمنين مع "مواصفاتنا الجمنية" في البناء والتشييد !

معلومة: إسرائيل تعيد الآن إحياء واستعمال البناء السكني التقليدي بـ"الطوب" لتعمير صحراء النقب المحتلة حسب "مواصفات إسرائيلية" وليست عالمية (حديث: "اطلب العِلمَ ولو في الصين").

2.    في مسقط رأسي ثانيا، وخلافا للمواثيق الدولية و"مواصفات حقوق الإنسان العالمية" التي تحرّم تشغيل الأطفال حتى من قِبل أوليائهم، يشغّل الوالدان الجمنيان أبناءَهم جنبهما في الواحة بكل عطف وحب وحنان: واحد يجمع التمور بيسر من تحت جذع النخلة وواحد يقطع الحشائش الخضراء علفا للماعز والحمار وواحد يوزع كؤوس الشاي على العملة. يشتغل الأطفال وهم يضحكون ويلعبون دون قهر أو عناء كبير، يشتغلون "حسب المواصفات الجمنية" التي لا تتنافى في روحها مع "المواصفات العالمية" وتحترم حقوق الطفل في الصحة والتعليم والترفيه.

3.    في مسقط رأسي ثالثا، وفي الخمسينيات من القرن 20، أيام انعدام وجود الروضات أو "سجون الأطفال الحديثة الناعمة"، كنا نلعب ونلهو وحدنا دون كهل رقيب، نصنع لعبنا بأيدينا ونطبق من حيث لا ندري نظرية العلِماء مونتيسوري وبياجي وفيڤوتسكي في المدرسة البنائية: نبني معرفتنا بأنفسنا بالتفاعل مع محيطنا وأقراننا دون الحاجة لشراء لعبِ باهظة الثمن ودون التقوقع داخل روضة مُحكمة التسييج الأسمنتي المسلح تحت إشراف منشط غير مختص في تنشيط الأطفال، منشط لم يتخرج من أي كلية تنشيط. يا ليتنا لم نتطور هذا التطور السلبي ويا ليتنا لم نضع أولادنا في "جنات أطفال" أشبه بسجون وأبعد ما يكون عن تربية الأطفال ويا ليتنا حافظنا وطبقنا "مواصفاتنا الجمنية" في التربية، مواصفات أيّدتها النظريات التربوية الحديثة وخاصة نظرية مونتيسوري وبياجي وفيڤوتسكي التي تقول أن الطفل قادر على بناء معرفته بنفسه لو هيأنا له الظروف المناسبة ومن حسن حظنا في جمنة أن ظروفنا الطبيعية مهيأة دون تهيئة لكثرة الفضاءات الفارغة والآمنة قرب المنازل، امتياز ريفي تفتقده المدن.

4.    في مسقط رأسي رابعا، وفي الخمسينيات أيام انعدام وجود الروضات، كنا ندخل الكتّاب في سن الثالثة أو الرابعة لحفظ القرآن وكنا نحفظ منه جزء "عمّ" دون فهم معاني الألفاظ والسور أو إدراك المجاز القرآني الغني بالحِكمِ والعِبرِ والقِيم الكونية. نتخرج من هذه الجامعة الصغيرة بزاد لغوي ونطق سليم، زادٌ نستوعبه في الصغر ونستعمله ونوظفه أحسن توظيف عند مرحلة الفهم. وهذا آخر ما توصلت إليه النظريات العلمية الحديثة وسمّوه "الحمام اللغوي" وسميناه نحن "حسب المواصفات الجمنية" "تلقين القرآن الكريم منذ الصغر".

5.    في مسقط رأسي خامسا، وفي الخمسينيات أيام انعدام وجود الفضائيات، كانت حقوق المرأة الجمنية مضمونة "حسب مواصفات جمنية محلية" وليس "حسب مواصفات عالمية مستوردة". كانت المرأة تعمل في الحقل جنبا إلى جنب مع الرجل، تحيّي الجيران نساء ورجالا وترد التحية بأحسن منها على جيران الحقل من الرجال. تخرج يوميا إلى العمل باكرا بعلم زوجها أو دون إذنه إن كان غائبا عاملا مهاجرا في فرنسا. تستقبل الضيوف من أقاربها وجيرانها ومعارفها، نساءً ورجالاً، في حضور زوجها أو في غيابه، تقوم بأصول الضيافة التونسية الريفية على أكمل وجه وتقدم لهم الشاي أو الطعام وتتحدث معهم في شؤون الحياة وتعقد معهم -إن لزم الأمر- الصفقات في مجالات الفلاحة والبناء. يستشيرها زوجها في الصغيرة والكبيرة، في خطبة البنت والولد وفي دراستهم الجامعية. لنا نساء معروفات بالحكمة وأخريات بالشدة والصرامة وأخريات بالطب التقليدي العربي وأخريات بالتجارة وإدارة الأعمال الصغرى. لنا طبيبات ومحاميات ومهندسات وأستاذات ومعلمات وممرضات وزوجات محصنات وبنات عازبات يعملن جنبا إلى جنب مع الرجال ويتنقلن في الطائرات والبواخر إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وتونس ويتنقلن في سيارات الأجرة وحافلات النقل العمومي وشاحنات النقل الريفي المزدوج إلى دوز وڤبلي.  يصافحن الرجال الأقارب والجيران والمعارف باليد أما صاحبات وجارات وقريبات أمي وأندادها، فكنّ يحضنّني ويحضن أولاد الجيران الشباب العائدين من غربة الدراسة أو غربة فرنسا كما تحضنني أمي أو أكثر. نساؤنا يتجولن سافرات بين المنازل في حينا الصغير المغلق (زنڤة حادة). يجلسن على حدَة في الأعراس غير بعيد عن جمع الرجال ويزغردن بالصوت العالي. في عيد الأضحى والعيد الصغير، كنا أطفالا وشبابا، نطوف نصف البلاد نعيّد بالمصافحة باليد والخد على قريباتنا وجاراتنا ومعارفنا من أقران أمهاتنا. تنوب الأم زوجها الغائب في فرنسا في كل ما يخص أولادها ولا تحجب نفسها ولا تهمل تربية أولادها، وللضرورة تخرج إلى الشارع غاضبة صائحة لنجدة صغارها وحمايتهم من الاعتداءات الجسدية. مات أبي وأنا في سن الخامسة عشرة وكان لي في المنزل أخوان وأخت ضريرة، ربتْنا أمي يامنة أحسن تربية وتعبت في خدمة شؤوننا أكثر مما قد يبذله  أعتى الرجال وكان العُرف السائد في قريتي ألا تتزوج الأرامل ويتنازلن بإرادتهن عن حقهن المشروع في ذلك حفاظا على مشاعر الأبناء وتماسك الأسرة.

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire